البروفيسور جيجوش دابليو كوودكو هو جامعي ومفكر كبير في مجال الاقتصاد والسياسة، وهو أحد المهندسين البارزين في مجال الإصلاحات الهيكلية في بولونيا عندما كان وزيرا للمالية لسنوات، وله أزيد من ثلاثين كتابا ترجمت إلى لغات عدة. تفسر حسب هذا الخبير مفاهيم علم الاقتصاد الصعبة ومفاهيم علم السياسة أفضل تفسير باستخدام كلمات بسيطة ومعبرة؛ ويفترض أن يصف الفاعلون الاقتصاديون والسياسيون ما يجري ويفسرونه ولكن المشاكل تطرأ عندما:
يكونون على علم بما يحدث، لكنهم لا يستطيعون إقناعنا.أو لا يعلمون، ولكنهم يحاولون إقناعنا على أي حال.
أو يعلمون أن حقيقة الأمور تختلف كما يحاولون إقناعنا بها
في الحالة الأولى لا يسعنا إلا أن نحاول مساعدتهم في إيصال الرسالة.وفي الحالة الثانية، عندما لا يعلم هؤلاء الأشخاص كيف تجري الأمور فعليا ومع ذلك يحاولون إقناعنا، فإنهم يكونون على خطأ بيِّن؛ ومن الضروري عندئذ أن نناقشهم بهدوء، وأن نعير اهتمامنا للرأي الاَخر، لأن كل شخص من الممكن أن يكون على خطأ.
وفي الحالة الثالثة وهي الأسوأ أي عندما يتعمد الأشخاص نشر الأكاذيب في مجال المال والاقتصاد والسياسة، لأن المهم عندهم هو النتائج لا الحقيقة.
ونحن نتذكر ما جرى في شتاء 2006، عندما وجدت العديد من الأسر الأميركية الأكثر فقراً، والتي عرضت عليها القروض العقارية الرهنية، نفسها غير قادرة على سداد ديونها. وبدأت البنوك في مصادرة الممتلكات، كما بدأ المالكون المثقلون بالديون في بيع ممتلكاتهم قبل أن تصادرها البنوك، مما أدَّى إلى عدم التوازن بين العرض والطلب في سوق العقار وانخفضت الأسعار. وهكذا، وجدت البنوك ومضاربوها «الانتحاريون» أنفسهم بمساكن مصادرة وغير قابلة للبيع، وباستثمارات لا قيمة لها إضافة إلى مشاكل السيولة... وتحولت أزمة الرهون العقارية إلى أزمة بنكية، وانهار البنك الأميركي الشهير ليما براثرز، وانخفضت أعمال البنوك الأخرى مؤدية إلى انخفاض حاد في المراكز المالية الدولية الرئيسية، وعبرت الأزمة في النهاية من الولايات المتحدة والمحيط الأطلسي لتصل إلى البنوك الأوروبية الكبرى، لتحدث أزمة اقتصادية عالمية؛ فالفاعلون تعمدوا الحيل وكانت أقاويلهم مخالفة لسلطان الحق والصواب.
ومما يزيد الطين بلة أن هناك علاقة وطيدة بين أصحاب المال والاقتصاد والسياسة، وعندما يدخل الأولون بحر السياسة ويتفننون جميعا في رسم معالم الأكاذيب في المجال السياسي العام، فهنا الكارثة.
وقد تنبأ السوسيولوجي ماكس فيبر لهاته الظواهر، وأفتى في زمانه بأن السياسي عليه أن يتمتع بثلاث صفات محددة وإلا فالفساد السياسي سيكون هو القاعدة في حلبة الصراع السياسي: الشغف والشعور بالمسؤولية وبعد النظر.
والمتتبع لما تجود به الوقائع السياسية في الدول الغربية وبالأخص في أميركا سيخرج بقناعة مفادها أن هاته الصفات العلية يغيب جزء كبير منها، وأن العديد من أنواع والحيل والخداع تطبع الحياة السياسية والاقتصادية؛ وأن ما يقال عن النقاء السياسي الديمقراطي الغربي مجرد أوهام، وأن ما يجري سرا وعلنا من قضايا الفساد واستغلال النفوذ والابتزاز والارتشاء والدخول في مفاوضات غير سليمة للوصول إلى المبتغى هي من الأمور الممكنة...
