فضيلة الستر، حين تسمو الإنسانية فوق زلات البشر.
تاريخ النشر: 18th, February 2025 GMT
د. الهادي عبدالله أبوضفائر
في تلك الأيام التي كانت تفوح بعطر البساطة، حيث يمتزج أريج الذكريات بنسيم الصباح، كانت الحياة تنساب بإيقاعها الهادئ، بعيداً عن تعقيدات الزمن المتسارع. كان العمدة دلدوم يسير بخطوات واثقة، تحيط به ثلة من أبنائه، الذين ألفوا المغامرة حتى غدت جزءا من حياتهم، كأنما نُسجت ملامحهم من قصص الأرض وأسرارها.
في خضم السكون الذي لفَّ المكان كوشاحٍ ثقيل، لمحوا تيساً يمر بالقرب منهم في غير اكتراث، كأن الأرض وما عليها لا تعنيه. ارتفع صوت العمدة دلدوم متهدجاً لكنه نافذ كالسيف: (اذبحوا التيس). كان أمره قاطعاً لا يُرد، وحين يأمر العمدة، فلا مجال للجدال. سرعان ما تصاعدت رائحة اللحم المشوي، دافئة، شهية، لكنها حملت في طياتها نذيراً خفياً. لم يكن أحد يعلم أن تلك الوليمة العفوية ستُشعل ناراً أعنف من نار الشواء، وأن الريح لا تأتي دائماً بما تشتهي السفن، بل بما يخبئه القدر من مكائد صامتة. على الجانب الآخر من القرية، كانت الحكّامة أم زيرقون تطأ الأرض بخطواتٍ قلقة. امرأة لا يُخطئها أحد، صوتها الذي اعتاد أن يُؤرّخ للأحداث لم يكن ليصمت أمام الظلم. حين أدركت أن تيسها الوحيد قد اختفى، استبدّ بها القلق، وتتبعت أثره كصيّادة خبرت تقلبات الزمان. وكان حدسها الذي نادراً ما يخذلها قادها نحو التبلدية. لم يكن المشهد بحاجة إلى تفسير، رأت جلد التيس معلقاً كراية نصر، واللحمة ما زالت (تجكجك) في النار، تشهد على فعل لم يكن يليق بالعمدة وأبناءه. فبدت المفارقة قاسية؛ رجلٌ كان رمزاً للهيبة والقوة، أصبح الآن طرفاً في فضيحة لا تليق باسمه. لم تتردد الحكّامة، فالغضب حين يستيقظ في قلب امرأة مثلها لا يُسكته شيء. أدارت وجهها نحو بيت العمدة تورشين، الرجل الذي يُحكم بين الناس حين تتشابك الحقوق وتتعقّد الحكايات.
لكنّ أبناء دلدوم، لمحوا الحكّامة وهي تبتلع المسافة بينهم وبين بيت العمدة تورشين، شعروا أن العاصفة قد بدأت تتشكّل. ركضوا إلى العمدة دلدوم يُنبئونه بالخطر القادم، نهض متوثباً كمن استعاد جزءاً من هيبته، شدّ جلابيته، وانطلق في إثرها ليُطفئ ناراً ربما كان يعلم أنها لن تُخمد بسهولة، دخلت الحكّامة كإعصارٍ غضوب. لم يكن في صوتها مساحةٌ للتردد حين نادت بقوة: (يا أبوي العمدة! شوف فضيحة أخوك دلدوم وأولاده، سرقوا تيسي! الآن اللحمة في النار!)، أدرك العمدة أن الأمر لم يكن مجرد خلافٍ عابر على تيسٍ ضائع. بل الأمر يمسُّ الهيبة، والعدالة، ويخدش تاريخاً طويلاً من الكبرياء، وقد بدأت خيوط المواجهة تتشابك. لكن العمدة تورشين كان رجلاً حكيماً لا يترك للأمور أن تأخذه على حين غرة. تأمل الحكّامة بهدوء، ثم سألها ببرود: (بكم تبيعين التيس؟) فردّت، (التيس تمنو عشرين قرش) ابتسم العمدة ابتسامة من يعرف كيف يخرج من أضيق المآزق، وقال بحزم: (خذ ده أربعين قرش). بس ما تجيب سيرة الحكاية لأي زول، والله لو الأمر خرج منك، محكومة عليك بخمسين جلدة. وقبل أن تتفوّه الحكّامة بكلمة أخرى، وجدت المال في يدها، فقبضته بقوة، وخرجت صامتة، بينما تمدّد العمدة في عنقريبه كأن شيئاً لم يكن. لكنّ اللحظة لم تمرّ دون أن تخترقها المفاجأة. إذ دخل العمدة دلدوم، وجهه ما زال يحمل أثر القلق، قائلاً: يا أخوى العمدة، (الحكّامة أم زيرقون جاتك؟) ضحك العمدة تورشين بهدوء وقال، جاءت، واشتريت منها التيس، فكلْ لحمتك ساكت، اطمئن العمدة دلدوم، وهرع إلى أولاده يبشّرهم بحكمة العمدة، فتناولوا طعامهم بطمأنينة، واستأنفوا الرحلة.
