وجه الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، خلال كلمة ألقاها عبر الإنترنت أمام المنتدى الاقتصادي العالمي في دافوس، يوم 23 يناير 2025، دعوة إلى الصين لخفض ترسانة الأسلحة النووية. وفي المقابل، ردت الصين بدعوة مقابلة لكل من روسيا والولايات المتحدة بخفض ترسانتيهما النوويتين أولاً، بينما أكدت روسيا جاهزيتها للانخراط في تلك المحادثات.

وفي واقع الأمر، قد تكون هذه المواقف مكررة حرفياً في السنوات الماضية.

مؤشرات سباق التسلح:

تتعدد مؤشرات سباق التسلح إلى الحد الذي يشير إلى النهج المرحلي وسياسات القوى النووية الكبرى، ومن أبرز هذه المؤشرات ما يلي:

1- مظاهر انفلات: انفلت عقال ضبط التسلح النووي لأول مرة منذ الحرب الباردة، مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية في فبراير 2022، مع تعليق العمل بمعاهدة “نيو ستارت” (New Start) بين موسكو وواشنطن، في فبراير 2023. والنقطة الأخطر من التعليق هي أن المعاهدة على وشك الانتهاء، وكان ينبغي أن يعمل الثنائي الروسي الأمريكي على بدء مباحثات حول إطار جديد.

لقد سبقت هذه الخطوة عملية انسحاب الولايات المتحدة، عام 2019، من معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى (INF Treaty)، وهي مسألة كانت متوقعة بفعل التطورات التي شهدتها وسائل إيصال هذه الأسلحة عموماً، وعدم القدرة على الالتزام بمحددات المديات. والنتيجة التي ترتبت على ذلك هي عملية تآكل الردع مع الوصول إلى الحرب الروسية الأوكرانية، وزيادة الانتشار الصاروخي، ونشر أسلحة في المحيط الهادي، وربما يندرج موقف الرئيس ترامب من السيطرة على جزيرة غرينلاند في هذا السياق.

2- قفزة إنفاق تسلح نووي: قفز الإنفاق على التسلح النووي وتحديث القدرات والبنية التحتية، إلى مستويات قياسية. فوفق الحملة الدولية للقضاء على الأسلحة النووية (ICAN)، تنامي هذا الإنفاق عام 2023 بمقدار 10.8 مليار دولار، وتمثل الولايات المتحدة وحدها 80% من هذه الزيادة. في حين أن إجمالي الإنفاق الأمريكي يُقدر حالياً بنحو 51.5 مليار دولار، مع رصد ميزانية تُقدر بنحو 1.5 تريليون دولار للتحديث حتى عام 2040.

وعلى الرغم من أن الصين تحل في المرتبة الثالثة عالمياً في الوزن النووي؛ فإنها صعدت إلى المرتبة الثانية من حيث الإنفاق المُقدر بنحو 11.9 مليار دولار، تليها روسيا التي تحل في المرتبة الثالثة من حيث مستوى الإنفاق بقيمة 8.3 مليار دولار. ثم تأتي بريطانيا رابعاً، حيث تقترب من سقف الإنفاق الروسي بنحو 8.1 مليار دولار، وفي المرتبة الخامسة توجد فرنسا بمعدل إنفاق يقدر بنحو 6.1 مليار دولار، ولديها خطة تحديث معلنة (ما يقارب 60 مليار يورو بين 2023 و2030 لتطوير الثالوث النووي) في إطار مسعى استقلال القرار النووي.

 

3- عمليات إعادة الانتشار: على مستوى الانتشار النووي، وهو مؤشر آخر يرتبط بالعوامل الجيوسياسية، يمكن القول إن القوى النووية كافة في حالة إعادة انتشار. فعلى سبيل المثال، نشرت روسيا أسلحة نووية في بيلاروسيا، وفي المقابل هناك تحرك عملياتي لحلف شمال الأطلسي “الناتو”. وفي حالة الصين، هناك توسع أكثر منه إعادة انتشار. وتعمل الصين، وفق تقديرات الاستخبارات الأمريكية، على بناء صوامع جديدة للصواريخ البالستية العابرة للقارات ICBMs))، وزيادة عدد الرؤوس النووية، وتعزيز قدرة الثالوث النووي. بينما تتعدد مظاهر الانتشار الأمريكي ضمن خطة إعادة انتشار “الناتو” في أوروبا من جهة، وأيضاً تحالف “أوكوس” خارج “الناتو”، والذي يتمحور من الناحية التسليحية حول بناء غواصات نووية متقدمة.