ومن أراد أن يغوص في محيط عالم السياسة هذا فليتابع مسلسل «بيت الأوراق» والذي بلغ حد الشهرة العالمية ليس فقط لأنه غاص في أعماق السياسة الداخلية الأميركية، وأبرز ما يدور في أروقة وصالات الكونغرس الأميركي والبيت الأبيض، وإنما أيضا بسبب الأداء التمثيلي الخاص للممثلين الذين أظهروا جانبا من الحياة السياسية الشخصية والرسمية للفاعلين السياسيين الأميركيين ومقربيهم.... وأبان هذا المسلسل عن قوة اللوبيات والضغوطات المختلفة التي تمارس وراء الستار في الولايات المتحدة.
ويُقدّم لنا أيضا المسلسل كلاير أندروود، وهي زوجته التي تُشاركه حلم الوصول في السلطة وهما معا يتجردان من كل القواعد السليمة للوصول إلى البيت الأبيض.
يجسد المسلسل وخروج البطل منه، بعد أن أدين بالتحرش الجنسي، وهاته المرة في عالم الواقع، تلوث عالم السياسة داخل المجتمعات الغربية، وأن ما يدور فوق وتحت حشائشه معقد ولا ينجح فيه إلا من أجاد أبجدياته وقيادة السفينة في محيطات صعبة، وبدون أية مبادئ ديمقراطية كما تدرس في مادة علوم السياسة النظرية.
المصدر: موقع 24
كلمات دلالية: عام المجتمع اتفاق غزة إيران وإسرائيل القمة العالمية للحكومات غزة وإسرائيل الإمارات الحرب الأوكرانية العالم
إقرأ أيضاً:
هل تستطيع أوروبا إعادة ضبط السياسة العالمية؟
بدأ ترامب بالفعل إعادة هيكلة ضخمة للحكومة الفيدرالية وبالتوازي مع ذلك، قائم بتعيين قائمة من الوزراء تبدو وكأنها مستلة من قائمة أعداء الصين والمشككين في حلف شمال الأطلنطي. ويشير هذا إلى أن أمريكا مهتمة بتسوية الحسابات أكثر من اهتمامها بالحفاظ على التحالفات، وفي ظل إصرار واشنطن على التعامل مع الأصدقاء من قبيل كندا والمنافسين من قبيل الصين بمقادير متساوية من العداء، يسنح للاتحاد الأوروبي ما يعد حقا فرصة لا تتكرر إلا مرة في العمر: وهي فرصة الارتقاء إلى مقام الفاعل المستقل، ليس فقط في دفاعه، وإنما بوصفه وسيطا بين اثنتين من أكثر قوى العالم العظمى غضبا.
تستوجب هذه اللحظة من بروكسل ـ التي تطمئن إلى خطط السنوات الخمس أكثر مما تطمئن إلى قرارات الدقائق الخمس ـ شيئا جذريا: هو الفعل. لقد أمضت أوروبا عقودا من الزمان في إتقان فن التحوط الدبلوماسي، معتمدة على الضمانات الأمنية الأمريكية مع سعيها إلى التجارة المربحة مع الصين. وانتهى الآن هذا الوضع المريح. غير أنه في هذه الأزمة تكمن الفرصة، فرصة أوروبا في أن تتحول من عضو حذر في الأوركسترا إلى قائد الأوركسترا في حفل موسيقي عالمي جديد.
من المراهقة الاستراتيجية إلى الزعامة العالمية
لقد أتاح التحالف عبر الأطلنطي ـ الذي تشكل في بوتقة الحرب العالمية الثانية واعتدلت حدته خلال الحرب الباردة ـ لأوروبا أن تحافظ على شكل غريب من المراهقة الاستراتيجية. ففي عام 1995، على سبيل المثال، وتحت الحماية النووية الأمريكية، أنفق الاتحاد الأوروبي وقتا في مناقشة شكل الموز أكبر مما قضاه في مناقشة شكل قدراته الدفاعية.
وجاء ازدراء ترامب العلني لحلف شمال الأطلنطي وحماسه للرسوم الجمركية ليوضح أمرا واحدا بجلاء تام: وهو أن صبر أمريكا قد نفد عن تمويل الأمن الأوروبي بينما يواصل الأوروبيون العمل كدأبهم مع بكين.
