السودان: تشظِّي الكيانات وانشطار الهُوية
تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT
السودان: تشظِّي الكيانات وانشطار الهُوية
فايز الشيخ السليك
تروي الطرفة عن ثلاثة سودانيين كونوا حزباً سياسياً في المنفى، وبعد اصدار بيانات ضد الحكومة بلهجة حادة أرسلت السلطات وفداً اتفق مع الحزب للانضمام اليها، ومنح الحزب منصباً دستورياً واحداً ومبلغ مالي عبارة عن “فاتورة تسوية الأوضاع”، فأرسل الكيان نائب رئيسه إلى الخرطوم تمهيداً لعودة كل القيادة لأرض الوطن.
إلا أن حملة تلميع نظمتها الصحف هناك، أثارت الغيرة والقلق في نفس رئيس الحزب فاتصل بالسلطات للترتيب لعودته الميمونة، وتنظيم استقبال جماهيري له، لكن نائبه أصدر بياناً أعلن فيه فصل الرئيس والأمين العام لينفرد وحده بالمنصب وبالمال.
تعكس هذه الطرفة صورةً من صور انشفاقات القوى السياسية، وافتقارها للمؤسسية، ودور الأجهزة الأمنية في ذلك؛ إلا أنه ليس من السهولة ابتسار ظاهرة انشقاقات القوى السياسية السودانية في الاختراقات وضعف القيادات أخلاقياً وتنظيمياً، فالظاهرة قديمة ومتجذرة في تربة الحياة العامة كلها لا الحياة السياسية وحدها، ويظل التشظي حالةً مرتبطةً بطرائق تفكير عقلنا الجمعي، وبنيته، وانتاجه الفكري والسياسي.
وليس من الصواب، ابعاد السياقات الزمانية والمكانية والاجتماعية التي نشأت فيها هذه القوى السياسية والمدنية، ومارست خلالها أنشطتها، فقد نشأت داخل بيئة تسيطر عليها انتماءات عشائرية ضيقة، وتبعية طائفية قابضة، ومجتمع أبوي تقليدي، يقف في طرف نقيض من الحداثة.
وما يزيد الأمر تعقيداً وسوءاً؛ هو سيطرة النظم الشمولية لمدة ٥٦ سنةً على الفضاء الوطني، رسخت خلالها لعسكرة الحياة السياسية، في وقت عرف فيه السودان الحكم المدني مدة ١٣ عاماً فقط، ولم تخل من الاضطراب.
سعت النظم الشمولية خلال حقبها الظلامية المتطاولة إلى تجريف الحياة المدنية، وسد المنافذ أمام العمل السلمي، واستخدمت في ذلك وسائل الترهيب والترغيب، مثلما أشرنا في الطرفة في بداية المقال، واجتهدت لتخريب المناخ السياسي عن طريق دفع الرشاوي، وشراء ذمم بعض القيادات، واختراق القوى السياسية للسيطرة عليها ؛ ابتزازاً، أو اغراءً في واقع افقار اقتصادي واجتماعي وتحديات صعبة تواجه الفاعلين السياسيين.
وتفجرت الخلافات في غالبية القوى السياسية قبل نيل السودان استقلاله،فلم تبدأ الانقسامات وسط الكتل المنظمة بانقسام تنسيقية القوى المدنية الديموقراطية ” تقدم”، ومن العسف والسطحية النظر إلى انشقاق تقدم كحادثة “معزولة” لا علاقة لها بما قبلها، واغفال تناولها كحلقة واحدة في سلسلة طويلة من رحلة التشظي السياسي السوداني والمجتمعي.
بدأت حالة التشظي هذهمع تأسيس الدولة المهدية عندما تسرّب فيروس الصراعات داخل شرايين الدولة الوليدة بين ما عرف ” أولاد الغرب وأولاد النيل أو الأشراف، وكان أساس الصراع عرقياً وجهوياً.
بالعودة إلى تاريخ السودان الحديث نجد أن الاستعمار الثنائي ساهم عن عمد في خلق تياراتسودانية منقسمة فيما بينها، وفي ولائها بين مصر وبريطانيا، بدءً بجمعية الاتحاد السوداني التي تأسست عام ١٩٢٠ ، وكان أهم أهدافها الكفاح ضد البريطانيين، والعمل على تحقيقالوحدة مع مصر.