وفيما يتعلق بالعوامل الجيوسياسية، من الأهمية بمكان التطرق إلى خريطة النقاط الساخنة ذات الصلة في أوكرانيا، وفي هذا الصدد اقترح مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية (CSIS)، في يناير 2025، خطة تحوط للانتشار في رؤية تفصيلية تحت عنوان “ردع روسيا: الموقف العسكري الأمريكي في أوروبا”. وفي السياق ذاته أيضاً، يمكن النظر إلى موقف الصين من تايوان، وهي نقطة حرجة في ميزان العلاقات الأمريكية الصينية، وطُرحت على طاولة المفاوضات الرسمية وغير الرسمية بين الطرفين، وتم التوافق على أساس المبادئ الصينية بـ”عدم الاستخدام الأول” بمعنى عدم المبادرة بالضربة الاستباقية أو الأولى، ولكن هناك بعض الآراء تجادل في أنه في سيناريو اندلاع حرب لا يتعين النظر إلى هذه الوعود؛ لأنها قد تتغير بتغير عوامل طارئة لاسيما في ظل تحالف “أوكوس”.

4- تحديث القدرات والبنية التحتية النووية وإدماج الذكاء الاصطناعي: على نحو ما سلفت الإشارة إليه، يمكن القول إن برامج التحديث النووي قد تضفي تحديات هائلة على عملية العودة إلى ضبط التسلح، ودلالة ذلك أن عمليات التحديث الحالية هيكلية؛ بمعنى أنها ستنتج في الأخير جيلاً جديداً ومختلفاً من القدرات النووية ووسائل إيصالها. فعلى سبيل المثال، قامت الولايات المتحدة بتحديث قنابل الجاذبية النووية (B61-12) في أوروبا، حيث إنه لديها نحو 100 قنبلة مخزنة في أوروبا من طراز (B61-3) و(B61-4)، ومع ذلك لم تنفذ خطة نشرها التي كانت مقررة عام 2022 مع اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية. وفي أوروبا أيضاً، هناك عملية تحديث وصيانة للمخازن النووية، ربما التي ستضم المخزون النووي الجديد لقنابل الجاذبية.

ولعل القاسم المشترك في برامج التحديث النووي لدى الجميع هو إدماج الذكاء الاصطناعي (AI) فيها، ويبررون ذلك بتعزيز فعالية وأمان ومرونة الأسلحة النووية، وجعلها أكثر دقة وقدرة على المناورة لتجنب الدفاعات الجوية، بالإضافة إلى تحسين أنظمة القيادة والسيطرة Nuclear Command and Control)) دون منحها صلاحية اتخاذ القرار النهائي، وهي نقطة مهمة بالنظر إلى مخاوف الخروج عن السيطرة. كما تطور الولايات المتحدة أنظمة مثل “إيجيس” (Aegis) و”ثاد” (THAAD)، بالاعتماد على الذكاء الاصطناعي لتحسين القدرة على اعتراض الصواريخ النووية. وربما هناك تجارب أولوية على عملية الانتشار في إسرائيل خلال عمليات المواجهة بين إسرائيل وإيران.

وفي المقابل، تطور الصين وروسيا رؤوساً نووية ذكية، يمكنها تغيير مسارها أثناء التحليق؛ مما يجعل اعتراضها شبه مستحيل. وفي الجانب الروسي، يجري تطوير أنظمة مضادة للصواريخ تعتمد على الذكاء الاصطناعي، مثل (S-500 Prometheus) القادر نظرياً على اعتراض صواريخ فرط صوتية.

