لجريدة عمان:
2025-02-20@09:29:22 GMT

مغامرة فـي كهف الهوتة

تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT

أثناء دراستي الإعدادية.. ما إن سمعت حديثًا عجبًا وملهِمًا من ابن عمي محمد بن عبدالله العدوي عن كهف الهوتة بولاية الحمراء حتى شعرت برغبة تشدني إلى زيارته، ولمّا بلغت العشرين من عمري شددت إليه الرحال برفقة بعض الأصدقاء، حينها؛ كان بكرًا لم تلمسه يد السياحة، إلا يد المستكشفـين الذين مدوا حبلًا طويلًا من فتحة دخوله حتى عمقه.

عندما كنت أستعين به خشية التعثر فـي فجاج الكهف؛ تمثّل لي حبلًا سريًا يمدني بالحياة فـي الرحم، والذي من دونه الهلاك، وتساءلت.. هل يحتاج الإنسان إلى حبل سري فـي كل الكهوف التي يتنقل فـيها لكي يحافظ على حياته؟

وقع فـي بالي من حديث ابن العم أن الكهف واسع، لكن لم أتخيل سعته الكبيرة، لم أكتشف ذلك بداية نزولي؛ فالكهف معتم.. لا ترى فـيه إصبعك، فدفعني الفضول أن أسلط المصباح فـي كل الاتجاهات لينتشر ضوؤه كاشفًا سعة الكهف الهائلة، وكاشفًا فـي الوقت ذاته فـي ذهني سعة كهف الكون العظيم، فمجراته ونجومه وكواكبه وأفلاكه التي لم يكتشفها الإنسان بعد، تسبح كلها فـي كهف يعجز العقل والعلم عن تقدير سعته، ومع ذاك، هو مظلم، إنه حقًا مخيف بظلمته.. ومخيف بعظمته.. ومخيف بانفرادنا فـيه نحن البشر، الذين لم نعرف حتى الآن شريكًا عاقلًا لنا فـي الكون. إذًا، ما الذي يبدد هذه الظلمة القاتمة؟ ليس شيء سوى نور الله؛ المصباح الإلهي المتقد بين جوانحنا.

كهف الهوتة.. أصله فج واسع فـي وادٍ بين جبلين، نتيجة انهيار كبير فـي العصور الجيولوجية أغلق الفج، إلا من فتحتين ضيقتين شكلتا مدخلي الكهف، كل فتحة بمقدار ما يلج الإنسان منفردًا. يا لعظمة الحياة.. الانهيار يصنع الجمال! شعرت بأن هذا الكهف العظيم يحاكي النفس الإنسانية.. بل نسخة من الكهف الكوني. المكان متسع كالحياة، إلا أنه ضيّق بالظلمة التي يسبح فـيها، أو هي تسبح فـيه.. هل نستطيع أن نبصر منها بعقولنا وعلومنا إلا ما نبصر من الكهف ما يقع تحت ضوء مصباحنا اليدوي؟ إننا نسلخ من أرحام أمهاتنا فندخل كهف الحياة؛ لنصطنع لأنفسنا ملابس بالية، نظل نكدح فـي الحياة لأجل أن نبدّل فـيها أوضاعنا.. ونبدّل أمكنتنا ومشاعرنا.. ونبدّل أعداءنا وأصدقاءنا. لذا، نحتاج إلى حبل من الله يعصمنا من الهلاك فـي كهوف أنفسنا.

كهف الهوتة.. بارد منعش، ملاذ عن لهيب الخارج، وكأن الكهف هو ما يخفف عنا وطأة الحياة الساخنة، لكنه كثير المهاوي والمنزلقات، فعليك أن تعتصم بالحبل المدود لتصل إلى عمقه، هناك تجد جابية، إنها ماء الحياة فـي كهف الكون، فأحياء الكهف ترتوي منها، ولو سألت الصَّدَّ «السمك الصغير» الأعمى الذي يسبح فـيها: ما الذي يحلو لك من المكث هنا وأنت لا تبصر؟ لضحك من كلامك ورد عليك: أنت من يحتاج إلى جارحة لتبصر، أما أنا فأبصر الوجود بالماء الذي منه كل شيء حي.

