آخر تعاطف عربيّ رسميّ واضح مع الفلسطينيين كان في بدايات انتفاضة الأقصى (أواخر العام 2000)، نقلت القنوات العربية الرسمية المشهد الحيّ لاستشهاد الطفل محمد الدرّة وهو في أحضان أبيه الذي يصرخ "مات الولد"، ورصاص الجنديّ الإسرائيلي يقصد قطعا قتل الولد! كان المشهد كاشفا للطبيعة الإسرائيلية؛ التي تنعكس في ملاحقة جنودها للفلسطينيين وكأنّهم طرائد صيد.

لم تكن المقالات بعدُ تُدبّج في مديح الإسرائيليين وذمّ الفلسطينيين "المغامرين المضيّعين لفرص السلام مع حمامته الأليفة إسرائيل"، في هذه الأجواء اشتهرت الأغنية العربية الجماعية "الحلم العربي" التي أخذت تبثها القنوات العربية بكثافة بالرغم من إصدار الأغنية في وقت سابق، وذهبت بعض الحكومات العربية إلى ما هو أكثر من ذلك بجمع التبرعات للفلسطينيين في غمرة الحرب من على قنواتها التلفزيونية الرسمية.

لم تكن الحكومات العربية في وارد دعم الفلسطينيين حتى النهاية في مقاومتهم لتحقيق إنجاز سياسيّ يستثمر في الانكشاف الإسرائيلي الإجرامي في مطالع انتفاضة الأقصى، بعدما أخذت "إسرائيل" تحصد المتظاهرين الفلسطينيين العزل على حواجزها التي تُقطّع بها جغرافيا الضفة الغربية، ولا في الملحمية الفدائية الفلسطينية التي تكثفت في تلك الانتفاضة. مياه كثيرة جرت أسفل الجسر العربي منذ غزو صدام حسين للكويت (1990/ 1991)، والاندفاعة العربية الجارفة للتصالح مع "إسرائيل" من بعد مؤتمر مدريد (1991) وتوقيع اتفاقية أوسلو (1993)، ثمّ ما تلا من زحف تطبيعي مثير أخذ أشكالا متعددة بين معاهدات السلام إلى المكاتب التمثيلية والتجارية إلى فتح المجال للقاءات الرسمية أو السياحة المقننة طوال عقد التسعينيات.

لكن على أيّة حال بقي قدر ما من التعاطف الظاهر، يمليه الموقع العميق للقضية الفلسطينية في الضمير العربي، والذي ولا بدّ وأن تعبّر عن الحكومات العربية بشيء من البلاغة الشكلية. إلا أنّ هذا الجانب التعاطفي في أبعاده الإنسانية والعروبية والدينية، بدأ بالسقوط، مع عمليات 11 أيلول/ سبتمبر 2001؛ بعدما تبيّن أنّ منفذيها الـ19 ينحدرون من البلاد العربية (15 من السعودية، واثنان من الإمارات، وواحد من مصر، وآخر من لبنان)، وهكذا كان لا بدّ للحكومات العربية أن تنحني للعاصفة الأمريكية التي أعلنت عزمها تغيير الشرق الأوسط، وتحوّلت هذه الانحناءة إلى عقيدة ثابتة، والثمن المدفوع، كما العادة، لكسب ودّ واشنطن، هو من القضية الفلسطينية.

حالة المقاطعة العربية لـ"إسرائيل" انتهت، وبعض الصور للانتقال عنها، كانت في الاتفاقيات الإبراهيمية، المبرمة في ولايتي ترامب ونتنياهو السابقتين والمتزامنتين. وإذا كانت هذه الاتفاقيات قد أظهرت موقفا تحالفيّا بين حكومات عربية و"إسرائيل" تتخلّص به تلك الحكومات نهائيّا من أيّ التزام، ولو في الحدود الخطابية، تجاه القضية الفلسطينية، فقد صار لكلّ حكومة ممّا تبقى من الحكومات العربية تواصلها الخاص بـ"إسرائيل"، وبعبارة أخرى: صار التواصل مع "إسرائيل" الأمر العاديّ الطبيعي، ودعم الفلسطينيين الأمر الاستثنائي الغريب.

"طوفان الأقصى" كما هو الحال مع أيّ حالة نضالية وكفاحية للفلسطينيين، كان على الضدّ من ذلك تماما، ربما حتّى الوجود الفلسطيني في ذاته محلّ تضادّ مع هذا المسار العربي العميق في التخلّص من فلسطين وأهلها، ومن ثمّ، وفي حين أنّ "طوفان الأقصى" وفّر فرصة جادّة لموقف عربي أفضل إقليميّا ودوليّا، فإنّه من غير المتوقع أن تُرحبّ الحكومات العربية بفرصة لمسار غير مألوف لها نفسيّا وعقليّا.

مسار فيه لغة جديدة، غير تلك اللغة التي ظلت الحكومات العربية تحترفها منذ مطالع التسعينيات، حتى اتحدت بها تماما، ولم تعد قادرة على رؤية العالم إلا من خلالها، لغة ليس فيها أيّ مفردة للمواجهة والصمود، ولو في مستويات التحدّي السياسي والدبلوماسي لا غير، ولو بالثبات خلف المبادرة العربية للسلام، المجحفة لا شكّ بالفلسطينيين. حتى هذه المبادرة لم تعد حاضرة في التداول السياسي العربي.