ويمكن لأنظمة التعلم الآلي أن تحلل أنماط التهديدات وتقديم توصيات استراتيجية حول كيفية الرد على أي هجوم نووي مُحتمل. كما يساعد الذكاء الاصطناعي على محاكاة سيناريوهات الحرب النووية لتحديد أفضل الطرق للردع وتقليل مخاطر التصعيد. ويتم استخدام الذكاء الاصطناعي في أنظمة الطائرات والغواصات المُسيَّرة النووية، فروسيا تطور الطوربيد النووي (Poseidon)، وهو غواصة مُسيَّرة يمكنها العمل بشكل مستقل باستخدام الذكاء الاصطناعي لمهاجمة السواحل الأمريكية. في حين تعمل الصين على تطوير طائرات مُسيَّرة قادرة على حمل أسلحة نووية؛ مما قد يغير شكل الحرب النووية التقليدية. وهناك تقارير تشير إلى أن كوريا الشمالية قد تعمل على محاكاة الاتجاه الصيني.

فرص وقيود:

على هذا النحو، يمكن مناقشة الفرص والقيود لبدء عملية ضبط التسلح النووي متعدد الأطراف، فمن جهة لا تعكس مؤشرات تطور برامج القوى النووية العظمى جدية الدعوة حول إعادة ضبط التسلح، بل على العكس يُتوقع أنه كلما تزايدات الدعوات لخفض التسلح النووي أن تكون ردة الفعل هي تسريع وتيرة سباقات التسلح النووي في ظل ما يُطلق عليه “حقبة الحرب الباردة النووية الجديدة”.

وفيما يتعلق بالفرص، يمكن القول إن التحدي الرئيسي يتمثل في صعوبة العودة إلى قواعد ضبط التسلح التي كانت قائمة منذ زمن الحرب الباردة وحتى اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية التي مثلت نقطة محورية في تراجع ضبط التسلح؛ ومن ثم قد تشكل عملية وقف الحرب الأوكرانية نقطة بداية لمحادثات ضبط التسلح، لكنها ستظل على المستوى الثنائي (الروسي الأمريكي/ الناتو)، ومع ذلك يتعين فتح الباب لتشجيع الصين من خلال جدول أعمال مرن، لا يبدأ بالحظر أو النزع؛ لأنه قد لا يكون أمراً منطقياً بالنسبة لبكين.

والنقطة الأخرى التي يتعين النظر إليها في مساحة الفرص والقيود هي عدسة العلاقات الدولية والنظام الدولي، فواحدة من الفرضيات التي يمكن تصورها هي أن عملية ضبط التسلح النووي قد تكون في الوقت ذاته أحد مداخل أو محاور ضبط النظام الدولي متعدد الأقطاب الذي يُعاد تشكيله. وهناك محطات حساسة في إعادة تشكيل النظام الدولي؛ إذ ربما تنظر الصين إلى أن تجربة ضبط التسلح في زمن الحرب الباردة جاءت في الأخير لصالح الولايات المتحدة.

 

وعلى مستوى القيود، يمكن القول إن نقطة البدء في أي محادثات حتى ولو على المستوى الثنائي الروسي الأمريكي، لن تكون هينة، حيث إن مفردات السباق النووي الفنية باتت مختلفة كلية عن حقبة ضبط التسلح السابقة، وهي مسألة حيوية؛ لأنها قد تُعقد ترجمة أي محادثات نووية بين القوى الدولية. ويأتي في المقدمة منها أنه لا يمكن تصور أن اتجاه “الخفض الكمي” قد يكون نقطة البداية المُثلى، ففي العصر النووي الحالي (العصر النووي الثالث) لا يعني خفض عدد الرؤوس النووية بالتبعية توقف سباقات التسلح.

وسيتطلب الأمر كذلك إعادة النظر في تشكيل الطواقم واللجان الفنية متعددة الأطراف، وهي آلية لم تكن قائمة من قبل، إضافة إلى ترتيبات عملية الإنذار المبكر، ومعالجة الاعتبارات الجيوسياسية التي تعكس سياسات إعادة الانتشار والتوسع الهيكلي في الثالوث النووي، فضلاً عن معالجة ملفات الأطراف الإقليمية الساعية إلى حيازة أسلحة نووية مثل كوريا الشمالية وإيران.