وكتب الدكتور محمد سعيد القدال، في كتابه تاريخ السودان الحديث أنَّ عبيد حاج الأمين، كان ” أكثر جرأة في نقده للإدارة البريطانية، وفي الدعوة للتلاحم مع مصر، فنشر في الأهرام مقالاً باسمه في نوفمبر 1922 قال فيه ” إن الحركة الوطنية السودانية تدعم الأمة المصرية وتعارض تقسيم مصر والسودان على أي وجهِ من الوجوه” ص 423،
واستدل القدال، بما نشره دكتور خالد الكد، حول تشكٌّل تيار يميل إلى مصر داخل فئتين؛ أولهما فئة رفعت شعار الوحدة مع مصر لأنه يعبر عن انتمائها العروبي، أما الفئة الثانية فهي التي شرائح اجتماعية تحررت من سلاسل العبودية، ووجدت في القاهرة ملاذاً للهروب من العنصرية، واعتبرت أن دعوة “وحدة وادي النيل” تمثل خلاصاً لها من الوضع الهامشي المأزوم.
وفي المقابل لم تقف الإدارة البريطانية مكتوفة الأيدي فسارعت نحو القيادات التقليدية والدينية، وأجزلت لها العطاء، وأغرقتها بالإغراءات بهدف استقطابها إلى صفها، وتحشيدها للوقوف ضد خيار وحدة وادي النيل، “، ونتج عن تلك السياسات كسب ود القيادات التقليدية التي دفعتبعريضة إلى الحاكم العام اعلنت فيها تأييدها الكامل والقاطع للنظام الحاكم في السودان، نافين صلتهم بالحركة التي تجري في مصر. وانبرى حسين شريف، في صحيفة ” الحضارة” لدحض وحدة وادي النيل، فكتب أربع مقالات بعنوان ” السودان ومصر والمسألة السودانية” ص ٤٢٦، وانحاز شريف، إلى البريطانيين باعتبار أن السودانيين لا يستطيعون حكم أنفسهم؛ والأفضل لهم أن يكونوا تحت الوصاية البريطانية، بدلاً عن أن يحكمهم المصريون، متعللاً بأن مصر لا تملك الخبرات والوسائل كي تحكم الآخرين.
لقد غرست المواقف من مصر وبريطانيا بذرة الخلافات داخل جمعية الاتحاد، وأعلن عبيد حاج الأمين، في عام ١٩٢٣ الثورة، ونادى بتغيير أساليب العمل السرية، ووضع الجمعية على حافة المواجهة مع البريطانيين.
انقسمت جمعية الاتحاد السوداني في عام ١٩٢٤، وتكونت فوق حطامها جمعية اللواء الأبيض/ بقيادة عبيد حاج الأمين، والضابط علي عبد اللطيف، وسارت في ذات التيار الموالي لمصر، وهو ما عرَّض الجمعية إلى مدفعية الزعامات التقليدية، وتهافت الزعماء نحو اظهار الولاء لبريطانيا، رفعوا عريضة أسموا الموقعين عليها ” كرام القوم”.
منذ تلك الفترة انطبعتالقوى السياسيةبختم التشظي، حيث لم تنج من هذا الوباء حتى الأوساط الأدبية والثقافية؛ مستصحباً معه صراعات الهوية، مثلما حدث في جمعية أبوروف التي أسسها خريجون من كلية غردون، منهم حسين وحسن عثمان الكد، حماد توفيق، علي العتباني، وإبراهيم أنيس، ثم أعقبتها بعد سنوات جمعية الهاشماب كمنافس لها وشارك في تأسيسها يوسف مصطفى التني، وعبد الله عشري صديق، وعبرت جمعية الهاشماب عن تيار وعي قومي.
وشهد نادي الخريجين كذلك صراعات حادة بين الفئات المتعلمة والمثقفة، و انتقلت تلك الصراعات إلى مؤتمر الخريجين؛ الذي انقسم إلى مجموعتين؛ انضمت احداها، وعلى رأسها الأزهري، ويحي الفضلي، إلى الحركة الاتحادية، وآثرت مجموعة أخرى ضمت محمد أحمد المحجوب، وآخرينالانتماء إلى حزب الأمة.