وتأتي هذا الصحوة في لحظة حرجة. ففي حين تتشاجر واشنطن وبكين ويعمل ساسة العاصمة الأمريكية بلا كلل على إتقان سيركهم الحزبي، تجد أوروبا نفسها في موقف قوي بشكل غير متوقع. ففي حين تنحدر الدبلوماسية الأمريكية إلى مواجهات مسرحية واستعراضات إعلامية، تجد الصين نفسها تتلاعب بحقائق غير مريحة على نحو متزايد: فحدودها الشمالية التي يفترض فيها الاستقرار يظهر فيها تسليح كوريا الشمالية لروسيا، وتظهر شراكتها «اللا محدودة» مع موسكو أن لها حدودا واضحة، وقدرتها العزيزة على الوصول إلى الأسواق الأوروبية باتت محفوفة بالمخاطر على نحو متزايد.
قوة أوروبا الحقيقية: ما بعد القوة العسكرية
وفي حين أن عواقب هذا الواقع الجديد المعنوية مطروحة للنقاش، فإن الضرورة السياسية واضحة وضوح الشمس: لا بد أن تضاعف أوروبا دفاعها واستقلالها. فلم تكن قوة أوروبا الحقيقية قط في حاملات الطائرات أو الأسلحة الأكثر تقدما، وإنما في قدرتها على تشكيل المعايير والتطلعات العالمية.
وفي حين تتحدث واشنطن عن تنظيم قواعد شركات التكنولوجيا الكبرى وتستوعبها بكين ببساطة في جهاز الدولة، نجحت بروكسل بشكل مدهش نجاحا يفوق القوتين العظميين. فلم تكتف اللائحة العامة لحماية البيانات في الاتحاد الأوروبي بحماية الخصوصية الأوروبية، بل أصبحت معيارا عالميا بحكم الأمر الواقع، وهو ما يثبت أن الاتحاد الأوروبي لا يستطيع إزعاج وادي السليكون فحسب، بل وإعادة تشكيل ممارسات الأعمال العالمية.
ولنتأمل هنا اقتصاد القوة: فالاقتصاد المشترك للاتحاد الأوروبي الذي يبلغ 19.4 تريليون دولار ينافس الاقتصاد الأمريكي. ويحتل اليورو مكانة مريحة باعتباره العملة الاحتياطية الثانية في العالم، في حين تتدفق الاستثمارات الأوروبية إلى الخارج بنحو 10.7 تريليون دولار، فتجتذب 8.1 تريليون دولار في المقابل.
ويسيطر الناتج المحلي الإجمالي للاتحاد الأوروبي، الذي يبلغ نحو 19.4 تريليون دولار اسمي وأكثر من 26.38 تريليون دولار من حيث القوة الشرائية، على سدس الاقتصاد العالمي. وتعمل الشركات الأوروبية متعددة الجنسيات من قبيل (إل في إم إتش) التي حققت إيرادات بلغت 45.6 مليار دولار في النصف الأول من عام 2024، و(بي إن بي باريبا) التي تدير 80 مليار دولار في آسيا وحدها، بوصفها سفراء نفوذ، ناسجة شبكة من المعتمدين عليها من باريس إلى شنغهاي.
وعندما تصدر بروكسل مراسيمها التنظيمية، يمتثل عمالقة وادي السليكون ومليارديرات بكين على السواء، لا لولعهم الخاص بالقيم الأوروبية، وإنما لاحترامهم للواقع البسيط المتمثل في القوة الاقتصادية الأوروبية.
هذه «الدبلوماسية التنظيمية» تتحد مع شيء يماثلها في القوة: وهو المغنطيسية الثقافية الأوروبية. فكل من حظي بمتعة زيارة أوروبا يعرف بدرجة ما أن القارة التي منحت العالم عصر النهضة لا تزال تحدد التطور العالمي.
من بيوت الأزياء في باريس إلى مؤسسات البحوث البريطانية وكروم العنب الإيطالية إلى استوديوهات التصميم في الشمال الأوروبي، تحدد أوروبا كيفية تفكير العالم في الحياة الطيبة. ويتدفق نصف سياح العالم إلى المدن الأوروبية ليس فقط لالتقاط صور (السيلفي) أمام برج إيفل، بل وأيضا لتجربة واستيعاب أسلوب حياة قديم لا يمكن للاستهلاك الأمريكي ولا لرأسمالية الدولة الصينية استنساخه في هذه الحياة ولا في حياة تالية، وهذا أمر لن يتغير، ويمنح الاتحاد الأوروبي ثقلا تفتقر إليه الكتل الأخرى.