العودة إلى ضبط التسلح النووي:

قد لا يكون التوقيت مثالياً للعودة إلى ضبط التسلح النووي، في ظل حالة سباق التسلح متعددة الأطراف، ووفق المؤشرات التي تم استعراض جانب منها، فالمتوقع هو الاستمرار في عملية سباق التسلح في المرحلة المقبلة، بالرغم من توقع تزايد الدعوات ومبادرة خفض التسلح سياسياً ودبلوماسياً، بغض النظر عن القدرة على ترجمة ذلك من عدمه وذلك في سياق ما تمت الإشارة إليه من تحديات مرحلية. وربما الأبرز في هذا الصدد هو رغبة الصين في تحقيق شرط “التكافؤ النووي”، وهو ما يعده مراقبون بمثابة “الشرط المستحيل” الذي لن يقبله الآخرون، فلا واشنطن ولا موسكو ستخفضان ترسانتيهما النوويتين.

لكن ربما يمكن تصور نقطة البدء في العودة إلى سياسات ضبط التسلح، فعلى المدى المتوسط قد يتعين أن تبدأ من محطات مختلفة غير نزع الأسلحة أو الخفض، مع الاتفاق على أن هذا هو الهدف، وهي نقطة مختلفة عن سياق الحرب البادرة، وكان هذا الأمر منطقياً في السابق مع وجود أكثر من 70 ألف رأس نووي في العالم كان بإمكانها أن تحول أي صراع إلى سيناريو “يوم القيامة”.

وقد تكون خيارات نقطة البداية المُثلى غير مباشرة، مثل تسوية أو خفض الصراعات ذات البعد الجيوسياسي بين القوى الثلاث الكبرى (الولايات المتحدة وروسيا والصين)، سواء الحرب الروسية الأوكرانية، أم تهدئة الوضع بشكل استباقي فيما يتعلق بمسألة تايوان، وكلاهما ممكن في ظل سياسات ترامب في ولايته الثانية. لكن الأمر لا يتوقف على الجانب الأمريكي فقط.

وقد يتمثل الخيار الآخر في الجوانب الفنية التي يمكن أن تخضع لضوابط أكثر حزماً، ولاسيما أن عملية التطور الهيكلي مع الانتشار الجيوسياسي، وربما احتمال الانتشار في فضاءات أخرى مستقبلاً، لا تتحمل المجازفة بالبشرية، لكن اقتناء الأسلحة وخاصةً النووية لا يفترض بالضرورة تصور منطق الحكمة، وإن كان سيظل هناك من يمكنه اقتناص لحظة الحكمة ودخول التاريخ من بوابة إنقاذ البشرية.

 

” يُنشر بترتيب خاص مع مركز المستقبل للأبحاث والدراسات المتقدمة، أبوظبى ”


المصدر: جريدة الوطن

كلمات دلالية: الحرب الروسیة الأوکرانیة الذکاء الاصطناعی الولایات المتحدة الحرب الباردة سباق التسلح ملیار دولار العودة إلى فی أوروبا

إقرأ أيضاً:

ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟

 

 

تبذل إدارة الرئيس الامريكي دونالد ترامب محاولات حثيثة من أجل تحقيق اختراق يقود إلى مفاوضات تنهي الحرب الروسية الأوكرانية على أمل أن يقود ذلك إلى مكاسب جيوستراتيجية كبيرة للولايات المتحدة التي تستعد لحشد مواردها لمواجهة النفوذ الصيني في آسيا، وسط عراقيل وتحديات تواجه هذه المبادرة التي لم تتخط حتى اليوم حدود الضغوط على كييف والتلويح بقبول موسكو هدنة جزئية مؤقتة مدتها 30 يوميا.