لكن القدر لا ينسى ولو بعد حين. حتى القروش أخذت منه ثلاثة أصفار، عشرون سنة مرت على الحادثة، ولم يعلم بها أحد، إلى أن دبّ خلاف بين أولاد العُمد في البئر، فتطوّر الأمر إلى شجار عنيف. أُصيب أحد اولاد العمدة دلدوم في رأسه، وعندما تعافى، اجتمع الأهل لتحديد (خسارات العلاج فقط) حفاظاً على النسب وصيانة الشرف لا توجد قيمة للدم بين الأهل. اتفقوا على ثلاثين جنيه، لكن الوجهاء قالوا عشرين جنيه، إلا أن العمدة دلدوم أصرّ على ثلاثين جنيه. التفتت الأنظار إلى العمدة تورشين، الذي ظل صامتاً حتى لحظة الانفجار، حين صاح بصوته الجهوري: يا دلدوم تخالف رأي الرجال ديل كلهم؟ أنت نسيت عمايلك ولا شنو؟ والله نقوم نكشح الحلة، البلد كلوا يشيل سيرتك، وتاني م تقوم ليك قايمة! حينها، اتسعت عينا العمدة دلدوم، وكأن شريط الذكريات انقضّ عليه بلا رحمة. شعر بعرق بارد على جبينه، ثم صرخ في استسلام، علي الطلاق، (خسارات العلاج ذاتو عافيناه) ساد الصمت للحظة، فجأة قام شاب داير يعرف (الشمار) وبصوت عالي (يا عمي العمدة ده خمسين جنيه، ثلاثين حق العلاج والباقى كرامة، بس عليك الله أكشح لينا الحلة) نظر اليه العمدة بغضب الرجل الذي يعرف أن للعدل مكانةً لا تطالها أموال الطامعين. قائلاً: (الفش غبينتو خرب مدينتو؟).
هكذا انفضت الجلسة، وانسدل عليها ستار من الستر، لا ليطمس الحقيقة أو يُخفيها، بل ليُعيد ترتيب شظايا الأرواح ويمنحها شيئاً من العافية المفقودة وسط صخب الحياة وأحكام البشر القاسية. لم يكن ما جرى مجرد خلافٍ عابر أو حادثة تُنسى في زحمة الأيام، بل مرآة تعكس عمق التجربة الإنسانية حين تتأرجح بين الكبرياء الجريح والندم المتأخر. هناك، ترسّخ درسٌ خالد، لا يشيخ مع الزمن ولا يبلى مع تعاقب الأجيال، يُهمس في وجدان الساسة وكل من تولى أمر الناس: أن الفضيلة ليست في كشف العيوب أو التشهير بها، بل في احتضانها برفق وحكمة، القدرة على السمو فوق لحظة الشماتة. أما آن أن نُدرك، أن جوهر الرحمة لا يتجلى في استباحة زلات الآخرين، بل في سترها والحرص على ألا يُهدم بنيان الأخوّة من أجل سقطة عابرة؟ إنّ الستر ليس محض خُلقٍ نتمسك به عن ضعفٍ أو مجاملة، بل هو قاعدة متينة لبناء وطنٍ يُقدّر الإنسان، ويرى في كل خطأ فرصةً للإصلاح، لا ميداناً للتشهير والهدم. هكذا تبقى البذرة التي غرسها الآباء تنبض بالحياة في أعماق الأرض، تنتظر فقط رعاية صادقة ومحبة نقية، كي يُشرق هذا الوطن مرةً أخرى، وطنٌ لا يسقط فيه أحدٌ بلا يدٍ تُعينه على النهوض.
abudafair@hotmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: لم یکن
إقرأ أيضاً:
عبد الناصر قنديل: حان الوقت للتركيز على الاستثمار في البشر
أكد عبد الناصر قنديل، الباحث والمحلل السياسي، أن الحديث عن الاستثمار في "الحجر" أصبح مكررًا، وأن الوقت قد حان للتركيز على الاستثمار في "البشر".
وأشار إلى أن بدء هذا الملف في معرض القاهرة الدولي للكتاب، والذي يُعد ثاني أهم معرض للكتاب في العالم، يعد خطوة هامة ومناسبة في هذا السياق.
وأضاف قنديل خلال مداخلته ببرنامج "آخر النهار" مع الإعلامي تامر أمين المذاع عبر قناة "النهار"، أن الدورة 56 من المعرض كانت مميزة بفضل اختيار شعارها الذي يعكس أهمية المعرفة، مثل "اقْرَأ" و"في البدء كانت الكلمة"، مؤكدًا أن المعرض أصبح يتنقل بين المحافظات مما يبرهن على أنه لم يعد مجرد حدث خاص بالقاهرة.
مهرجان القراءة: فكرة الفنان التشكيلي عبد السلام الشريف
وأوضح قنديل أن الفنان التشكيلي عبد السلام الشريف هو صاحب فكرة إنشاء مهرجان للقراءة في مصر والاحتفاء بها، مؤكداً أن هذا النوع من المهرجانات يسهم في تعزيز ثقافة القراءة ويعد خطوة مهمة للنهوض بالمجتمع فكريًا وثقافيًا.