لقد فضحت صراعات الحركة الوطنية ما كان يستبطنه عقل القيادات التقليدية من استعلاء ثقافي عبرت عنه صحيفة ” الحضارة ” التي نشرت مقالاً جاء فيه” إنها أمة وضيعة التي يقودها أمثال علي عبد اللطيف، ومن هو علي عبد اللطيف؟ وإلى أي قبيلة ينتمي؟”. وذهب البعض إلى وصف تلك الجماعة بالمنبتة!.
ثمُّسعت النُّخب الحاكمة في السودان لحسم سؤال الهُويّة وفق تصوراتها هي، وأصرت على أن تجيب على هذا السؤال المصيري بالقوة، بالانحيازللهوية العربية، واقصاء مُكوِّنات ثقافية أساسية من مُكوِّنات الشعوب السودانية.
إنَّدراسة الظاهرة يقتضي البحث في احداثيات العقل السوداني ومنصات انطلاقه؛ التي تتمثل في الهوية؛ وتفرعاتها الثقافية واللَّغوية والاثنية، والحضارية، والدين ومناهج التعليم، وهذا ما يعرف عند المفكر لالند، بأنه العقل ((المكوَّن))، أو السائد، وباختصار هو منظومة القيم والأفكار والتصورات التي شكلت نمط العقل.
إذا ما تعمقنا في الحالة السودانية نجد أن منصة الانطلاق للتفكير مبنية على ثنائية ( عرب/ أفارقة، مسلمون/ غير مسلمين، لذلك عندما نتناول أي ظاهرة مرتبطة بجوهر التفكير والعقل سنجد أن أزمة منصات الانطلاق بقدرما هي محفز، إلا أنها شكّلت أزمةً في طرائق عمل العقل ( المكوِّن) أي المنتِج، وتتمثل في وجود انشطار الهوية وثنائيتها، توجد هوية كبرى متشظية، وهويات صغرى متصاعة فيما بينها من جهة، وضد الهوية الأكبر من جهة أخرى..
ارتبطت ثنائية الهوية ” بالصراعات الكبيرة، وتمظهرت في حروبالشمال والجنوب، ثم زرقة وعرب في دارفور، و ما بين هامش ومركز؛ بين الأطراف والسلطة المركزية في الخرطوم، كما لم تسلم من داء الانقسامات كثير من القوى السياسية بما فيها التي ترفع شعارات تقدمية مثل اليسار، الذي ظلت قياداته حكراً على جهات عرقية وجهوية محددة، وكذلك الحركات الدينية التي تقدم العروبة على الإسلام في غالب مواقفها.
نشير هنا إلى صراعات داخل ” المؤتمر الوطني الحاكم” في منتصف التسعينات عندما أضطرت لجنة الانتخابات الى تزوير النتيجة بابعاد المرشح الفائز الشفيع أحمد محمد، لأنه منحدر من دارفور، وتفضيل غازي صلاح الدين، عليه؛ واختياره أميناً للحزب الحاكم، وهو حزب الجماعة التي بسببها قال القيادي الإسلامي داؤود يحي بولاد، أنه وجد لديهم أن الدم أقوى من الدين.
ولم تفارق ” الثنائية ” حتى القوى السياسية المهمشة التي وقعت في فخ التناقضات الكبيرة والصغيرة، ففيما تشكو تلك القوى من تهميش المركز لها لأسباب اثنية أو جهوية، فقد شربت هي من ذات الكأس، وتحولت التناقض مع المركز إلى تناقض داخلي؛ مثلما حدث للجيش الشعبي لتحرير السودان وصراعات ” الدينكا والنوير” أو ” الدينكا والشلك” في تسيعينات القرن الماضي وما سببته من حرب ضروس بين الدكتور جون قرنق من جهة، ورياك مشار ولام أكول من جهات أخر.
وكذلك تناسلت الحركات المسلحة في دارفور فيما بينها وشهدنا التنافس ما بين الزغاوة ” مني أركو مناوي” والفور ” عبد الواحد محمد نور، وحركة العدل والمساواة/ لتبلغ عدد الحركات المسلحة أكثر من ٤٠ حركة تحمل ذات الاسم مع تقديم وتأخير للكمات أو إضافة صفة أو اسم القائد ليكون جناحاً مناوئاً.