تحليل / أبو بكر عبدالله

حتى اليوم لم تتوفر أي صيغة جاهزة للصفقة المنتظر أن تقودها الولايات المتحدة لوقف إطلاق النار في الحرب الروسية الأوكرانية، غير أن تصريحات المسؤولين الأمريكيين تحدثت عن مسار يقترح خطتين هما الخطة (أ) التي تسعى إلى مبادرة البيت الأبيض لمفاوضات مع كل من أوكرانيا وروسيا لوقف إطلاق النار وفق خطة تستوعب شروط ومخاوف ومطالب الطرفين، ثم الخطة (ب) التي ستمثل المرحلة الثانية بجمع طرفي الصراع على طاولة مفاوضات مباشرة بمشاركة وسطاء دوليين سعيا إلى انهاء الحرب بشكل دائم على قاعدة احترام مصالح جميع الأطراف.
وعلى ضبابية هذه الخطة فقد جاءت تصريحات الرئيس ترامب لتزيل الغموض على فحوى المبادرة الأمريكية بعد أن أكد أن الحفاظ على وحدة أراضي أوكرانيا، وانضمامها لحلف شمال الأطلسي “الناتو” أمر مستحيل، ناهيك بإصداره أمرا تنفيذيا بتعليق المساعدات العسكرية والمعلومات الاستخباراتية المقدّمة لكييف، وتأكيده بأنه لن يعيدها إلا بعد قبول أوكرانيا بمشروعه للهدنة.
يمكن القول إن الإدارة الأمريكية لم تتجاوز حتى الآن المرحلة الأولى، حيث تمكنت تحت الضغط من انتزاع موافقة من الرئيس الأوكراني فلوديمير زيلينسكي لهدنة مؤقتة مع روسيا مدتها 30 يوما تقضي بعدم استهداف منشآت الطاقة، فيما أفضت المباحثات الهاتفية التي جمعت الرئيسين بوتين وترامب إلى انتزاع موافقة روسية للهدنة المؤقتة من دون أن تحقق أي اختراق مهم في جدار الأزمة يقود إلى وقف عملي للنار وانهاء الحرب.
وتبدو الرؤية التي تتبناها إدارة ترامب لإنهاء الحرب في أوكرانيا، تركز على الحل التفاوضي السريع مع روسيا، في ظل تقديم تنازلات إقليمية أو سياسية من الجانب الأوكراني.
وما هو واضح حتى الآن هو وجود تباين بين ما تريده موسكو وما تريده واشنطن فالأولى تريد مواقفه موسكو على وقف مؤقت لإطلاق النار، في حين تطالب موسكو بوقف دائم للحرب يقوم على إزالة أسبابها.
شروط متبادلة
الشروط المعلنة من جانب روسيا وأوكرانيا لا تزال قائمة حتى اليوم، حيث تتمسك روسيا بشروط صارمة لا تقبل التنازل وفي المقدمة تمسكها بالأراضي الأوكرانية التي ضمتها اليها بموجب استفتاء شعبي، ومعها أراضي شبه جزيرة القرم التي سيطرت عليها عام 2014، ورفضها نشر أي قوات من دول “الناتو” في أوكرانيا وإلغاء ملف انضمام أوكرانيا إلى حلف “الناتو”.
وتذهب الشروط الروسية إلى انسحاب الجيش الأوكراني إلى خارج حدود الأقاليم الأربعة التي تسيطر عليها، والاعتراف بالسيادة الروسية عليها، والتعهد بأن تصبح أوكرانيا خالية من الجيوش الأجنبية وعدم امتلاكها للسلاح النووي.
وطبقا لتصريحات سابقة للرئيس بوتين فإن موسكو قد توافق على اقتراح وقف إطلاق النار إن أدى إلى سلام مستدام وإزالة كل أسباب الصراع، وهي إشارة واضحة إلى تمسك موسكو بانتزاع اعتراف كييف بالسيادة الروسية على الأقاليم الأربعة المسيطر عليها من جانب روسيا وبقاء كييف في وضع محايد وعدم انضمامها إلى حلف “الناتو”.
وبالنسبة لكييف فهي تتمسك بعودة أراضيها، كما تعتبر انضمامها إلى حلف “الناتو” خيارا استراتيجيا غير قابل للتغيير خصوصا وهو منصوص عليه في الدستور الأوكراني، بوصفه الضمانة الأكثر فعالية لأمن أوكرانيا مستقبلا.
