فرص وقيود: هل يمكن العودة إلى ضبط التسلح النووي بين القوى الكبرى؟
تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT
وجه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خلال كلمة ألقاها عبر الإنترنت أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، يوم 23 يناير 2025، دعوة إلى الصين لخفض ترسانة الأسلحة النووية. وفي المقابل، ردت الصين بدعوة مقابلة لكل من روسيا والولايات المتحدة بخفض ترسانتيهما النوويتين أولاً، بينما أكدت روسيا جاهزيتها للانخراط في تلك المحادثات.
مؤشرات سباق التسلح:
تتعدد مؤشرات سباق التسلح إلى الحد الذي يشير إلى النهج المرحلي وسياسات القوى النووية الكبرى، ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلي:
1- مظاهر انفلات: انفلت عقال ضبط التسلح النووي لأول مرة منذ الحرب الباردة، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، مع تعليق العمل بمعاهدة “نيو ستارت” (New Start) بين موسكو وواشنطن، في فبراير 2023. والنقطة الأخطر من التعليق هي أن المعاهدة على وشك الانتهاء، وكان ينبغي أن يعمل الثنائي الروسي الأمريكي على بدء مباحثات حول إطار جديد.
لقد سبقت هذه الخطوة عملية انسحاب الولايات المتحدة، عام 2019، من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF Treaty)، وهي مسألة كانت متوقعة بفعل التطورات التي شهدتها وسائل إيصال هذه الأسلحة عموماً، وعدم القدرة على الالتزام بمحددات المديات. والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي عملية تآكل الردع مع الوصول إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة الانتشار الصاروخي، ونشر أسلحة في المحيط الهادي، وربما يندرج موقف الرئيس ترامب من السيطرة على جزيرة غرينلاند في هذا السياق.
2- قفزة إنفاق تسلح نووي: قفز الإنفاق على التسلح النووي وتحديث القدرات والبنية التحتية، إلى مستويات قياسية. فوفق الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية (ICAN)، تنامي هذا الإنفاق عام 2023 بمقدار 10.8 مليار دولار، وتمثل الولايات المتحدة وحدها 80% من هذه الزيادة. في حين أن إجمالي الإنفاق الأمريكي يُقدر حالياً بنحو 51.5 مليار دولار، مع رصد ميزانية تُقدر بنحو 1.5 تريليون دولار للتحديث حتى عام 2040.
وعلى الرغم من أن الصين تحل في المرتبة الثالثة عالمياً في الوزن النووي؛ فإنها صعدت إلى المرتبة الثانية من حيث الإنفاق المُقدر بنحو 11.9 مليار دولار، تليها روسيا التي تحل في المرتبة الثالثة من حيث مستوى الإنفاق بقيمة 8.3 مليار دولار. ثم تأتي بريطانيا رابعاً، حيث تقترب من سقف الإنفاق الروسي بنحو 8.1 مليار دولار، وفي المرتبة الخامسة توجد فرنسا بمعدل إنفاق يقدر بنحو 6.1 مليار دولار، ولديها خطة تحديث معلنة (ما يقارب 60 مليار يورو بين 2023 و2030 لتطوير الثالوث النووي) في إطار مسعى استقلال القرار النووي.
3- عمليات إعادة الانتشار: على مستوى الانتشار النووي، وهو مؤشر آخر يرتبط بالعوامل الجيوسياسية، يمكن القول إن القوى النووية كافة في حالة إعادة انتشار. فعلى سبيل المثال، نشرت روسيا أسلحة نووية في بيلاروسيا، وفي المقابل هناك تحرك عملياتي لحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وفي حالة الصين، هناك توسع أكثر منه إعادة انتشار. وتعمل الصين، وفق تقديرات الاستخبارات الأمريكية، على بناء صوامع جديدة للصواريخ البالستية العابرة للقارات ICBMs))، وزيادة عدد الرؤوس النووية، وتعزيز قدرة الثالوث النووي. بينما تتعدد مظاهر الانتشار الأمريكي ضمن خطة إعادة انتشار “الناتو” في أوروبا من جهة، وأيضاً تحالف “أوكوس” خارج “الناتو”، والذي يتمحور من الناحية التسليحية حول بناء غواصات نووية متقدمة.