بالطبع ثمة عوامل أخرى ساهمت في حالة التشظي الملازمة للقوى السياسية منذ بداية تشكل الدولة الحديثة، مثل الصراع على النفوذ والسلطة، ويمكن الإشارة إلى انقسامات حزب الأمة في عام ١٩٦٦ بين جناحي الهادي المهدي وابن أخيه الصادق” ليتقسم الحزب لاحقاً إلى أكثر من خمسة أحزاب تحمل ذات الاسم، وكذلك شهدت الحركة الاتحادية انقسامات حادة ومتعددة منذ عام ١٩٥٦، والحزب الشيوعي السوداني في عام ١٩٧٠، والحركة الإسلامية التي بدأت أولى مراحل انقساماتها في عام ١٩٦٩ ما بين جناح الأخوان المسلمون وجناح الترابي، وحدثت أكبر الانقسامات التي هزت الحركة الإسلامية في عام ١٩٩٩؛ وما اصطلح بتسميتها بالمفاصلة داخل المؤتمر الوطني الحاكم بين الفريق عمر البشير وعراب الحركة الدكتور حسن الترابي.
بالعودة إلى التحالفات السياسية مثل تنسيقية ” تقدم” لا نجد غرابة حول ما حدث من فك ارتباط أو طلاق سياسي بين مكونات التحالف العريض في سياق واقع سوداني متمزق، وبالضرورة استنتاجاً نجد أنَّ معرفة الكل تتطلب معرفة خصائص الجزء، وبما أنَّ خصائص الوحدات الصغيرة المكونة للحلف تحمل تناقضات في داخلها، فبالضرورة فإن المكون الأكبر ” الحلف” يحمل داخل بنيته ذات التناقضات.
يجب الإشارة كذلك إلى طبيعة قوى ” الجبهة الثورية” المناطقية والعسكرية، فهي قوى نشأت عسكرياً وهذا ما يضعف عملية الممارسة الديموقراطية في داخلها، أو السماح بذلك مع القوى المتحالفة عند الاختلافات، وكان نتيجة ذلك أن ارتمت بعض قوى الكفاح المسلح في أحضان المنظومة القاهرة لهاـ وتحالفت مع الاستبداد، وتماهت مع المستبد ووسائله وأفكاره وقيمه وممارساته، بدلاً من اختيار مسار التحرر والانعتاق.
لم تنزل أحزابنا السياسية علينا من السماء، فهي نتاج لتفكيرنا الجمعي، ويعاني معظمها من وجود خلل بنيوي وهيكلي يتجلى في غياب الرؤية الواضحة، ضعف المؤسسية،والهشاشة التنظيمية، و غياب الممارسة الديمقراطية داخلها، وتصلب شرايينها التنظيمية، واعتمادها على قيادة فوقية في أجواء تنتشر فيها أمراض الشللية، و شح النفس، وغلبة الطموحات الفردية التي تفشلكلاللوائح الأطر التنظيمية في كبج جماحها، و تحصينها من الانزلاق في وحل اغراءات القوى المعادية.
تزداد هذه العيوب كلما اتسمت خيوط القيم الديموقراطية بالوهن، واكتفت قيادات الأحزاب بما نسميه ((الديموقراطية الإجرائية)) ونقصد بها ” الاحتفاء بالجانب الشكلي من الديموقراطية، ويتمثل في الاجراءات، اللوائح، دون التركيز على الديموقراطية كثقافة أو التطبع بسلوكها خلال ممارسة الفعل السياسي، أو عند إدارة الاختلافات الداخلية والخارجية.
[email protected]
الوسومالخرطوم الدولة المهدية السودان القاهرة النظم الشمولية بريطانيا تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية- تقدم خالد الكد فايز الشيخ السليك محمد سعيد القدال مصر
المصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الخرطوم الدولة المهدية السودان القاهرة بريطانيا تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية تقدم مصر القوى السیاسیة نجد أن فی عام ما بین
إقرأ أيضاً:
قرار الحرب وقرار السلم.. لبنان مثالا
للمصطلحات في لبنان معاجمُها الخاصة، تختلف باختلاف مُطلقيها. في المبدأ، هي مصطلحات في صلب أي نظامٍ سياسي، لا تكتمل الدولة بدونها، لكنها تصير إشكالية في النسخة اللبنانية. كلمة "السيادة" مثلا، لا تفيد المعنى ذاته لدى الجميع، تُفهَمُ أو تُوظَفُ عند البعض بصورة تختلف عند فريقٍ آخر، تتغير المواقف بشأن هذا المصطلح ربطا بالعلاقات الخارجية لكل فريق، ولا يبقى الأمر محصورا في دائرة القوة السياسية هذه أو تلك، يتحول إلى حالة شعبية.
