سودانايل:
2025-03-25@04:04:54 GMT

عن انهيار الطبقة الوسطى في السودان

تاريخ النشر: 17th, February 2025 GMT

في لقاء لي مطوّل مع المهندس صلاح إبراهيم أحمد، في منزله في الخرطوم، قال لي إنه سأل حسن الترابي (رحمهما الله) عقب انقلاب الجبهة الإسلامية القومية في 1989 عن تصوّره لكيفية التخلص من المقاومة المدنية، خصوصاً التي تعتمل دوماً في قرائح طلاب الجامعات في السودان، فقال له عبارة موجزة، لكنها بليغة الأثر في عمقها ومحتواها: حأعدّمهم الساندوتش (سيلهيهم في مسألة المعاش).



المسرحية التي أدخل بوجبها الترابي السجن والونسات والدردشات بينه وبين النخبة آنذاك، كشفتا مبكّراً عن مخطط الجبهة الإسلامية القومية، وعن طرائق تفكيرها في كيفية التغلب على المقاومة السياسية المدنية التي طالما قطعت الطريق على أطماع القيادات العسكرية في السودان وطموحها، من خلال المحاولة للتخلص كليّاً من الطبقة الوسطى التي تعتبر العمود الفقري للمجتمع المدني، كما يقول روبرت بتنام ولاري ديموند وآخرون. وإذ نجحت الجبهة الإسلامية القومية في مبتغاها، فقد أورثت السودان فشلاً سياسياً وفكرياً وأخلاقياً، جعل من الصعب، إذا لم يكن من المستحيل، تدارك المعضلات حضارياً ومدنياً، الأمر الذي بات الشعب يعاني من مغبّته ويعايش تداعياته، خصوصاً بعد اندلاع الحرب الحالية.

نجحت تلكم العصابة في مرادها ورضيت بانفرادها بالحكم ثلاثة عقود أو يزيد، لكن ذلك كان على حساب الإضرار بالنقابات والأحزاب، وإضعافها إلى درجة فقدت فيها الأخيرة الحيلة للقيام بدورها وسيطاً بين الشعب ومؤسّساته الدستورية، بين المهنيين ونقاباتهم الشرعية، بين القوات النظامية وأدوارها الوظيفية، إلى آخره. كذلك إن محاولة اقتلاع السودان من محيطه الأفريقي الصوفي والروحاني الإنساني والعزم، بل التعنت في محاولة لإلحاقه بالفضاء المشرقي الأيديولوجي والسلفي الدوغمائى قد قضى على كل روافد الثقافة التي تعتبر عماد النهضة ومرتجع الذات المفعمة بالأريحية والمحرِّضة على تتبع دروب التثاقف والتواصل مع الآخر.

ولذا عندما انفجرت ثورة ديسمبر المجيدة في 2019، لم تكن لقيادتها، خصوصاً النخب المركزية، أي موجهات فلسفية أو فكرية، مجرّد حمولات عاطفية سرعان ما تبخّرت، فيما ظل الإبحار العنيف لسفينة الثورة يواجه صعوبات جمّة، سيما أن القطبان حينها، عبد الله حمدوك، لم يستطع أن يوازن بين التطلعات والمعضلات، بين تطلعات الشباب ومعضلات الانتقال، بين طموحات العسكر وأطماع القوى الإقليمية، بين المقدّرات المؤسسية والمؤامرات التي ظل يحيكها أزلام النظام السابق.

عليه، يجب ألا ننظر إلى الحرب الراهنة في السودان على أّنها مجرّد تمرّد من فئة طامحة إلى الحكم، وإن يكن فإنّه لم يكن أول تمرّد وحتماً لن يكون الأخير، بيد أنه تمرّد من نوعية مربكة لذهنية النخب المركزية ونفسيتها، لأنه لأول مرة يحدث من المجموعة القبلية نفسها التي ظلت تستخدمها النخب المركزية لتطويع الهامش قسرياً، وتنظر إليها باعتبارها ساعداً عضلياً لزم استخدامه لقمع الطموحات المشروعة للشعوب المقهورة في الريف السوداني.