من هذا المسؤول العربي الذي يرغب في أن يصدق أنّ "إسرائيل" يمكن هزيمتها؟! ومن هذا المسؤول العربي، على الأقل في النخبة العليا في الحكومات وصناع القرار الأساسيين فيها، الذي يرغب في أن تعود الدول العربية إلى الالتزام بالقضية الفلسطينية ولو حتى التزاما خطابيّا من شأنه أن يعبئ مجتمعاتها من جديد بتبنيها، بعدما أنفقت بعض هذه الحكومات الكثير في تمويل الدعايات المشيطنة للشعب الفلسطيني كلّه، كما ظهر في الحملات الإلكترونية والصحفية منذ العام 2017؟!

هذه الحملات اضطرت أخيرا لأن تُراعي لحظة الإبادة، فتحصر هجومها على الفلسطينيين في حماس والمقاومة الفلسطينية، في تباك كاذب على الشعب الفلسطيني، فمن اتهم الفلسطينيين من قبل بلا استثناء "ببيع أرضهم لليهود" و"نكران الجميل" و"تخريب البلاد العربية"، ومن زاد على ذلك بتبني السردية الصهيونية للصراع، أو الحطّ من المكانة الدينية للمسجد الأقصى، هل هو متعاطف بالفعل مع الشعب الفلسطيني غير أنّ مشكلته فقط مع حماس "التي جلبت الإبادة لشعبها بمغامرتها غير المحسوبة"؟! وإن كان هذا هو الموقف الحقيقي لهذه الحكومات لماذا لم تفعل أيّ شيء جادّ لوقف الإبادة؟! أم أنّ ما كشفه بوب ودورد في كتابه "الحرب" صحيح، من حيث إنّ عددا من الحكومات العربية دعمت القضاء على حماس؟! وقد تبين أن طريق القضاء عليها هو إبادة شعبها.

لكن ما الفرصة التي أتاحتها السابع من أكتوبر؟!

ما كشفته عملية حماس في السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، عن محدودية القوّة الإسرائيلية، كان من شأنه أن يقوّي موقف الدول العربية حتى في علاقتها بـ"إسرائيل" علاوة على موقعها (أي الدول العربية) في السياسات الأمريكية الإقليمية والدولية، بحيث يكون لهذه الدول شرطها وكلمتها، وبما يوفّر لها مساحة للاستفادة من القضية الفلسطينية، من خلال مستويات من الدعم تحيي القضية الفلسطينية، وتعيد العرب للحديث باسمها، مما يسمح بأن يكون هذا الموقف المستأنف أداة ضغط وتحسين للشروط والمواقع في العلاقات الدولية والإقليمية.

وإذا كانت دعاية الحكومات العربية خلال العقدين الأخيرين، تُقدم فلسطين بوصفها موضوعا للاستثمار الإيراني، فقد كان يمكن لهذه الحكومات قطع الطريق على إيران، بالتقدم لمزاحمتها في العودة لتبني القضية الفلسطينية، وإذا لم يكن ذلك بغرض مبدئيّ، فليكن بغرض مصلحي متبادل بين الفلسطينيين والحكومات العربية!

أخيرا، وبعدما تأكّدت صحة الرؤية التي ترى في "إسرائيل" الخطر الحقيقي المركزي القابع في قلب المنطقة العربية، وأن الغفلة عنه والتحالف معه، حوّله إلى وحش متعاظم، لا يُفكّر إلا بمنطق الهيمنة، والتي تأخذ في بعض صورها شكل الاحتلال المباشر، ولا تخفي أطماعها في الأراضي العربية القريبة منها، فقد تأكد في نتيجة لذلك، أنّ مقاومة الفلسطينيين وحدها المتراس الأوّلي لصدّ الخطر الإسرائيلي، ومن ثمّ تصبح هذه المقاومة جزءا من خطة الأمن القومي العربي، وفي الوقت نفسه موضوعا لتحسين المواقع والشروط السياسية العربية.

الذي يحصل الآن غير ذلك تماما، فمن جهة، وبعد الهجوم الدعائي لعدد من الحكومات العربية على بنيامين نتنياهو، الذي دعا ساخرا لإقامة دولة للفلسطينيين في المملكة العربية السعودية، والرفض الظاهر لخطة ترامب لتهجير سكان قطاع غزّة، تعود الحكومات العربية للهجوم على حركة حماس، والتخطيط لإقصائها عن المشهد الفلسطيني، وهذا راجع لسببين اثنين:

السبب الأوّل استنتاجها الخاطئ، على الأقل بعضها ولا سيما في الخليج، من التحوّلات الإقليمية، باعتقادها أنّ إيران الخاسر الوحيد من هذه التحولات بعد الحرب في لبنان وسقوط نظام الأسد في سوريا، وهو ما يكشف عن فهم مشوّه لديها عن القضية الفلسطينية، التي هي موجودة بشعبها ومقاوماتها المتصلة والعابرة للزمان والتوازنات الإقليمية وحتى للتيارات السياسية والأيديولوجية الفلسطينية، وهذا يعني أنّ هذه الحكومات لا تنظر للقضية الفلسطينية قضية قائمة بنفسها معبّرة عن مظلومية شعبها، وإنما تنظر إليها بوصفها مادة للاستثمار الإيراني لا غير، وفي حين أنّ ضمور النفوذ الإيراني ينبغي أن يُخلّص هذه الحكومات من وهم إمكان التحالف مع "إسرائيل" لمواجهة إيران، فإن استنتاجها معاكس تماما.