ورغم تراجع الاتحاد الأوروبي وقيادة حلف الناتو والولايات المتحدة عن مساعيها لضم أوكرانيا إلى الحلف الأطلسي، لا تزال أوكرانيا تتبنى رؤى مغايرة لتلك التي تتبناها واشنطن ودول أوروبية وذلك بدا واضحا من خلال التصريحات التي أطلقها مؤخرا وزير الخارجية الأوكراني والتي بدت متناقضة تماما مع ما أعلنه الأمين العام لحلف شمال الأطلسي مارك روته الذي سبق أن أعلن بأن مناقشة انضمام أوكرانيا إلى الحلف لم تعد قائمة.
يضاف إلى دوامة الشروط تلك التي أفصحت عنها الدول الأوروبية التي ساندت أوكرانيا بكل طاقاتها العسكرية والاقتصادية خلال السنوات الماضية، بعد الإعلانات المتضاربة التي تحدث عن قبول دول الاتحاد الرؤية الأمريكية بشروط نشر قوات للناتو في أوكرانيا، بالتزامن مع إعلانات أخرى تحدثت عن مواصلة دول أوروبا دعم أوكرانيا في حربها ماليا وعسكريا ومطالبة روسيا الانسحاب من الأراضي الأوكرانية كشرط لقبول وقف إطلاق النار وانهاء الحرب.
تحديات متوقعة
وفقا لخارطة الشروط التي يطرحها طرفا الصراع والأطراف الداعمة، فإن الكثير من التحديات تواجه إدارة ترامب في تحقيق اختراق بشأن هذا الملف، في ظل المطالب الروسية الصارمة والتي ترجح عدم موافقة موسكو على وقف إطلاق النار دون تنفيذها، وهي مسألة جوهرية بالنسبة لموسكو خصوصا وان الموافقة على انهاء الحرب دون الأخذ بالشروط الروسية قد يقود إلى تصاعد المعارضة الداخلية لنظام بوتين بصورة غير مسبوقة.
ولدى الروس مبرراتهم الوجيهة لذلك، والتي يتصدرها المكاسب التي حققتها موسكو خلال سنوات الحرب، في ضمها شبه جزيرة القرم والمقاطعات الأربع التي أعلنت ضمها إلى أراضيها (دونيتسك، لوغانسك، خيرسون، زابوريزجيا) منذ 2022، وهي مكاسب عسكرية لا يبدو أن موسكو بصدد التنازل عنها بعد أن حولت المقاطعات الأوكرانية إلى جمهوريات تتمتع بالحكم الذاتي تحت مظلة الاتحاد الروسي.
وهناك معطى آخر بالغ الأهمية بالنسبة لموسكو، وهو ضمانات تحييد أوكرانيا وعدم انضمامها إلى الحلف الأطلسي، وهذا الأمر ينظر اليه في روسيا على أنه هدف استراتيجي باعتباره يهدد الدولة الروسية كما يهدد المستقبل السياسي للرئيس بوتين، الذي طالما قدم هذه القضية بكونها صراعاً وجودياً لروسيا ضد “الناتو”.
ومن جانب آخر، فإن موسكو تبدو حريصة على ربط أي مفاوضات لإنهاء الحرب أو الهدنة برفع العقوبات الأمريكية والغربية، وهو شرط ترفضه واشنطن حتى الآن على الأقل كما ترفضه الدول الحليفة وتطالب لقائه انسحاب روسي كامل من الأراضي الأوكرانية.
وفقا لذلك فإن الراجح هو عدم موافقة موسكو على وقف لإطلاق نار دون شروط لأن ذلك سيعني عمليا، اعترافا بفشل أهداف عمليتها الخاصة التي كبدت روسيا خسائر هائلة، ناهيك عن ان قيامها بذلك سيشكل انتكاسة لمشروعها الاستراتيجي في ان تكون فاعلاً إقليمياً في عالم تريده أن يكون متعدد الأقطاب.
سيناريوهات بديلة
يمكن للرئيس ترامب ممارسة الضغوط على كييف من اجل القبول بأي صيغة من شأنها وقف النار وانهاء الحرب، غير أنه سيواجه صعوبات كبيرة في محاولاته الضغط على موسكو التي يطمح ترامب إلى بناء علاقات جديدة معها، ربما للتفرغ لملفات تبدو بالنسبة لترامب أكثر أهمية من أوكرانيا أو حلف الناتو.