وفيما يتعلق بالعوامل الجيوسياسية، من الأهمية بمكان التطرق إلى خريطة النقاط الساخنة ذات الصلة في أوكرانيا، وفي هذا الصدد اقترح مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، في يناير 2025، خطة تحوط للانتشار في رؤية تفصيلية تحت عنوان “ردع روسيا: الموقف العسكري الأمريكي في أوروبا”. وفي السياق ذاته أيضاً، يمكن النظر إلى موقف الصين من تايوان، وهي نقطة حرجة في ميزان العلاقات الأمريكية الصينية، وطُرحت على طاولة المفاوضات الرسمية وغير الرسمية بين الطرفين، وتم التوافق على أساس المبادئ الصينية بـ”عدم الاستخدام الأول” بمعنى عدم المبادرة بالضربة الاستباقية أو الأولى، ولكن هناك بعض الآراء تجادل في أنه في سيناريو اندلاع حرب لا يتعين النظر إلى هذه الوعود؛ لأنها قد تتغير بتغير عوامل طارئة لاسيما في ظل تحالف “أوكوس”.
4- تحديث القدرات والبنية التحتية النووية وإدماج الذكاء الاصطناعي: على نحو ما سلفت الإشارة إليه، يمكن القول إن برامج التحديث النووي قد تضفي تحديات هائلة على عملية العودة إلى ضبط التسلح، ودلالة ذلك أن عمليات التحديث الحالية هيكلية؛ بمعنى أنها ستنتج في الأخير جيلاً جديداً ومختلفاً من القدرات النووية ووسائل إيصالها. فعلى سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة بتحديث قنابل الجاذبية النووية (B61-12) في أوروبا، حيث إنه لديها نحو 100 قنبلة مخزنة في أوروبا من طراز (B61-3) و(B61-4)، ومع ذلك لم تنفذ خطة نشرها التي كانت مقررة عام 2022 مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وفي أوروبا أيضاً، هناك عملية تحديث وصيانة للمخازن النووية، ربما التي ستضم المخزون النووي الجديد لقنابل الجاذبية.
ولعل القاسم المشترك في برامج التحديث النووي لدى الجميع هو إدماج الذكاء الاصطناعي (AI) فيها، ويبررون ذلك بتعزيز فعالية وأمان ومرونة الأسلحة النووية، وجعلها أكثر دقة وقدرة على المناورة لتجنب الدفاعات الجوية، بالإضافة إلى تحسين أنظمة القيادة والسيطرة Nuclear Command and Control)) دون منحها صلاحية اتخاذ القرار النهائي، وهي نقطة مهمة بالنظر إلى مخاوف الخروج عن السيطرة. كما تطور الولايات المتحدة أنظمة مثل “إيجيس” (Aegis) و”ثاد” (THAAD)، بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحسين القدرة على اعتراض الصواريخ النووية. وربما هناك تجارب أولوية على عملية الانتشار في إسرائيل خلال عمليات المواجهة بين إسرائيل وإيران.
وفي المقابل، تطور الصين وروسيا رؤوساً نووية ذكية، يمكنها تغيير مسارها أثناء التحليق؛ مما يجعل اعتراضها شبه مستحيل. وفي الجانب الروسي، يجري تطوير أنظمة مضادة للصواريخ تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل (S-500 Prometheus) القادر نظرياً على اعتراض صواريخ فرط صوتية.
ويمكن لأنظمة التعلم الآلي أن تحلل أنماط التهديدات وتقديم توصيات استراتيجية حول كيفية الرد على أي هجوم نووي مُحتمل. كما يساعد الذكاء الاصطناعي على محاكاة سيناريوهات الحرب النووية لتحديد أفضل الطرق للردع وتقليل مخاطر التصعيد. ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة الطائرات والغواصات المُسيَّرة النووية، فروسيا تطور الطوربيد النووي (Poseidon)، وهو غواصة مُسيَّرة يمكنها العمل بشكل مستقل باستخدام الذكاء الاصطناعي لمهاجمة السواحل الأمريكية. في حين تعمل الصين على تطوير طائرات مُسيَّرة قادرة على حمل أسلحة نووية؛ مما قد يغير شكل الحرب النووية التقليدية. وهناك تقارير تشير إلى أن كوريا الشمالية قد تعمل على محاكاة الاتجاه الصيني.
فرص وقيود:
على هذا النحو، يمكن مناقشة الفرص والقيود لبدء عملية ضبط التسلح النووي متعدد الأطراف، فمن جهة لا تعكس مؤشرات تطور برامج القوى النووية العظمى جدية الدعوة حول إعادة ضبط التسلح، بل على العكس يُتوقع أنه كلما تزايدات الدعوات لخفض التسلح النووي أن تكون ردة الفعل هي تسريع وتيرة سباقات التسلح النووي في ظل ما يُطلق عليه “حقبة الحرب الباردة النووية الجديدة”.
