رفعت امرأة عمران وجهها إلى السماء وكانت حاملاً وقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي﴾، أي سأجعله في خدمة بيت المقدس يعبدك النهار والليل، ولا يترك العبادة أبداً، ومرت الشهور ثم وضعت فجاء المولود بنتاً، فرفعت رأسها إلى السماء وقالت: ﴿رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ﴾، وضمت ابنتها إلى صدرها في حنان، ثم نظرت إلى السماء فقالت:  ﴿وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾، وانتظرت حتى استطاعت أن تنهض من بعد الولادة، فحملت مريم وخرجت إلى بيت المقدس لتسلمها إلى العُبّاد المقيمين به ولتجعلها خادمة من خدام المسجد، كبرت مريم وهي في رعاية زكريا عليه السلام، وقد خصص لها مكاناً في محراب المعبد لا يدخله سواها فكانت تعبد الله فيه ليلها ونهارها، واشتهرت بين أهلها بالصلاح والتقوى، وما كانت تترك المسجد إلا لضرورة حتى جاء الملاك وبشرها باصطفاء الله سبحانه لها: ﴿وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ﴾، ويبدو تبجيل العذراء ومكانتها في اصطفاء الله لها وفي تحية الملاك جبرائيل لها {السلام لك أيتها الممتلئة نعمة، الرب معك، مباركة أنت في النساء}.

- عظمة العذراء تتجلى في اختيار واصطفاء الله لها من بين كل نساء العالم، الإنسانة الوحيدة التي انتظر التدبير الإلهي آلاف السنين، حتى وجدها، ورآها مستحقة لهذا الشرف العظيم، العذراء في عظمتها تفوق جميع النساء {بنات كثيرات عملن فضلاً أما أنت ففقت عليهن جميعاً}، وقد تمتعت العذراء بالعديد من الصفات التي جعلتها ممتلئة نعمة ومؤهلة لهذا الاصطفاء الرباني: صفة الطهر الشديد، وصفة الإيمان، وصفة التسليم، وصفة الطاعة، صفة الاتضاع " أو التواضع والخشوع وهي السور الذي يحمي كافة الفضائل، والاتضاع الحقيقي أن يكون الإنسان في ملئ العظمة ويظهر متضع"، وصفة الخدمة، وصفة الأمانة وغيرها من صفات الكمال البشري.

-  هي العذراء التي أتت إلى بلادنا أثناء طفولة المسيح، وأقامت في أرضنا سنوات، قدستها خلالها وباركتها، وهي العذراء التي تجري معجزاتها إلى الآن،  إن كل قديس في الكنيسة له عيد واحد هو يوم نياحته أو استشهاده، وربما عيد آخر هو العثور على رفاته، أو معجزة حدثت باسمه، لكن السيدة العذراء لها أعياد كثيرة: عيد البشارة بميلادها، عيد ميلاد العذراء، عيد دخولها الهيكل، عيد مجيئها مصر، عيد نياحة العذراء، العيد الشهري للعذراء، عيد صعود جسدها إلى السماء، عيد معجزتها "حالة الحديد"، عيد ظهورها على قباب كنيسة العذراء بالزيتون يوم ٢ إبريل سنة ١٩٦٨، وبالإضافة إلى كل هذا نحتفل طوال شهر كيهك بتسابيح كلها عن كرامة السيدة العذراء.

- وقد اصطفاها الله عز وجل لمهمة عظيمة الشأن، فبعد أن اصطفها وطهرها وأمرها بالاجتهاد في العبادة والمداومة على الطاعة، وأوصاها بالإخلاص، والخشوع والخضوع له سبحانه، تهيأت بذلك مريم عليها السلام للمعجزة الكبرى والآية العجاب وهي حملها بالسيد المسيح عليه السلام قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ ، وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ﴾، لهذا كله نحتفل وتحتفل الكنيسة من أول مسرى "٧ أغسطس" بصوم السيدة العذراء، صوم يهتم به شعب الكنيسة اهتماماً كبيراً، ويمارسه بنسك شديد، وهو مجال للنهضات الروحية في غالبية الكنائس ويعد له برنامج روحي لعظات كل يوم وقدّاسات يومية أيضاً، وتقام في هذه الأيام أعياد لقديسين آخرين مثل القديسة بائيسة، والقديسة يوليطة، والقديسة مارينا، بل أثناء صوم العذراء أيضاً نحتفل بعيد التجلي المجيد وغيره.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: البشارة صوم العذراء نعمة إلى السماء

إقرأ أيضاً:

د. محمد بشاري يكتب: هل يحمل الذكاء الاصطناعي الأمانة في سبيل عمارة الأرض وحمايتها؟

في ظل التحديات البيئية الحادة، يبرز تعاون جديد بين قادة الأديان وخبراء التكنولوجيا، بهدف تعزيز الاستدامة البيئية وتحقيق توازن جديد يحافظ على كوكب الأرض. وفي قمة عُقدت تحت شعار “أديان العالم من أجل كوكب أخضر” في باكو، يومي ٥-٦ نوفمبر اجتمع ممثلو الأديان والعلوم التقنية لتأكيد ضرورة تضافر الجهود لمواجهة أخطار تغير المناخ وتهديدات التلوث التي تلقي بظلالها على الأجيال المقبلة. هذا التحالف بين القيم الروحية والحلول التقنية الحديثة، وبخاصة الذكاء الاصطناعي، يثير تساؤلات حول كيفية تفعيل هذه الأدوات لتحقيق أهداف تنموية مستدامة دون خلق تحديات بيئية إضافية.