والسبب في ذلك أن أوكرانيا تواجه معضلة معقدة، فهي وإن خضعت للضغوط الأمريكية وقبلت التنازل عن أراضيها لموسكو، فإنها ستواجه رفضا شعبيا داخليا مع وجود نسبة كبيرة من الأوكران الرافضين لفكرة التنازل عن الأراضي الأوكرانية لروسيا، ناهيك عن الموانع الدستورية، حيث يحرم دستور أوكرانيا التنازل عن أي أراض أوكرانية تحت أي ظروف.
وفقا لذلك فإن الخيارات أمام كييف تبدو ضيقة للغاية، إذ أن طول أمد الحرب مع روسيا من دون الدعم الأمريكي سيقود إلى استنزاف الموارد الأوكرانية بسرعة كبيرة، بما يؤدي في النهاية إلى قبولها بأي حل مطروح من دون شروط.
وتدرك كييف أن عدم قبولها الرؤية الأمريكية الآن، سيفقدها ميزات يمكن أن تحصل عليها من واشنطن على شاكلة الحصول على ضمانات أمنية أمريكية وترتيبات دفاعية كما سيفقدها تعويضات وبرامج إعمار كان يمكن ان تقودها واشنطن في حال موافقة كييف على خطة ترامب.
وخلافا للوضع في أوكرانيا فإن الإدارة الأمريكية تبدو مستعدة لتقديم تنازلات لروسيا بدلا من ممارسة الضغوط عليها، والمرجح أن يعرض الرئيس ترامب على موسكو تخفيف العقوبات على قطاعات روسية حيوية (مثل الطاقة) واستئناف التعاون في مجالات مثل الغاز والنفط، مقابل وقف مؤقت لإطلاق النار، حتى لو لم تستعيد كييف كل أراضيها.
وفي حال فشلت المبادرة الأمريكية الحالية، وذهبت العلاقات مع روسيا إلى المزيد من التوتر فإن أكثر ما يمكن أن تفعله إدارة ترامب هو مواصلة الدعم العسكري المقدم لكييف وهو أمر قد تواجهه روسيا التي خبرت الحرب مع الغرب الجماعي خلال السنوات الماضية، لكنه سيلقي بتبعات ثقيلة على دول القارة الأوروبية التي سيذهب ترامب بلا شك إلى تحميلها تكاليف استمرار الحرب في أوكرانيا باعتبارها المستفيد الرئيسي من حماية أمن أوكرانيا.
مكاسب أمريكية
غداة المباحثات الهاتفية التي جرت بين الرئيسين ترامب وبوتين مؤخرا كان ملاحظا في بيان الإدارة الأمريكية تشديدها على ما سمته “المزايا الهائلة” لإقامة علاقة ثنائية أفضل بين الولايات المتحدة وروسيا تُفضي إلى اتفاقات اقتصادية ضخمة محتملة.
هذا الأمر فتح باب التساؤلات حول المصالح التي تتوقع أمريكا جنيها من تبني إدارة ترامب مبادرة وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا، خصوصا وأن أي مبادرة من هذا النوع ستكون حتما جزءا من استراتيجية أوسع تضع المصالح الأمريكية في المقدمة وتجسد شعار ترامب “أمريكا أولا”.
ولم يعد خافيا ما تطمح اليه إدارة ترامب بإنهاء الصراع في أوكرانيا وبالمقام الأول تقليل الموارد المالية التي تتكبدها الخزينة الأمريكية لتمويل الجيش الأوكراني، ووقف استنزاف المخزونات العسكرية الأمريكية، وهي أمور ترى إدارة ترامب أنها ستساهم في توفير تمويلات مالية ضخمة يمكن استخدامها في خطط واشنطن الجديدة لتعزيز وجودها في المحيط الهادئ ومواجهة التوسع الصيني.
ومنذ وقت مبكر ترى الولايات المتحدة الصين التهديد الأكبر لحلفائها في آسيا مثل تايوان واليابان وكوريا الجنوبية وهي لذلك تسعى إلى تقليص الموارد التي توجهها لحماية أوروبا، وتوجيهها نحو آسيا، بما يتيح لها مواجهة التهديدات الصينية، فضلا عن طموحاتها بإقامة تحالفات جديدة من اجل احتواء النفوذ الصيني في آسيا.