وفيما يتعلق بالفرص، يمكن القول إن التحدي الرئيسي يتمثل في صعوبة العودة إلى قواعد ضبط التسلح التي كانت قائمة منذ زمن الحرب الباردة وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي مثلت نقطة محورية في تراجع ضبط التسلح؛ ومن ثم قد تشكل عملية وقف الحرب الأوكرانية نقطة بداية لمحادثات ضبط التسلح، لكنها ستظل على المستوى الثنائي (الروسي الأمريكي/ الناتو)، ومع ذلك يتعين فتح الباب لتشجيع الصين من خلال جدول أعمال مرن، لا يبدأ بالحظر أو النزع؛ لأنه قد لا يكون أمراً منطقياً بالنسبة لبكين.
والنقطة الأخرى التي يتعين النظر إليها في مساحة الفرص والقيود هي عدسة العلاقات الدولية والنظام الدولي، فواحدة من الفرضيات التي يمكن تصورها هي أن عملية ضبط التسلح النووي قد تكون في الوقت ذاته أحد مداخل أو محاور ضبط النظام الدولي متعدد الأقطاب الذي يُعاد تشكيله. وهناك محطات حساسة في إعادة تشكيل النظام الدولي؛ إذ ربما تنظر الصين إلى أن تجربة ضبط التسلح في زمن الحرب الباردة جاءت في الأخير لصالح الولايات المتحدة.
وعلى مستوى القيود، يمكن القول إن نقطة البدء في أي محادثات حتى ولو على المستوى الثنائي الروسي الأمريكي، لن تكون هينة، حيث إن مفردات السباق النووي الفنية باتت مختلفة كلية عن حقبة ضبط التسلح السابقة، وهي مسألة حيوية؛ لأنها قد تُعقد ترجمة أي محادثات نووية بين القوى الدولية. ويأتي في المقدمة منها أنه لا يمكن تصور أن اتجاه “الخفض الكمي” قد يكون نقطة البداية المُثلى، ففي العصر النووي الحالي (العصر النووي الثالث) لا يعني خفض عدد الرؤوس النووية بالتبعية توقف سباقات التسلح.
وسيتطلب الأمر كذلك إعادة النظر في تشكيل الطواقم واللجان الفنية متعددة الأطراف، وهي آلية لم تكن قائمة من قبل، إضافة إلى ترتيبات عملية الإنذار المبكر، ومعالجة الاعتبارات الجيوسياسية التي تعكس سياسات إعادة الانتشار والتوسع الهيكلي في الثالوث النووي، فضلاً عن معالجة ملفات الأطراف الإقليمية الساعية إلى حيازة أسلحة نووية مثل كوريا الشمالية وإيران.
العودة إلى ضبط التسلح النووي:
قد لا يكون التوقيت مثالياً للعودة إلى ضبط التسلح النووي، في ظل حالة سباق التسلح متعددة الأطراف، ووفق المؤشرات التي تم استعراض جانب منها، فالمتوقع هو الاستمرار في عملية سباق التسلح في المرحلة المقبلة، بالرغم من توقع تزايد الدعوات ومبادرة خفض التسلح سياسياً ودبلوماسياً، بغض النظر عن القدرة على ترجمة ذلك من عدمه وذلك في سياق ما تمت الإشارة إليه من تحديات مرحلية. وربما الأبرز في هذا الصدد هو رغبة الصين في تحقيق شرط “التكافؤ النووي”، وهو ما يعده مراقبون بمثابة “الشرط المستحيل” الذي لن يقبله الآخرون، فلا واشنطن ولا موسكو ستخفضان ترسانتيهما النوويتين.
لكن ربما يمكن تصور نقطة البدء في العودة إلى سياسات ضبط التسلح، فعلى المدى المتوسط قد يتعين أن تبدأ من محطات مختلفة غير نزع الأسلحة أو الخفض، مع الاتفاق على أن هذا هو الهدف، وهي نقطة مختلفة عن سياق الحرب البادرة، وكان هذا الأمر منطقياً في السابق مع وجود أكثر من 70 ألف رأس نووي في العالم كان بإمكانها أن تحول أي صراع إلى سيناريو “يوم القيامة”.