يفضل اللبنانيون كلمة "الجمهور"، يعطونها "قيمة" أكبر، وهي مُجَرَبة في "شد العصب" الذي قد يكون سياسي التمظهر، لكن الكل يدرك أن عنصره الأكثر فاعلية هو الطائفية والمذهبية؛ رغم أن معظم الأطراف تؤكد الابتعاد عنهما. يفرض ذلك "الأدبيات" اللبنانية، وتشترك في "اللعبة" ماكينة تضم السياسي والصحافي والمثقف والفنان، كل في "اختصاصه"، يشارك بتعميم خطاب يترك للجمهور (ظاهريا) حيزا واسعا في كيفية فهم وتوظيف المصطلحات والشعارات في الاصطفاف أو الاتهام السياسيين، بمسافة لا تبعد كثيرا عن الشارع الذي يحذر منه الجميع، مع أن الجميع تقريبا جربه، نقَلَ الخلافات إليه، وكثيرا ما اُسُتخدِم كـ"عصا غليظة" حين تصير الخلافات "خشنة"، خصوصا في مواجهات الدفاع عن "الديمقراطية التوافقية"، التي يقبل بها الجميع والتي يكاد لبنان ينفرد فيها وحيدا.
تجيد القوى اللبنانية التحرك في هذه المساحات، وتوظيفها بما يناسب برامجها السياسية، التي لا يمكن قراءتها بمعزل عن العلاقات الخارجية والتحالفات، إذا صحت تسمية تحالف.
الأمر نفسه بالنسبة لمصطلحات أخرى تتراشقها القوى في اشتباكاتها السياسية وغير السياسية، مثل "الحياد"، "الرئيس القوي"، "الجيش القوي"، لكن يتم التعامل مع المصطلح الأخير بحذر كبير، لأن الأكثرية تحرص على تحييد الجيش عن الاصطفافات والخلافات.
اليوم، ثمة مصطلح يحتل الصدارة، "قرار الحرب والسلم"، فنادرا ما يخلو منه خطاب، وهو من "الأدبيات" الرئيسة في العهد الجديد. المصطلح دولي، ومن البديهي تكراره والتمسك به، لكن هل يستطيع لبنان في وضعه الحالي التعامل معه كباقي الدول؟ هل يُسمَح له، وبأي اتجاهات، وفي طرف المعادلة "إسرائيل"، بتاريخها واحتلالاتها وجرائمها؟
يميل المرء إلى تجزئة المصطلح الـ"تريند"، الذي كغيره من المصطلحات ليس له معنى واحد في لبنان، البعض يرى أن هناك من يستخدمه بوظيفية لجعله "مُسَلَّمة" فوق النقاش، مع أنه هو بالتحديد يحتاج نقاشا، ويرى أن تكراره بدون فهم تأثيره يؤدي إلى تبسيطه، وهو ليس بسيطا، وحين يُقَدَمُ كما يحدث الآن بمناخية ضاغطة كونه "ضرورة وطنية" (وهو ضرورة وطنية) ممنوع المساس بها، ولو في تفسير المعنى أو التصويب، كمصطلح بالدلالات اللبنانية، يتحول إلى ما يشبه الأمر الواقع، ويُقحَمُ في ساحة الاتهام بتعطيل قيام الدولة، وقد ازداد هذا المصطلح حرارة بعد موجة التسريبات التي سبقت الموقف الأمريكي الواضح بشأن فتح باب التفاوض السسياسي بين لبنان و"إسرائيل"، وليس بصيغته الحالية كلجان عسكرية خاصة بالنقاط الحدودية المحتلة.