الجابية الباردة.. تتسع أمامك، بحيث لا ترى نهايتها بالمصباح، سبحتُ مواصلًا معرفة غرائب الكهف؛ فوصلت نهايته، وكالحياة لم تكن النهاية، وإنما كانت حرفًا صخريًا يكاد يلتصق بالمياه، فضول الشباب أغراني باجتيازه، ثم أحجمت، ليس لدي وسيلة أمان لعبور المضيق. بيد أنه ألقى فـي روعي أن هناك حياة ثانية خلف هذا الحاجز، وهل يكترث الإنسان بمستقبله إلا لاعتقاده بأن هناك حياة أخرى وراء حياته الفانية؟

الكون بأسره كهف.. ألم أكن فـي رحم أمي؟ هذا الكهف الطري، يحمي الجنين من مخاطر نشأته الأولى؛ ليدفع به إلى أخطار المستقبل، ولو خيّرتُ لما اخترتُ أن أتخلق، فالعدم.. لا خطرٌ مرتقب، ولا هَمٌ داهم، ولا معاناة نازلة، وماذا تعني الحياة، ثم تنزل على كاهلي بثقلها العظيم؟ مهلًا.. ليس لي أن أتذمّر من الكهف، فما هذا الشعور تجاهه إلا عدمية قاحلة من اخضرار أي جمال. أي خير فـي العدم؟ خواء يفصلك عن نور الحياة؛ إن متعة معاناة الخروج من الكهف لهي ألذ من الفضاء الرحب، إن الحياة أوجدت قدرة على الاستفادة منها بالمكابدة أكثر من الراحة المطلقة.

إذا كانت هذه هي النشأة الأولى للإنسان؛ فما نهايته؟ إنها الموت، لحظة التحرر الحقيقي من الكهف إلى المطلق، إن التوق لرؤية ما وراء الكهف مغروس فـي تلافـيف العقل وحنايا النفس؛ ليدرك الإنسان أن ذلك ليس مصدره الجسد الفاني.. بل الروح الإلهي الخالد، فطمحت النفس أن تنعتق من جسدها، لتدخل عالم الخلود، إلى حيث لا وجود لكهف يحجب ما خلفه. وعندما رأى العجلى أن دخول القبر هو كهف أيضًا؛ ذرّوا أجساد موتاهم رمادًا فـي عين الريح بعد أن حرقوها بغية تحرير أرواحهم. وما دروا أن الروح لا يحبسه جسد ولا قبر ولا كهف. فالروح.. التي لازمت الجسد هي التي منحت الإنسان التوق إلى الانعتاق من الكهف.

فـي الطريق إلى كهف الهوتة رأيت غنمًا تقتات على شجيرات الوادي، فاستحضرت يفاعتي عندما أخرج إلى السيح «البرية» لرعي غنمنا؛ إنه رتع فـي الخلاء.. محاولة للخروج من الكهف الذي يلازمني فـي البيت والمدرسة والملعب والسفر؛ ليس السفر الذي يحملنا فـي غرف السيارات أو دهاليز الحافلات فحسب، وإنما السفر القديم الذي بدأه الإنسان بركوب البحر، فصنع سفـينته على غرار الكهف الذي يسكنه، وعندما روّض «سفـينة الصحراء» لتنقله، وجعل عليها هودجًا يقيه الحر والصر؛ اتخذه على شكل كهف.

رعي الأغنام.. محاولة للخروج من الكهف، سباحة فـي البر، وتحرر من الروتين، وإعادة تنظيم للأفكار، ولذلك، اشتغل كثير من الأنبياء والفلاسفة والأدباء والمفكرين والمصلحين بالرعي، فكان له أثر على نفوسهم الكبيرة، فعادوا إلى كهف مجتمعهم ليحرروه.. ليعيدوا بناءه بحكمة الراعي وواقعية الكهف. الكهف شأن واقعي.. لم يستطع الإنسان أن يتحرر منه، فكان ملاذه الذي يفـيء إليه، فاتخذه مسجدًا لتعبّده ومنزلًا لسكناه وطقسًا لتصوفه ولوحةً لتأمله، إنه الكهف الذي نهرب منه لنجد أنفسنا بداخله. عندما رعيتُ الغنم، أدركتُ هذا المعنى، أدركت أن الكهف أيضًا هو ملاذ من حرارة شمس الحياة الحارقة، وهبوب رياح النفس العاصفة، وأوامر المنزل التي لا تنتهي، وبرامج التلفزيون التي تبحر بنا بعيدًا عن أنفسنا وواقعنا.