وقد تكون خيارات نقطة البداية المُثلى غير مباشرة، مثل تسوية أو خفض الصراعات ذات البعد الجيوسياسي بين القوى الثلاث الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، سواء الحرب الروسية الأوكرانية، أم تهدئة الوضع بشكل استباقي فيما يتعلق بمسألة تايوان، وكلاهما ممكن في ظل سياسات ترامب في ولايته الثانية. لكن الأمر لا يتوقف على الجانب الأمريكي فقط.
وقد يتمثل الخيار الآخر في الجوانب الفنية التي يمكن أن تخضع لضوابط أكثر حزماً، ولاسيما أن عملية التطور الهيكلي مع الانتشار الجيوسياسي، وربما احتمال الانتشار في فضاءات أخرى مستقبلاً، لا تتحمل المجازفة بالبشرية، لكن اقتناء الأسلحة وخاصةً النووية لا يفترض بالضرورة تصور منطق الحكمة، وإن كان سيظل هناك من يمكنه اقتناص لحظة الحكمة ودخول التاريخ من بوابة إنقاذ البشرية.
” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”
المصدر: جريدة الوطن
كلمات دلالية: الحرب الروسیة الأوکرانیة الذکاء الاصطناعی الولایات المتحدة الحرب الباردة سباق التسلح ملیار دولار العودة إلى فی أوروبا
إقرأ أيضاً:
50 عاما على نهاية حرب فيتنام التي غيّرت أميركا والعالم
لم يكن 30 أبريل/نيسان 1975 يوما عاديا في التاريخ الفيتنامي، فقد انتصرت فيتنام الشمالية آنذاك، وأُعيد توحيد شطري البلاد بعد حربين مع إمبراطوريتين أودتا بحياة نحو مليوني فيتنامي، وفقدت فرنسا كامل نفوذها تقريبا بالمنطقة، بينما خسرت الولايات المتحدة -التي تورطت بعدها- نحو 58 ألف جندي و120 مليار دولار في الحرب التي باتت الأكثر "إذلالًا" في تاريخها.
وبدت حرب فيتنام -أو حروبها- بتشابكاتها الدولية والإقليمية تجسيدا لنظرية "الحرب التي تلد أخرى" في ظل صراع ساخن في بواكير الحرب الباردة. فقد أدت معركة ديان بيان فو (13مارس/آذار-7 مايو/أيار 1954) عمليا إلى نهاية الإمبراطورية الاستعمارية الفرنسية في منطقة الهند الصينية برمتها، وخسرت أيضا مستعمراتها الأخرى في أفريقيا بفعل صعود حركات التحرير التي تأثرت بالمقاومة الفيتنامية، وبمفاعيل "نظرية الدومينو" العسكرية والسياسية.
اقرأ أيضا list of 4 itemslist 1 of 4كوارث بيئية لا تنسى.. "العامل البرتقالي" الأميركي بفيتنامlist 2 of 4الجزيرة نت في فيتنام.. احتفالات عارمة في "هو تشي منه" بخمسينية النصر والوحدةlist 3 of 4حرب فيتنام.. خمسينية النصر والوحدةlist 4 of 4هو شي منه قائد ثورة فيتنام ضد فرنسا وأميركاend of listكانت حرب فيتنام نتاج سنوات من مقاومة الاحتلال الفرنسي للبلاد (منذ عام 1883) ثم الغزو الياباني الذي انتهى بهزيمتها في الحرب العالمية الثانية، والمد الشيوعي في المنطقة وصراع الأيديولوجيات، ومحاولات تقسيم البلاد، وبلغت أوجها مع التدخل الأميركي العسكري المباشر لمحاولة صد التوغل الشيوعي السوفياتي الصيني.
إعلانوعمليا، لم تكن حرب الهند الصينية الأولى (بين عامي 1946 و1954) معركة الولايات المتحدة، لكنها كانت تمول فعليا نحو 78% من تكلفة تلك الحرب -وفق أوراق البنتاغون المنشورة عام 1971- وتقدم مساعدات عسكرية ولوجستية ضخمة لفرنسا، خوفا من التمدد الشيوعي وسيطرة الصين على المنطقة وصعود الاتحاد السوفياتي إذا هزمت القوات الفرنسية.
كما ناقش المسؤولون الأميركيون -تبعا لهواجسهم تلك- دعما إضافيا لفرنسا ضمن ما عرف بـ"عملية النسر" (Operation Vulture) وهي مقترح خطة عسكرية كبيرة، من أجل إسناد الفرنسيين في معركة ديان بيان فو، وضعها الرئيس دوايت آيزنهاور (حكم بين 1953 و1961) ومستشاروه.