هذه الحرب، يا سادتي، هي نتيجة انهيار لمنظومة بدأت تتآكل منذ أمد بعيد، منظومة تحكّمت فيها عصابات مافيوية، وجدت ضالتها في "برنامج الإصلاح الهيكلي"، فأحالت ممتلكات القطاع العام إلى حسابها الخاص، الأمر الذي أفقد الدولة وظيفتها الأساسية التي تتعلق بتنظيم الاقتصاد، وضع ضوابط التجارة والاستثمار، ترشيد الصرف، ضمان الأمن الغذائي للمواطنين، تأهيل البنية التحتية، إلى آخره. لا غرو، فالحروب العبثيّة التي أشعلتها جبهة الإنقاذ، وما زالت توقد أوارها، قد أفقدت الدولة المركزية الحيلة اللازمة لتحقيق التنمية الريفية الشاملة، بالنظر إلى ما أهدر من موارد مادّية وروحية، كان يمكن أن تساعد في تحقيق التماسك الوجداني للشعب السوداني.

ما إن اشتعل فتيل الحرب، حتى هرع البرجوازي الصغير وجزع متباكياً على بيته، عربته، وذهب امرأته، من دون أن يكلف نفسه النظر في دواعي الغبن الاجتماعي الذي جعل العاصمة نهباً من أطرافها ومقصداً للمحرومين مع جهاتها الأربع. ليت الأمر توقف عند حد الازدراء، لكنه تعدّى ذلك إلى الافتراء، ووصف هؤلاء المستضعفين المُستَغَلين بأنهم غرباء.

من هُجّروا نتيجة الحروب التي قادتها "الإنقاذ" في الريف السوداني، وما تلا ذلك من حرب إبادة جماعية في دارفور وجبال النوبة وجنوب كردفان، قد أحال العاصمة إلى كانتونات عرقية (فأحياء من مثل جبرونا وطردونا وزقلونا والعزبة ورأس الشيطان تُنبئ مسمّياتها عن غبن ساكنيها وغضبهم المكتتم)، وأخرى كالتي حفِلت بها قرى الجزيرة فيما سمّي الكنابي، قد افتقدت لعقود مضت إلى أبسط الخدمات أو المقومات الحياتية، وهم اليوم يُقَتّلون ويذبّحون، حتى كاد رفاتهم المتراكم أن يغلق منفذ الترعة، من دون أن يسترعي ذلك اهتمام العسكر أو يستدعي رأفة من قلوبهم التي جُبِلت على استضعاف البؤساء والنساء وأصحاب السحنات السوداء.

يجب ألا ننسى الألغام الاجتماعية والقبلية، بخاصة التي زرعتها ذات المجموعة المتنفذة، الاستخبارات العسكرية بالتحديد، التي دأبت على إدارة الشأن الأمني بعقلية تآمريه، فانفجرت في دار مساليت، مضحّية بحياة حاكم الإقليم ومتسبّبة في مقتل آلاف من شعوب دار مساليت ونزوحهم. أمّا من بقي من شعوب دارفور، فتطاوله طائرات النظام الغاشم بوتيرة شبه يومية بالبراميل المتفجّرة التي تترصد المدنيين، في محاولة لكسر إرادتهم وهزيمة كبريائهم التي صانتها الحادثات وأيدته السنن الراتبات.

بما أن محور النقاش في هذه الورقة هو الاقتصاد السياسي، فيلزم التحدّث عن رؤية وطنية تتجاوز الحيف الذي ظلت تمارسه النخب المركزية التي لم تراعِ الميزات الاستراتيجية للأقاليم السودانية المختلفة، بل ظلت تعوّل على البندقية وسيلة لتطويع الهامش قسرياً، بعد أن فشلت حيلتها الأيديولوجية وتكشف عوار مكرها السياسي والأمني. ففي وقتٍ كانت دارفور تئن فيه من الجراح، كانت النخب "الإنقاذية" تتلهى ببناء سد مروي الذي تضاعفت تكلفته، وتناقصت سعته الإنتاجية نسبةً إلى ما اعتور النظم الإدارية من فساد ومحسوبية وغياب للشفافية.

الانتصار الحقيقي للشعب السوداني، بما فيها مجموعات السودان الشمالي النيل وسطى، هو بالانعتاق مع سطوة المليشيات العسكرية ومن سيطرة الرأسمالية النهبوية التي ما برحت تتدثّر بدثار القومية والمؤسّسية فانفضح زيفها، ما أحال البلاد إلى رماد والشعب إلى شتات. تفكيك هذا الجيش الذي أصبح بمثابة مليشيا تتناسل منها كل المليشيات القبيلة والعقائدية بات ضرورياً، سيما أنه قد أصبح مرفأً للمجموعات الإرهابية والداعشية التي باتت تهدّد الأمن القومي، وتقلق السلام الإقليمي والدولي. يجب أن يُعاد بناء الجيش على أسس احترافية ومهنية، تراعي أسس التكافؤ بين المواطنين في الحقوق والواجبات.