مرت الأيام بين كهوف الحياة.. كهف الفصل الدراسي، كهف المكتبة الجامعية، كهف العمل، كهف الزوجية، كهف السفر، كهف الأولاد. وأخيرًا، ولجت الكهوف المجاورة لكهف الهوتة، بحثًا عن خطوات أسلافنا القدماء فـي مدينة كدم العظيمة، فكنت فـي كهوف المتعبدين، وهم يمدون أيديهم تضرعًا إلى معبودهم الذي يمنحهم الطمأنينة من تقلبات الحياة ولأوائها، ولم ينسَ بعضهم أن يوثق ابتهالاته إلى خالق الوجود برسمات على جدار كهفه، ولمّا أفل نجم عبادتهم وجدنا ما تركوه من معالمها، بما لا نعلم حتى الآن مقصودهم منها. ووقفتُ على كهوف تقديم الأضاحي، ولا أدري أهي بشرية أم حيوانية أم نباتية، إن الزمن كاشف عنها يومًا ما لنكتشف تضحياتنا فـي رحلة الإيمان بالمطلق، وقد لا يفعل ذلك، فتطوى أسرار الماضي عن أعين الآتين. وقفت على كتاباتهم، وكأنهم أرادوا أن يفلتوا من الفناء، فـيرسلوا إلينا رغبتهم فـي البقاء برموز حسبوها عصية على الاندثار.. رموز كتبوها بمداد أحداثهم اليومية ومعتقداتهم الدينية، وغلفوها بمشاعرهم النفسية.

إن الإنسان فـي محاولته المستمرة لفهم الكهوف التي تحجبه عن النظر إلى الوجود والانطلاق فـي الكون، يخرج من كهف فـيلج آخر؛ إنه فـي دوامة أبدية، ولذلك؛ تعلّق قلبه بعالم مطلق، حيث لا كهوف، ولا ظلمة، ولا أسرار، ولا حبل سري، حيث تتلاشى كل المغامرات.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: کهف الهوتة من الکهف

إقرأ أيضاً:

حكم التأمين على الحياة.. الإفتاء توضح

أجابت دار الإفتاء المصرية، عن سؤال ورد اليها عبر موقعها الرسمي مضمونة: "ما حكم الشرع في التأمين على الحياة؟ وما مدى توافقه مع أحكام الشريعة الإسلامية الغَرَّاء؟". 

لترد دار الإفتاء موضحة: ان التأمين على الحياة أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهو في جملته تكاتُفٌ وتكافُلٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار، وجارٍ على أصول مكارم الأخلاق التي تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به الشريعة الإسلامية من مواقف وتوجيهات تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه.

حث الشرع الشريف المسلمين على التعاون والترابط

حثَّ الشرعُ الشريفُ المسلمين على التراحمِ والترابطِ والتعاون فيما بينهم، قال تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى﴾ [المائدة: 2]، وقال صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ، يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا» متفق عليه مِن حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه، إلى غير ذلك مِن النصوص الواردة في هذا الباب، و"فائدة التعاون: تيسير العمل، وتوفير المصالح، وإظهار الاتحاد والتَّنَاصُر حتى يُصبح ذلك خُلُقًا للأُمَّة"، كما قال شيخ الإسلام الطاهر بن عَاشُور في "التحرير والتنوير" (6/ 88، ط. الدار التونسية).

وقد وضعَ الشرعُ للناسِ نظامًا اجتماعيًّا قويمًا، يُسهِمُ في سدِّ حوائجِ المحتاجين وتفريجِ كرباتهم، فأوجبَ الزكاة مثلًا وجعلَهَا مِن أركانِ الدِّين، وحثَّ على الصدقات وبيَّن أنها مِن أعظمِ أبوابِ الخيرِ وأفضل صور التكافل والتعاون.

بيان المراد بالتأمين
من صور التكافل والتعاون في عصرنا الحاضر: ما يُعرف بـ"التأمين"، وهو عبارةٌ عن "عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدي إلى المؤمَّن له أو إلى المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عِوَضٍ ماليٍّ آخر، في حالة وقوع الحادث أو تحقق الخطر المُبَيَّن بالعقد، وذلك في نظير قسطٍ أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن"، كما عَرَّفَتْهُ المادة (747) من القانون المدني المصري رقم 131 لسنة 1948م.

حكم التأمين على الحياة والأدلة على ذلك
من جملة أنواع التأمين: ما يُعرف بـ"التأمين على الحياة"، والتكييف الفقهي المختار لهذا النوع أنه عقدُ تبرُّعٍ قائمٌ على التكافل الاجتماعي والتعاون على البِرِّ، وليس بعقدِ معاوَضة، حيث يتبرع المُؤَمَّن له بالقسط المدفوع، في مقابل تبرع المؤمِّن بقيمة التأمين.