وتضمنت العملية -اعتمادا على وثائق رفعت عنها السرية- قصفا مركزا ومكثفا مع احتمال استخدام قنابل ذرية اقترح تقديمها لفرنسا، وتدخلا بريا. لكن العملية لم تنفذ في النهاية وانسحبت فرنسا بخسائر فادحة، بعد توقيع اتفاقية جنيف للسلام في يوليو/تموز 1954 التي نصت على تقسيم فيتنام إلى شطرين، ولم توقع الولايات المتحدة وحكومة سايغون الموالية لها على الاتفاق رغم حضورهما. وبدأ التورط الأميركي العسكري تدريجيا لحماية النظام الموالي لها في فيتنام الجنوبية ومحاربة المد الشيوعي، إلى حد التدخل المباشر والمعلن عام 1963.
في منتصف عام 1968، وتحت ورطة الفشل في حرب فيتنام، اعتمد الرئيس الأميركي ريتشارد نيكسون (1969-1974) على مبدأ تحقيق "السلام بالقوة" عبر "المزيد من قاذفات بي 52" التي أوصاه بها وزير خارجيته هنري كيسنجر، مبتدعا ما سماها "نظرية الرجل المجنون".
ويكشف رئيس موظفي البيت الأبيض بوب هالدمان في مذكراته عام 1994 عن إستراتيجية الرئيس نيكسون لإنهاء حرب فيتنام التي أسرّ له بها قائلا "أنا أسميها نظرية الرجل المجنون، بوب.. سنرسل لهم رسالة مفادها يا إلهي، أنتم تعلمون أن نيكسون مهووس بالشيوعية لا يمكن كبح جماحه عندما يكون غاضبا ويده على الزر النووي.. سيصل هو شي منه (الزعيم الفيتنامي) بنفسه إلى باريس في غضون يومين ويطلب السلام".
إعلانوكتب هالدمان أن الرئيس نيكسون سعى إلى تنفيذ إستراتيجية التهديد باستخدام القوة المفرطة لتقويض خصومه، وإجبارهم على الاستسلام أو التسوية. وبهذه الطريقة، يصبح عدم يقين الفيتناميين بشأن الخطوات المستقبلية للزعيم "أداة إستراتيجية في حد ذاتها".
وفي 4 أبريل/نيسان 1972 قال نيكسون لهالدمان والمدعي العام جون ميتشل "لم يُقصف الأوغاد قط كما سيُقصفون هذه المرة" عند اتخاذه قرارا بشن ما أصبح يُعرف باسم عملية "لاينباكر التي مثلت تصعيدا هائلا في المجهود الحربي، الذي شمل قصف ميناء هايفونغ، وحصار ساحل فيتنام الشمالية، وحملة قصف جديدة ضخمة ضد هانوي.
ولا تثبت الوقائع التاريخية أن الزعيم الفيتنامي هو شي منه خضع لنظرية "الرجل المجنون" عندما تم توقيع اتفاق السلام في باريس يوم 23 يناير/كانون الثاني 1973، لكن الولايات المتحدة استخدمت قوة هائلة ومفرطة لمحاولة إخضاع الفيتناميين، وفكرت في استعمال السلاح النووي.
كانت نظرية "الرجل المجنون" تجسيدا للإحباط الذي أصاب الإدارة الأميركية من صمود المقاومة الفيتنامية والخسائر الفادحة في صفوف الجيش الأميركي، ومن حركة الرفض الواسعة للحرب في المجتمع الأميركي، واهتزاز الضمير العالمي من المشاهد المؤلمة للمجازر البشعة، سواء في مذبحة "ماي لاي" في 16 مارس/آذار 1968 التي قتل فيها 504 من المدنيين العزل، وغيرها من المجازر.
وفي المقابل، كانت نظرية الجنرال فو نغوين جياب قائد قوات قوات "الفيت منه"(رابطة استقلال فيتنام) تراوح بين خطتي "هجوم سريع.. نصر سريع" و"هجوم ثابت.. تقدم ثابت" واعتماد الحرب الشعبية وحروب العصابات الخاطفة واستنزاف العدو، حيث يقول في مذكراته "إن كل واحد من السكان جندي، وكل قرية حصن" وكانت نظريته أن حرب العصابات هي "حرب الجماهير العريضة في بلد متخلف اقتصاديا ضد جيش عدواني جيد التدريب".