تأتي هذه القمة كصدى لمبدأ أصيل في كل الأديان، فالتعاليم السماوية ترى أن الأرض أمانة في يد الإنسان، وأن واجبنا كمستخلفين في الأرض هو عمارتها وحمايتها. قال الله تعالى في محكم تنزيله: “إني جاعل في الأرض خليفة” [البقرة: 30]، مشيرًا إلى أن هذه الخلافة تفرض على الإنسان مسؤولية الرعاية والحرص على الموارد. كما تأكد الآية الكريمة “ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها” [الأعراف: 56] أهمية الحفاظ على البيئة وعدم الإضرار بها. هذه القيم الدينية العميقة تتقاطع مع ما يسعى إليه العلماء في حقل التكنولوجيا اليوم، حيث تتطلع الأديان إلى دور جوهري للعلم والتقنية في حفظ هذا الكوكب.

ومع تطور الذكاء الاصطناعي، تزداد قدرته على تحليل البيئات المعقدة وتقديم حلول فعالة لإدارة الموارد، لكن السؤال الجوهري يظل: هل يمكن أن يسهم الذكاء الاصطناعي في تحقيق عمارة الأرض دون أن يصبح هو ذاته عبئًا عليها؟ هنا يأتي دور القادة الروحيين، الذين يمكنهم تقديم إطار أخلاقي يحكم هذا التوجه، ويضمن توجيه التقنية لتخدم الاستدامة لا أن تهددها.

فالقادة الدينيون يمتلكون قدرة كبيرة على التأثير في وعي الشعوب، حيث يرتبط خطابهم بالقيم العميقة التي تتجاوز المصالح الضيقة، فيرسخون في نفوس الناس شعورًا بالمسؤولية تجاه الأرض بوصفها أمانة. بهذا يمكنهم دعم تطور الذكاء الاصطناعي ليكون جزءًا من حل الأزمة البيئية، وليس مجرد أداة تستنزف الموارد. حين يلتقي الخطاب الديني مع الابتكار التكنولوجي في هذا السياق، يظهر نموذج جديد للعمل الجماعي يوازن بين الروح والعلم، بين التقدم واحترام النظام الطبيعي.

وتأتي قمة باكو لتأكيد هذه الرؤية المشتركة، حيث يسعى قادة الأديان وخبراء التقنية إلى بناء إطار عالمي للتضامن البيئي، ينطلق من مسؤولية الجميع عن عمارة الأرض، كما أمرنا الله. فالخطاب الديني يزرع في الأفراد وعيًا عميقًا، ويمنحهم دافعًا أخلاقيًا تجاه قضايا البيئة، ما قد يتيح للتكنولوجيا أن تكون أداة إيجابية في سياق هذه القيم.

لكن يبقى السؤال مطروحًا: هل سينجح هذا التحالف الروحي-التقني في تحقيق أهداف الاستدامة دون أن يكون سببًا لمشكلات جديدة؟ وهل يمكن توجيه الذكاء الاصطناعي ليخدم قضية عمارة الأرض بروح منسجمة مع المبادئ الدينية التي ترى في الطبيعة أمانة وجب صونها؟ هذه القمة قد تكون بداية لمرحلة جديدة، مرحلة تُجمع فيها جهود العلم والإيمان لتحقيق مستقبل أخضر وآمن للأجيال المقبلة.

مقالات مشابهة

  • محمد صبيح يكتب: فوز ترامب وهيمنة الجمهوريين.. ماذا سيواجه العالم؟
  • عبد السلام فاروق يكتب: ترامب يعود
  • د. محمد بشاري يكتب: هل يحمل الذكاء الاصطناعي الأمانة في سبيل عمارة الأرض وحمايتها؟
  • محمد مغربي يكتب: «الذكاء الاصطناعي» بين الأخلاق والقانون
  • تخطي 16 لاعبًا.. محمد صلاح يكتب التاريخ مع ليفربول
  • أ.د محمد حسن الزعبي يكتب .. دعاء المسنين للكاتب السجين
  • وزير الخارجية يكتب مقالا بعنوان "حل الدولتين ممكن بين الفلسطينيين وإسرائيل"
  • "محظوظون ببصمتك".. إماراتي يتفاجأ برسالة من محمد بن زايد
  • دعاء الصباح لك ولمن تحب.. 12 كلمة تفتح لك أبواب السماء والأرزاق
  • د.حماد عبدالله يكتب: حديث إلى النفس !!