صار من الواضح أن لدى واشنطن اليوم أهدافا استراتيجية كبيرة تسعى إدارة ترامب إلى تحقيقها من خلال هذه المبادرة وفي المقدمة تفكيك التحالفات الاستراتيجية بين روسيا والصين وإيران، أو على الأقل تقليل تماسكها، وكذلك مواجهة التهديد الذي تشكله منظمة بريكس” للاقتصاد الأمريكي بعد الإفصاح عن عملة بديلة للدولار الأمريكي بين دول مجموعة “بريكس”.
ولا تخفي واشنطن مخاوفها من المخاطر الجسيمة التي يشكلها التحالف الروسي الصيني خصوصا وهو قام على مبدأ رئيسي وهو مواجهة الهيمنة الأمريكية عبر التعاون العسكري والاقتصادي والتكنولوجي.
والحال كذلك مع الشراكة الروسية الإيرانية التي تضمنت التعاون العسكري والدعم السياسي في الملفات الإقليمية وتبادل الموارد من الأسلحة الدفاعية والهجومية.
حيال ذلك تأمل إدارة ترامب أن يقود وقف الحرب في أوكرانيا إلى المساهمة في تنفيذ سياساته الرامية إلى تفكيك التحالفات الاستراتيجية مع الصين، وتحميل الأوروبيين مسؤولية حماية أمنهم بما يسمح للولايات المتحدة بتحويل مواردها نحو آسيا.
مكاسب جيوستراتيجية
تبدي إدارة ترامب اليوم حماسة منقطعة النظير حيال التقارب مع موسكو من اجل تحقيق مكاسب جيوستراتيجية كبيرة عجزت الإدارة السابقة عن تحقيقها وفي المقدمة إنهاء التحالف الروسي الصيني والإيراني الروسي.
أداتها لتحقيق ذلك هي إنهاء العزلة الدولية المفروضة على موسكو وتخفيف العقوبات الدولية عليها، حيث أن عودة روسيا إلى النظام الدولي سيقود إلى تباعد بينها وإيران، في حين أن إعادة روسيا إلى المنظومة الاقتصادية الغربية، بالسماح لها بتصدير النفط والغاز الروسي إلى أوروبا سيقود إلى تقليل اعتماد موسكو على الصين كشريك اقتصادي وحيد وقد يضعف تحالفها مع الصين.
ولأبعد من ذلك فإن إدارة ترامب تسعى إلى حصول تحسن بالاقتصاد الروسي يعيد موسكو إلى المنافسة في سوق السلاح إلى دول الشرق الأوسط، عوض التعاون مع إيران في سباق تسلح ترى واشنطن أنه قد يقوض المصالح الأمريكية في المنطقة.
وبالمقابل فإن واشنطن تسعى إلى إحياء التنافس الخفي بين روسيا والصين على النفوذ في آسيا الوسطى والقطب الشمالي ولذلك تسارع إدارة ترامب لإنجاح مفاوضات وقف النار وانهاء الحرب في أوكرانيا لتكون بوابة لعلاقات جديدة مع روسيا، تفتح الطريق لاستئناف الحوار الاستراتيجي مع روسيا، ولا سيما في مفاوضات الحد من الأسلحة النووية ودفع روسيا لتبني مواقف أكثر تعاونا مع الغرب بما يتيح لأمريكا والغرب منع إيران من امتلاك الأسلحة النووية.

 

مقالات مشابهة

  • ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
  • حين تنهار الضمانات.. سباق التسلح النووي يعود من جديد
  • فورمولا 1.. الأسترالي أوسكار بياستري يتوج بجائزة الصين الكبرى
  • رداً على رسالة ترامب..إيران: لا يمكن العودة إلى اتفاق 2015 النووي
  • فولكر بيرتس .. “القوى المدنية الصغيرة” التي شكلت مؤخرًا تحالفًا سياسيًا مع قوات الدعم السريع لتشكيل حكومة فقدت كل شرعيتها
  • بعد نزع سلاحها..ويتكوف: يمكن لحماس العمل السياسي في غزة بعد الحرب
  • أمريكا والحشد الشعبي.. هل يمكن أن تكشف أسرار قاعدة البيانات التي تعيق الملاحقة؟
  • أمريكا والحشد الشعبي.. هل يمكن أن تكشف أسرار قاعدة البيانات التي تعيق الملاحقة؟ - عاجل
  • إسرائيل تعود إلى الحرب في غزة بأهداف أوسع وقيود لا تُذكر
  • نوريس يتصدر التجارب الحرة لسباق جائزة الصين الكبرى