بدأ التورط الأميركي عمليا في حرب فيتنام بعد خروج القوات الفرنسية، ومنذ عام 1961 أرسلت واشنطن 400 من الجنود والمستشارين لمساعدة حكومة سايغون الموالية في مواجهته قوة هو شي منه الشيوعية، ومع التوصيات بزيادة المساعدات استجاب الرئيس جون كينيدي. وبحلول عام 1962 زاد الوجود العسكري الأميركي في جنوب فيتنام إلى نحو 9 آلاف جندي.
إعلانومع بداية عهد الرئيس ليندون جونسون (1963-1969) -الذي منحه الكونغرس صلاحيات واسعة في الشؤون الحربية- بدأت القاذفات الأميركية تنفيذ عمليات قصف منتظمة على فيتنام الشمالية وقوات "الفيت- كونغ" (الجبهة الوطنية لتحرير جنوب فيتنام). وفي مارس/آذار 1965، بدأ تدفق القوات الأميركية إلى فيتنام الشمالية، حتى وصل إلى 200 ألف عام 1966، ثم نحو 500 ألف في نوفمبر/تشرين الثاني 1967.
وكانت قوات الزعيم هو شي منه، وقائد العمليات الجنرال جياب، تعتمد على التكتيكات الحربية النوعية والهجمات الخاطفة والكمائن والأنفاق والحرب الطويلة الأمد كما كانت تعتمد على الإمدادات القادمة من كمبوديا ولاوس المجاورتين، وعلى الدعم النوعي الذي تتلقاه من الصين ومن الاتحاد السوفياتي، خصوصا منظومات الدفاع الجوي التي أسقطت عشرات قاذفات "بي-52". ومع بداية عام 1968 بلغت الخسائر الأميركية 15 ألف قتيل و109 آلاف جريح.
وفي المقابل، زادت الولايات المتحدة من وتيرة القصف الجوي العنيف واستعمال الأسلحة المحرمة دوليا مثل "النابالم" وما سمي "العامل البرتقالي" -الذي يحتوي على "الديوكسين" وهو أكثر تلك المبيدات ضررا وفتكا- على فيتنام ولاوس وكمبوديا، ومازالت آثاره البيئية الخطيرة قائمة.
لم تكن الخسائر البشرية لوحدها ذات التأثير الأكبر فيما اعتبر هزيمة أميركية عسكرية وأخلاقية في فيتنام، فقد مثلت تلك الحرب أول "حرب تلفزيونية" مع بروز سطوة التلفزيون والصورة، وكانت للتقارير الإعلامية عن المجازر في فيتنام ذات تأثير واسع في الرأي العالم الأميركي والعالمي وفي قرارات الإدارة الأميركية لاحقا، خصوصا صورة "طفلة النابالم" التي كانت تجري عارية بعد أن أسقطت طائرة أميركية مادة النابالم الحارقة على قريتها في 8 يونيو/حزيران 1972.
إعلانوفي 29 أبريل/نيسان 1975، ألقى الرئيس الأميركي جيرالد فورد (1974-1977) بيانا أعلن فيه إجلاء الموظفين الأميركيين من فيتنام قائلا "تعرض مطار سايغون لقصف صاروخي ومدفعي متواصل، وأُغلق بالكامل. تدهور الوضع العسكري في المنطقة بسرعة. لذلك، أمرتُ بإجلاء جميع الموظفين الأميركيين المتبقين في جنوب فيتنام" وكانت تلك نهاية الوجود الأميركي في هذه البلاد، ودخول قوات الجنرال جياب إلى المدينة اليوم التالي.
ولا تزال مجريات حرب فيتنام، بمآسيها وصمود مقاومتها وتوحيد شطريها، من بين أحداث العالم الفارقة خلال القرن العشرين، وواحدة من الحروب التي غيّرت وجه الولايات المتحدة والعالم بأبعادها العسكرية والسياسية وآثارها الإنسانية، كما باتت تكتيكاتها وأساليبها تدرس في الكليات العسكرية، وتتبعها حركات مقاومة أخرى حول العالم.
وبينما تحتفل بالذكرى الخمسين ليوم تحرير الجنوب وإعادة التوحيد الوطني، لم تعد مدينة سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية سابقا) -التي باتت تسمى هو شي منه نسبة إلى الزعيم الأسطوري لفيتنام- رهينة جراحات الماضي الأليم وأهواله، فقد تحولت على مدى الـ50 عاما الماضية إلى مدينة ناطحات سحاب براقة، وأعمال مزدهرة ومركز صناعي حيوي ونقطة جذب سياحية عالمية.