نموذج جديد للقيادة العالمية
بالنسبة للاقتصادات النامية، يمكن أن يقدم الاتحاد الأوروبي الصاعد شيئا ثمينا على نحو متزايد: هو طريق ثالث حقيقي. ففي حين تطالب واشنطن وبكين بالولاء بدرجات متفاوتة، يمكن أن تقدم بروكسل الموحدة شيئا أكثر جاذبية: هو شراكة حقيقية قائمة على المنطق والحس السليم.
فعلى سبيل المثال، قد تجد دول رابطة دول جنوب شرق آسيا ASEAN في الاتحاد الأوروبي لا محض نموذج للدراسة، بل وأيضا مخططا للحفاظ على السيادة مع بناء القوة الجماعية. وبدلا من اضطرار الدول الأعضاء في الاتحاد الإفريقي على الاختيار بين الوعود الأمريكية والبنية الأساسية الصينية، قد تنظر إلى معايير وممارسات الاتحاد الأوروبي باعتبارها نماذج للتنمية المستدامة المستقلة. ودول أمريكا اللاتينية، الواقعة بين أيديولوجية السوق الحرة في واشنطن ورأسمالية الدولة في بكين، قد تجد في اقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا مسارا أكثر توازنا نحو الرخاء.
لو استطاع الاتحاد الأوروبي التغلب على انقساماته الداخلية وتبسيط عملياته البيروقراطية، فلن يؤثر «تأثير بروكسل» على ممارسات الأعمال العالمية فحسب، بل إنه سيوفر للقوى الناشئة وسيلة للتطور والازدهار دون أن تصبح بيادق في يد شخص آخر.
وقد تصبح أوروبا الموحدة شيئا رائعا حقا: فما هي محض قوة عظمى تنظيمية، بل هي أيضا ثقل موازن جيد لسياسات القوى العظمى، يظهر كيف يمكن أن ينتصر التعاون الإقليمي على الهيمنة والإكراه.
الاختيار المنتظر: النهضة أو التراجع
لكي ينجح هذا النفوذ، لا بد أن تتغلب أوروبا أولا على أكبر نقاط ضعفها: وهي أوروبا نفسها. فاعتياد الاتحاد الأوروبي على تحويل كل أزمة إلى اجتماع لجنة لن يخدمها في عالم تتخذ فيه القرارات بسرعة التغريدات. وأوروبا التي تتحدث بصوت واحد في الدفاع والتجارة والتكنولوجيا ليست ممكنة فحسب، وإنما هي ضرورية للبقاء في عالم أصبحت فيه البدائل غير مقبولة على نحو متزايد.
بالنسبة للاتحاد الأوروبي، ليست هذه محض فرصة لتعزيز أمنه أو توسيع نفوذه، إنما هي فرصة لإعادة تعريف القيادة العالمية في القرن الحادي والعشرين. ومع تراجع واشنطن إلى الانعزالية التي فرضها ترامب أو استهداف جرينلاند وتصارع بكين مع حدودها، يمكن أن تظهر أوروبا وسيطا ضروريا، وتقدم شيئا نادرا بشكل متزايد في السياسة العالمية: هو التطور.
فالسعي إلى الاستقلال الاستراتيجي، وإن يكن طموحا، لم يعد مرغوبا فحسب، بل إنه أمر وجودي.
وخلال ما تسفر عنه السنوات الأربع المقبلة، سوف تحدد استجابة أوروبا ما إذا كانت ستغتنم هذه اللحظة أو تسمح لها بالانفلات، مسلمة نفسها مرة أخرى لدور الممثل المساعد في فيلم شخص آخر. ومثلما خرجت أوروبا ذات يوم من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، ومن جمود العقيدة إلى التنوير، فإنها تقف الآن على أعتاب تحول.
ليس هذا بالوقت المناسب للتردد البيروقراطي أو لاجتماعات اللجان العقيمة. لأن الأسس لنهضة أوروبية جديدة موجودة بالفعل. والسؤال الوحيد هو ما إذا كانت أوروبا لا تزال تتذكر كيفية بناء الكاتدرائيات التي تلامس عنان السماء.