والتأمين على الحياة بهذا الوصف عقدٌ جائزٌ شرعًا بعموم الأدلة الشرعية من الكتاب والسُّنة:

أمَّا الكتاب فقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ﴾ [المائدة: 1]، وكلمة "العقود" عامةٌ تشمل كلَّ عقد، ومنها عقد التأمين على الحياة وغيره، ومن المقرر أن الأصل في العقود والمعاملات الإباحةُ، ما لم يأتِ دليلٌ شرعيٌّ على التحريم، كما في "المبسوط" لشمس الأئمة السَّرَخْسِي الحنفي (23/ 92، ط. دار المعرفة)، و"حاشية الإمام الدُّسُوقِي المالكي على الشرح الكبير" (2/ 217، ط. دار الفكر)، و"كفاية النبيه" للإمام ابن الرِّفْعَة الشافعي (9/ 311، ط. دار الكتب العلمية)، و"شرح منتهى الإرادات" للإمام أَبِي السعادات البُهُوتِي الحنبلي (2/ 56، ط. عالم الكتب).

وهذا الأصل هو ما يتوافق مع مقاصد الشرع الشريف مِن تحقيق مصالح العباد والتيسير عليهم ورفع الحرج عنهم، ولا فرق بين كون هذه العقود موروثةً منصوصًا عليها، كالبيع والشراء والإجارة وغيرها، أو كونها مستحدَثَةً لم تتناولها النصوص بالذكر والتفصيل على جهة الخصوص كما في عقد التأمين، ما دامت تلك العقود خالية من الضرر والغرر، وتُحقق مصالح أطرافها.

وأمَّا السُّنة: فقد روي عن عَمْرِو بْنِ يَثْرِبِيٍّ الضَّمْرِيِّ قال: شهدتُ خُطبة النبي صلى الله عليه وسلم بمِنًى، وكان فيما خَطَب: «وَلَا يَحِلُّ لِامْرِئٍ مِنْ مَالِ أَخِيهِ إِلَّا مَا طَابَتْ بِهِ نَفْسُهُ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، والدارقطني والبيهقي في "السنن".

فجَعَل سيدُنا رسولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم طريقَ حِلِّ المال أن تسمح به نفسُ باذِلِهِ من خلال التراضي، والتأمين يتراضى فيه الطرفان على أخذ مالٍ بطريقٍ مخصوصٍ لا غرر فيه ولا ضرر، فيكون حلالًا.

وقد جرى العرف على التعامل بهذا النوع من العقود، وكما هو مقرر أن العرف معتبرٌ شرعًا ومصدر من مصادر التشريع، قال تعالى: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ﴾ [الأعراف: 199]، ولما ورد في الأثر عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه: «مَا رَأَى الْمُسْلِمُونَ حَسَنًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ حَسَنٌ، وَمَا رَأَوْا سَيِّئًا فَهُوَ عِنْدَ اللهِ سَيِّئٌ» أخرجه الأئمة: أحمد في "المسند"، والطبراني في "المعجم الأوسط"، والحاكم في "المستدرك".

كما أن عقد التأمين ليس من عقود الغرر المُحرَّمة؛ لأنَّ مبناه على التبرع ابتداءً وانتهاءً، فالمؤمَّن له يتبرع ابتداءً بالأقساط التي يدفعها، والمؤمِّن يتبرع انتهاءً بقيمة مبلغ التأمين الذي ارتضاه بالعقد ابتداءً، ويترتب على ذلك ثبوت حقِّ الوفاء بالالتزام على المؤمِّن تجاه المؤمَّن له، والمُؤَمَّن له تجاه المُؤَمِّن؛ لقوله صلى الله عليه وآله وسلم: «الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُوطِهِمْ» أخرجه الأئمة: الحاكم في "المستدرك"، والدارقطني والبيهقي في "السنن" من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

ومِن المقرر شرعًا أن عقود التبرعات يُتهاوَن فيها عن الغرر الكثير، بخلاف عقود المعاوضات فإنه لا يقبل فيها إلا الغرر اليسير، كما في "الفروق" للإمام شهاب الدين القَرَافِي (1/ 151، ط. دار إحياء الكتب)، و"القواعد" للإمام الحافظ ابن رَجَب (ص: 233، ط. دار الكتب العلمية، القاعدة الخامسة بعد المائة).