بين "قرار الحرب" و"قرار السلم"، الجميع خلف الدولة في قرار اللا حرب، ومن المفترض أن لا يثير المصطلح الريبة، لكن لبنان في المسار الذي يسير، أو يُرغَمُ عليه، يحتاج حوارا وطنيا حقيقيا يُطمئِنُ الجميع بأن "قرار اللا حرب" لا يجب أن يعني بالضرورة "قرار السلم"، حوارا يحمي الدولة من رأسها إلى جميع مواطنيها. حين تواكبُ القوى المؤثرة حكومتها بما يحفظ مصلحة الدولة، فهي تحمي الحكومة والدولة معا.
الحوار يُجيب على الأسئلة الصعبة، منها: ماذا سيفعل لبنان أمام الضغوط التي ستزداد لإجباره على السير في التطبيع؟ ترتفع أصوات تحذر من أن تكون محاولات إقصاء بعض القوى الرئيسة مرحلة في سياق تصعيدي لتحديد الأحجام في المجلس النيابي المقبل، لاحتمال التوصل إلى إتفاقية مع الجانب الإسرائيلي، ودور مجلس النواب في ذلك.
من واجب الحكومة اللبنانية مصارحة مواطنيها عن الضغوط الخارجية التي لا طاقة لها بها، وهذا سيقود حتما إلى عبارة "تاريخية" أخرى يطيب للبعض استخدامها في الدولة وخارجها، وهي "حروب الآخرين على أرضنا"، وسيقود أيضا إلى تساؤل مشروع حول مصطلح "الحياد"، بنسخته الملبننة "الحياد الإيجابي"، وحول قدرة لبنان على النأي بنفسه بعيدا عن التورط في مشاريع وحروب الآخرين، وعلى أرضه طبعا. وهذه مسألة في غاية الأهمية، لأنها تمس بشكل مباشر بالثقة الضرورية بين أي حكومة وشعبها، وبالثقة المُفتَرَضَة بين شركاء الوطن.
التاريخ القريب يقول إن الإسرائيلي حوَّلَ معاهدات السلام السابقة، أو الأصح تعامل معها منذ البداية كمراحل تسويفية، لم يوقف خلالها حروبه ومشاريعه الاستيطانية، وصولا إلى "تمدده" الأخير في المنطقة، مع الفرق الذي يتضاعف في موازين القوى. والحاضر يقول إن الإسرائيلي يريد تحويل أي حالة "لا حرب" إلى معاهدة سلام.
اليوم، يُخرِجُ الإسرائيلي والأمريكي مفردتي النكبة والنكسة من الخصوصية الفلسطينية إلى العمومية العربية، وكلام ترامب عن تهجير الفلسطينيين وتحويل قطاع غزة إلى "ريفييرا الشرق الأوسط"، أو إقامة دولة فلسطينية على الأراضي السعودية، يصب في الاتجاه.
مع أسفٍ نقول، كانت القمة العربية الأخيرة أقصى المستطاع الرسمي، في خضم متغيرات إقليمية تشبه الزلزال، ينظر نتنياهو فيرى "إسرائيل الكبرى" على مرمى حربٍ أخرى، يرى الوصول إلى فُراتِ سوريا أسهل، عينٌ على فُرات العراق، وأخرى على النيل، لتكتمل دولة الـ"من الماء إلى الماء". قد ينفي الإسرائيلي تصريحا، لكن ما قيمة النفي فعلا والتصريحات والمواقف الأميركية ليست بعيدة عن فكرة "الدولة التوراتية"؟ ماذا يفعل لبنان ومنذ تأسيسه رآه الصهاينة من قبل إقامة كيانهم "خطأ تاريخيا" (مقولة أرييل شارون)، ولربما يعتبرون حروبهم واجبا لـ"تصحيح الخطأ التاريخي"؟
وعند الحليف الأمريكي، لبنان "فائض في الجغرافيا" وفق هنري كسينجر، فأي ضمانة يمكن الركون إليها من القوة العظمى للحفاظ على هذا "الفائض الجغرافي" كدولة، يحتاج المرء أن يفهم جغرافيا بلاده، وأن يفهم شعب بلاده أيضا. كلنا نحتاج ذلك، قبل أن نُجبَرَ جميعا، عربا قبل اللبنانيين، على درس في "الجغرافيا التوراتية"، قد يكون الأقسى، وربما الأخير، ولن يكون عن لبنان فقط.