ختاماً، التعويل في المرحلة المقبلة يجب أن يعتمد بدءاً على إبرام تسوية وطنية شاملة، علّها تفضي إلى توافق يساعد في استقطاب كل المؤمنين بأهداف ثورة ديسمبر المجيدة. وإذا كانت الحرب قد كشفت كثيراً من العورات الثقافية والسياسية للمجتمع السوداني، فإنها قد بيّنت أهمية "الحوار" وسيلة لتقويم العملية التي رافقت المسيرة الوطنية. لا بد من "الاعتراف" بالمظالم التاريخية التي طاولت المهمّشين في أنحاء البلاد كافة، ومن ثمّ السعي لإنصافهم من خلال المعالجة للاختلالات الوظيفية والهيكلية التي لازمت تكوين الدولة السودانية منذ 1821.

الوعظ والمناشدات الأخلاقية لا تكفي وحدها لمعالجة أمراض العنصرية والقبلية، فلا بد من وضع إصلاحاتٍ دستوريةٍ وفرض ضوابط قانونية تدرأ خطر التدميرية البشرية. لا أدرى حقيقة إن كان السودانيون قد تجاوزوا مرحلة التشافي، بالنظر إلى ما ارتكبوه من جرائم ضد بعضهم، بيد أنهم لا يملكون غير العمل معاً لتجنيب بلدهم حالات الانقسام أو الانفصال المحتمل. وإذا حدث ذلك، لا قدر الله، فإن النخب المركزية، الأيديولوجية منها خصوصاً، تتحمل العبء الأكبر في سَوق البلاد سَوقاً نحو هذا السيناريو المشؤوم، وذلك بإصرارها على فرض نظام "الكليبتوقراطية" (حكم اللصوص) من دون طائل، علماً أن الشعوب قد انعتقت من الخرافة، ولم يعد بمقدور أحدٍ إرجاعها إلى الحظيرة، وإذا شئت إلزامها بيت الطاعة.

نقلا عن العربي الجديد  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: فی السودان

إقرأ أيضاً:

سيرتها الأولى!!