على أن الغرر يُتصوَّر حينما تكون الحقوق والالتزامات في العقد مُبهَمَةً، أما وقد صار كلُّ طرف في عقد التأمين يعرف مقدَّمًا مقدارَ ما سيدفعه ومقدارَ ما سيحصل عليه، فحينئذٍ لا يتصور وجود الغرر الفاحش المنهي عنه أصلًا.

كما لا يوجد في عقد التامين شُبهة القمار؛ لأن المقامَرَة تقوم على الحظ، في حين أن التأمين يقوم على أسسٍ وقواعد منضبطةٍ وحساباتٍ مدروسةٍ ومحسوبةٍ مِن جهة، وعلى عقدٍ مبرَمٍ من جهة أخرى.

يضاف إلى ذلك: أنَّ التأمين بصوره المتعددة قد صار ضرورةً اجتماعيةً تُحَتِّمُها ظروف الحياة، ويَتحقق به التكافُلُ والتضامُنُ والتعاوُنُ في رفع ما يصيب الأفراد من أضرار الحوادث والكوارث، فهو على هذا النحو ليس ضريبةً تُحَصَّل بالقوة، وإنما هو تكاتُفٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار المأمور بهما في الإسلام.

وهو جارٍ بذلك على أصول مكارم الأخلاق التي تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به السُّنَّة النبوية المطهرة من مواقف تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه، كأن يُجمع ما لدى الرفقاء من مالٍ أو طعامٍ من أجل إباحة بعضهم بعضًا بموجوده، وإنفاقه بينهم شراكةً وقَسْمًا، كلٌّ بحسب حاجته وكفايته، على الرغم مِن أنَّ في هذه الرُّفقة مَن لم تكن له بقية طعام وليس لديه مالٌ، فيما يُعرف بالتَّنَاهُد، وهو تخارُجُ الطَّعَام وَالشرَاب على قَدْرٍ فِي الرُّفْقَة، كما أفاده العلامة ابن سِيدَه في "المحكم والمحيط الأعظم" (4/ 266، ط. دار الكتب العلمية).

قال العلامة محمد أنور الكَشْمِيرِي في "فيض الباري" (4/ 4، ط. دار الكتب العلمية): [النَّهدُ: أن يَنْثُرَ الرُّفقةُ زادَهم على سُفْرةٍ واحدةٍ ليأكلوا جميعًا بدون تقسيم، ففيه شَرِكةٌ أوَّلًا، وتقسيمٌ آخِرًا، ولا ريبَ أنه تقسيمٌ على المجازفةِ لا غير، مع التَّفاوُتِ في الأَكلِ.. وقد مَرَّ معنا الجواب أنها ليست من باب المعاوضات التي تجري فيها المُمَاكَسَةُ، أو تدخلُ تحت الحُكْم، وإنَّما هي من باب التسامح والتعامل] اهـ.

ومِن جملة ما جاءت به السُّنَّةُ النبوية المطهرة في ذلك: ما رواه أبو موسى الأشعري رضي الله عنه أنَّ النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إِنَّ الْأَشْعَرِيِّينَ إِذَا أَرْمَلُوا فِي الْغَزْوِ، أَوْ قَلَّ طَعَامُ عِيَالِهِمْ بِالْمَدِينَةِ جَمَعُوا مَا كَانَ عِنْدَهُمْ فِي ثَوْبٍ وَاحِدٍ، ثُمَّ اقْتَسَمُوا بَيْنَهُمْ فِي إِنَاءٍ وَاحِدٍ بِالسَّوِيَّةِ، وَهُمْ مِنِّي وَأَنَا مِنْهُمْ» متفقٌ عليه.

قال الإمام شرف الدين النَّوَوِي في "شرحه على صحيح الإمام مسلم" (16/ 62، ط. دار إحياء التراث العربي): [وفي هذا الحديث: فضيلة الأشعريين، وفضيلة الإيثار والمواساة، وفضيلة خَلْط الأزواد في السَّفَر، وفضيلة جَمْعِهَا في شيءٍ عند قِلَّتِها في الحَضر ثم يُقسم، وليس المراد بهذا القسمة المعروفة في كتب الفقه بشروطها ومَنْعها في الرِّبويات، واشتراط المواساة وغيرها، وإنما المراد هنا: إباحة بعضهم بعضًا، ومواساتهم بالموجود] اهـ.