السبب الثاني؛ هو ما سبق ذكره، فهذه الحكومات بنخبها العليا نشأت خلال الثلاثين سنة الأخيرة، على التطبع الكامل مع الوجود "الإسرائيلي" والسعي الحثيث للتخلص من القضية الفلسطينية، وقد ترسخت على أساس ذلك سياسات وعلاقات وتحالفات ومصالح سرّية وعلنية. والمؤكد أن طول أمد هذا المسار، يحوّل السياسة إلى ما يشبه العقيدة، بحيث يصعب التخلص من حضورها العميق المهمين على العقل والقلب، وبما يجعل التحوّل نحو مواجهة "إسرائيل" مسألة تحتاج فائض عقل وشجاعة وأخلاق ورؤية طموحة، وذلك كلّه ذوّبته العقود الثلاثة الأخيرة حتى لا يكاد يُرى منه شيء.

x.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الفلسطينيين العربية الإسرائيلي تطبيعي الاحتلال إسرائيل احتلال فلسطين غزة تطبيع مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة مقالات اقتصاد سياسة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة القضیة الفلسطینیة الحکومات العربیة هذه الحکومات التی ت

إقرأ أيضاً:

الحشد العربي والإسلامي لدعم القضية الفلسطينية

 

تؤكد دولنا العربية والإسلامية على موقفها الثابت والرافض لتهجير الشعب الفلسطيني من أرضه بأي طريقة وأي أسلوب، ورفض أي مقترحات تفضي إلى إجبارهم على التخلي عن حقوقهم المشروعة، وهو موقف يسجله التاريخ انطلاقًا من دعم القضية الفلسطينية وحق الأشقاء في إقامة دولتهم المستقلة.

وبعد أن اجتمعت القمة العربية في القاهرة والتي شهدت الموافقة على الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة، عقدت منظمة التعاون الإسلامي الدورة الاستثنائية لمجلس وزراء الخارجية في مقرها بجدة، ليتبنى الاجتماع الوزاري الطارئ الخطة المصرية لإعادة إعمار غزة.

وتأتي هذه المواقف العربية والإسلامية جنبًا إلى جنب مع الجهود الدبلوماسية المبذولة من قبل هذه الدول، وخاصة من الوسطاء في مصر وقطر، أملًا في إنهاء المعاناة التي يعيشها الفلسطينيون والانتقال إلى مرحلة جديدة يسودها السلام والإعمار ورد الحقوق إلى أصحابها وفقًا للقوانين والمواثيق الدولية.

وبلا شك، فإنَّ ما نشهده من حراك وحشد للموقف العربي والإسلامي هو أمر ضروري لمواجهة أي خطط أخرى تريد السيطرة على الأراضي الفلسطينية لتحقيق أوهام استثمارية واستعمارية، وهو أمر لن يقبله أصحاب الأرض ولن تقبله دولنا العربية والإسلامية.

إنَّ هذه المواقف التي أعلنتها الدول العربية والإسلامية، تشير إلى وحدة الموقف والتمسك بحق الأشقاء الفلسطينيين في البقاء على أرضهم، وتجسد مدى الانسجام الكبير بين دولنا العربية والإسلامية فيما يتعلق بقضيتنا الأولى وهي القضية الفلسطينية.

مقالات مشابهة

  • انطلاق بطولة “طوفان الأقصى” الرمضانية لفئة الشباب في مديرية الوحدة
  • انطلاق بطولة “طوفان الأقصى” الرمضانية للشباب في مديرية الوحدة
  • تحقيقات طوفان الأقصى تضع الشاباك في مواجهة نتنياهو
  • لماذا لا يمكن للسلطة الفلسطينية وقف التنسيق الأمني مع إسرائيل واختيار المقاومة؟
  • إعلام العدو: أكثر من 10 آلاف جندي خرجوا من الخدمة منذ طوفان الأقصى
  • تحقيقات طوفان الأقصى.. الشاباك في مواجهة نتنياهو
  • الحشد العربي والإسلامي لدعم القضية الفلسطينية
  • البرلمان العربي ينوه بالإسهامات التي حققتها المرأة العربية على كافة الأصعدة
  • قيادي بحماس: لولا طوفان الأقصى لأصبحت فلسطين مثل الأندلس
  • يوم المرأة العالمي.. استشهاد أكثر من 12 ألف فلسطينية منذ "طوفان الأقصى"