صباح محمد الحسن طيف أول: مما قرأت مرة أن من أفضل أنواع المعرفة هي معرفة حدودك!! وفي الإسبوع الماضي قالت وزارة المالية إن الوزير جبريل إبراهيم بحث مع مبعوثة الاتحاد الأوروبي للقرن الإفريقي، أنيت ويبر، مبادرة القرن الإفريقي التي أطلقها الاتحاد الأوروبي، لإعمار السودان والتي تركز فيها المبادرة على الربط الشبكي للكهرباء والطرق والسكك الحديدية التي تربط دول المنطقة) ولأن الوزيرة زارت السودان لمناقشة القضية الرئيسة المتمثلة في دفع السلطة الانقلابية وحثها لقبول الحل السياسي لأزمة الحرب في السودان التي خلفت أوضاعا إنسانية كارثية ومن ثم يساهم الإتحاد الأوربي في تقديم الدعم للسودان إلا أن رغبة جبريل ابراهيم تخطت الأزمة ، وكأن الوزير يأمل أن يقدم الإتحاد الأوربي دعما لحكومته ويضخ اموالا لإعادة تعمير خطوط الكهرباء وغيرها، فحكومة بورتسودان في بداية الأمر تسولت بإسم الحرب وزار وزير المالية جبريل ابراهيم اكثر من عشر دول وعاد بخفيّه، كما شارك في عدة مؤتمرات دولية ومحافل لمنظمات خارجية ولكن جميعها اكتفت فقط بحسن استقباله ووداعه، ولم يحقق الوزير منذ بداية الحرب مكسبا إقتصاديا يمكنه أن يغذي خزينته، فكل الدول التي زارها، كانت اكثر صراحة وكشفت عن موقفها غير الداعم لحكومة بورتسودان!! ومثل هذه الزيارات التي قام بها جبريل كان قد قام بها الفريق البرهان ولكن أيضا لم يحقق مكسبا واحدا ، والحكومة الإنقلابية لاتعلم أنها ” ساقطة” في امتحان القبول الدولي و” القبول من الله” لذلك في كل الجولات الخارجية التي تتعلق بعملية المنح والدعم الإقتصادي للسودان تجد أن نتائجها كانت صفرية عكس تلك الزيارات التي كان يقوم بها الدكتور عبد الله حمدوك والتي أحرز فيها درجات متقدمة في مادة العلاقات الدولية بالرغم من أن الرجل لايشغل الآن منصبا في الدولة السودانية ومعلوم أن زيارة رئيس الوزراء السوداني السابق إلى أوروبا في نوفمبر الماضي كانت من أهم الزيارات ذات الأثر الإيجابي وأحدثت تحولاً لافتاً في التعاطي الدولي مع أزمة الحرب في السودان، والتي استهلاها حمدوك بزيارته للندن، ثم انتقل إلى بروكسل، مقر الاتحاد الأوروبي، والتي ألقت الضوء على الأزمة السودانية التي ظلت مهملة دولياً لفترة طويلة وكانت نتائج هذه الزيارة ظهرت بعدها مباشرة عندما تصدرت القضية الأجندة الدولية، وكانت المحور الأبرز في اجتماع مجلس الأمن الذي جاء عقب الزيارة وعقد حمدوك وقتذاك اجتماعاً منفرداً مطولاً مع شخصية بريطانية بارزة تُعد من صناع القرار الرئيسيين في الحكومة البريطانية الحالية، ناقش فيه الأوضاع الراهنة في السودان، وطرح رؤية متكاملة للخطوات التي ينبغي على المجتمع الدولي إتخاذها لوقف الحرب وإعادة الإستقرار وتعمير السودان وتحظى إطروحات حمدوك بالقبول ويرفض مايقدمه جبريل والبرهان لأن كلاههما يريدان الدول أن تقدم دعمها للسودان قبل وقف الحرب ، وهذه “حيلة متواضعة” مازالت الحكومة السودانية تمارسها ولاتعلم أن المجتمع الدولي يقف الآن على يقين القناعة أن الحكومة تمارس هذه الحيلة لأجل الحصول على المال لصالحها وليس لإعمار السودان فلايستقيم الأمر بوضع خطة للإعمار في ظل حرب ( الدمار والخراب) لذلك أن كل خزائن الدول مغلقة الآن أحكمت الدول قفلها لحين إشعار آخر!! والفلول كعادتها تقوم بعملية التدمير للوطن ومشاريعه ومؤسساته ومن ثم ترفع شعار ( سنعيدها سيرتها الأولى) فدمرمت مشروع الجزيرة والسكة حديد وسودانير وغيرها ، وبالرغم من أن كان لها أن تتركها على سيرتها الأولى ولكن تدمرها بآلة الفساد لتحصل بعدها على الدعم بكذبة الإعمار من جديد وتخرج مستفيدة !! ولكن يبدو أن المجتمع الدولي “فهم اللعبة ” جيدا وماعادت ” فهلوة” الحكومة مجدية ، لذلك رهنت المبعوثة التي إلتقت جبريل ابراهيم تقديم الدعم المتوقع من الإتحاد الأوربي بتحقيق الهدف الاول وقف الحرب وتحقيق السلام، ومن ثم إعادة الإعمار بعد الحرب ولهذا فإن رفض المجتمع الدولي لتقديم الدعم لحكومة بورتسودان ربما يكون من أهم الأسباب التي دفعت وزير المالية جبريل ابرهيم لبيع ” الخردة”!! طيف أخير: تحركات دولية حثيثة لوضع آليات جديدة لعملية حل الأزمة في السودان القادمات من الأيام تكشف المزيد. نقلاً عن صحيفة الجريدة السودانية الوسومصباح محمد الحسن

مقالات مشابهة

  • جنوب السودان على صفيح ساخن: هل تندلع حرب ثالثة؟
  • سيرتها الأولى!!
  • عادل الباز يكتب: الخطة (ط): التطويق (3)
  • ماهي المكاسب التي تنتظرها واشنطن من مفاوضات إنهاء الحرب في أوكرانيا ؟
  • مسؤولة أممية: السودان من الدول الأولى على مستوى العالم التي تعاني أعلى معدلات انتشار سوء التغذية الحاد والملايين يواجهون الجوع
  • وزير الخارجية: يجب التركيز على الحلول التي تضمن بقاء السودان موحدا ومستقرا
  • النخب البائسة
  • الحرب على السودان ورغم ملامح (محليتها) هي بالواقع عدوان خارجي
  • إعلام عبري: نتنياهو يقودنا للهاوية.. وكاتب: النار التي تشعلها إسرائيل ستعود لتحرقها
  • بعد معركة القصر والنصر الذي تم