ومما يجدر التنبيه عليه: أن إقدام المكلَّف على أيِّ تصرفٍ حال حياته يفيد ورثتَه أو مَن هُم في نفقته بَعد وفاته يُعد من الأمور التي رغَّب الشرعُ الشريفُ فيها، بل قد يَفضُل الصدقةَ إذا قصد به أن يترك لهم من المال ما يُغنِيهم مِن بَعده عن تكفُّف الناس والاحتياج إلى صدقاتهم، ويَفضُل كذلك وصيَّتَه بشيءٍ من ماله لغيرهم إن كان ما يتركه من المال قليلًا، وهو مَلْمَحٌ شرعيٌّ أشار إليه سيدُنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم بقوله لسعد بن أبي وَقَّاص رضي الله عنه: «إِنَّكَ أَنْ تَذَرَ وَرَثَتَكَ أَغْنِيَاءَ، خَيْرٌ مِنْ أَنْ تَذَرَهُمْ عَالَةً يَتَكَفَّفُونَ النَّاسَ» متفق عليه.

وعن سيدنا عليٍّ أمير المؤمنين رضي الله عنه أنه دخل على رجل من بني هاشم يَعُودُهُ، فأراد أن يوصي، فنهاه، وقال: "إِنَّ اللهَ يَقُولُ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180]، وَإِنَّكَ لَمْ تَدَعْ مَالًا، فَدَعْهُ لِعِيَالِكَ" أخرجه الإمام ابن أبي شيبة في "المصنف".

وعن السيدة عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال لها رجلٌ: إني أريد أن أوصي، قالت: "كَمْ مَالُكَ؟" قال: ثلاثة آلاف، قالت: "كَمْ عِيَالُكَ؟" قال: أربعة، فقالت: "قَالَ اللهُ سُبْحَانَهُ: ﴿إِنْ تَرَكَ خَيْرًا﴾ [البقرة: 180]، وَإِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يَسِيرٌ، فَاتْرُكْهُ لِعِيَالِكَ فَهُوَ أَفْضَلُ" أخرجه الإمامان: ابن أبي شيبة في "المصنف"، والبيهقي في "السنن الكبرى" واللفظ له.

قال الإمام أبو الحسن بن بَطَّال في "شرح صحيح الإمام البخاري" (8/ 144-145، ط. مكتبة الرشد): [ولم يكن لسَعْدٍ إلا ابنة واحدة كما ذكر في هذا الحديث، فدَلَّ هذا أنَّ تَرْكَ المال للورثة خيرٌ من الصدقة به، وأنَّ النفقة على الأهل من الأعمال الصالحة... قال ابن المُنْذِر: فدَلَّت هذه الآثارُ على أنَّ مَن تَرَك مالًا قليلًا، فالاختيار له تَرْكُ الوصية وإبقاؤه للورثة] اهـ.

الخلاصة
بناءً على ذلك وفي واقعة السؤال: فإن التأمين على الحياة أمرٌ جائزٌ شرعًا، وهو في جملته تكاتُفٌ وتكافُلٌ وتعاوُنٌ على البِر والإيثار، وجارٍ على أصول مكارم الأخلاق التي تتلاقى معانيها ومقاصدها معَ ما وردت به الشريعة الإسلامية من مواقف وتوجيهات تَجلَّى فيها روح التعاون والمواساة عند توقع الخطر والتماس طرق الوقاية منه.

مقالات مشابهة

  • «التزحلق على البركان».. مغامرة مرعبة لمتزلجين في إيطاليا تعرضهما للخطر (فيديو)
  • «Huawei» تُطلق أول هاتف Tri-Fold في العالم.. ابتكار ثوري أم مغامرة محفوفة بالتحديات؟
  • برج القوس وحظك اليوم الأربعاء 19 فبراير 2025: مغامرة وحماس
  • بايرن ميونخ ينهي مغامرة سيلتيك في "الأبطال" بهدف قاتل
  • يتخليان عن وظيفتهما ومنزلهما من أجل مغامرة مع أطفالهما
  • أدلة جديدة على وجود الحياة في المريخ.. كيف فقد الماء؟
  • أسوأ أنواع الألم التي يمكن أن يشعر بها الإنسان ليست آلام الولادة.. فما هو؟
  • حكم التأمين على الحياة.. الإفتاء توضح
  • القوات: انتهى الزمن الذي كانت إيران تعتبر فيه بيروت إحدى العواصم التي تسيطر عليها