لجريدة عمان:
2025-04-15@15:22:09 GMT

الإمبرياليَّة اللغوية

تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT

لم يكن اتساع جغرافيا اللغة الإنجليزية بعد القرن السادس عشر إلا نتاجًا لتوسع المشروع الاستعماري لبريطانيا العظمى، مع ذلك؛ تتعرض هذه الحقيقة التاريخية اليوم للتجاهل بصورة غريبة، فحين يدور الحديث عن عالمية اللغة الإنجليزية وارتباطها بتطور التعليم في المستعمرات القديمة، أو ما تُعرف ببلدان الهامش، يُسكت عن الغاية والوسيلة التي سطت بها اللغة الإنجليزية على ثقافات بأكملها، ويُنسى تاريخها الدموي، في وقتٍ يتباهى فيه سياسيون بريطانيون بأن لغتهم كانت أعظم هدية قدّمها الغرب للشرق.

لوهلة، يبدو كما لو أن نقاش الفكرة على نحو جاد يتطلب شيئًا من العودة إلى سذاجة الأسئلة البدائية البسيطة: كيف تعممت الإنجليزية بهذا الشكل لتتحول على مدى 4 قرون إلى لغة عالمية ساطية، ماحية في طريقها لغات وثقافات محلية؟ أذكر أنني اصطدمت بهذا السؤال خلال دراستي التحضيرية بسنتي الجامعية الأولى، حين كنا ندرس برنامج اللغة الإنجليزية تحضيرًا لدراسة التخصص، غير أني ما زلت لا أفهم تمامًا كيف يبدو النقاش في الماضي الاستعماري للغة الإنجليزية نقاشًا متجاوزًا ومفروغًا منه.

لقد خرجت اللغة الإنجليزية من ذلك الأرخبيل الصغير لتطوف أصقاع العالم، ولم ترجع كما كانت، وبالسيف والبارود فتحت أراضي جديدة، وتحولت تدريجيًا من لغةٍ فقيرة مستورِدة للكلمات لتصبح اللغة العالمية الأكثر تصديرًا للكلمات، ونتيجةً للهيمنة الاستعمارية ترسخت كنظام معرفي يعيد إنتاج الخبرة الكولونياليَّة حتى في البلدان التي سعت فور استقلالها لصناعة ثقافة وطنية، ما بعد كولونيالية.

كانت الإمبريالية اللغوية أحد أعنف أوجه المحو والاضطهاد الذي مارسه البريطانيون في مستعمراتهم، يشير إلى ذلك كتاب «الرد بالكتابة.. النظرية والتطبيق في آداب المستعمرات القديمة».

يجادل مؤلفو الكتاب الثلاثة، بيل أشكروفت وجاريث جريفيث وهيلين تيفن، بأن دراسة اللغة الإنجليزية خلال الحقبة الاستعمارية، من جهة، والنمو التوسعي للإمبراطورية البريطانية من جهة أخرى، مسألتان كانتا قد نشأتا في مناخ أيديولوجي واحد، لكن الإمبريالية اللغوية لم تكن معتمدةً على الإلغاء المباشر فحسب.

فحينما تواجَه بمقاومة اللغات المحلية، كانت الحكومة البريطانية في مستعمراتها تتراجع لتمارس سياسة التبني والاستيعاب والإخضاع الطوعي للثقافات المستعمرة، منتجة بذلك نخبةً محليةً من المتعلمين الطامحين لأن يصبحوا «أكثر إنجليزية من الإنجليز» على حد تعبير الكتاب: «كانت عملية من الانتساب الواعي، على حد تعبير إدوَارد سعيد، تتواصل تحت قناع البنوة، أي محاكاة للمركز منبثقة من رغبة لا تقتصر على نيل القبول، وإنما تمتد لتشمل أيضًا التبني والاستيعاب، وهو الأمر الذي قاد مَن في الأطراف إلى الانغماس في الثقافة المستوردة، مع إنكار أصولهم».

الترجمة عن اللغة الإنجليزية هي وجه آخر لسياسات الإدماج والاستيعاب والتبني التي تمارسها الإمبريالية اللغوية الإنجليزية. لا يمكن أن نفسر ظاهرة استسهال الترجمة وانتشار الترجمات على حساب التأليف الأصلي ظاهرةً بريئة، فعبر الترجمة تمارس الإنجليزية تأثيرًا أسلوبيًا، يتجاوز استيراد المفردات وتصديرها إلى تمرير تغييرات عميقة وخفية على بناء الجملة في اللغة المُترجم إليها، فتخلق تشوهات تصبح سائغة ومألوفة بمرور الوقت.

هكذا تمارس اللغة الإنجليزية تدجين اللغات التي تحاول استضافتها دون أن تغير معجمها بالضرورة، ويتجلى هذا الانحراف بوضوح في لغة الترجمة التي تتطور بصورة مطردة في الترجمات إلى العربية. وقد لفتني مقال لجاكوب ميكانوفسكي، نشره على الجاردين عام 2018 بعنوان عنيف: «الوحش، المتنمر، اللص.. كيف تسيطر اللغة الإنجليزية على الكوكب» يشير فيه إلى تأثير من هذا النوع تمارسه الإنجليزية على لغات أوروبية، كالإيطالية والألمانية والسويدية، من ناحية التغيير في صيغ الملكية وأسماء الإشارة وتقديم الصفات على الأسماء، في محاكاةٍ لقواعد اللغة الإنجليزية.

الإمبريالية اللغوية التي تتوحش اليوم، تحت لواء التعليم الحديث هي في الحقيقة تهديد خطير لثقافات «الهامش» لا يقل عن التهديد الوجودي الذي ظل الاستعمار يمارسه في سيرته التقليدية الدموية والاستغلالية على الأرض. لكن الروائي والناقد الكيني، نجوجي واثيونجو، لا يستسلم لفرضية المركز والأطراف، بل يدعو لمقاومتها.

بالعودة للكتابة بلغة كيكويو المحلية قرر الكاتب الإفريقي الدفاع عن قارته التي يرى أنها ذاهبة شيئًا فشيئًا لأن تصبح امتدادًا للغرب، إذا لم يناضل كُتَّابها، على طريقته، للتحرر من سطوة اللغة الإنجليزية، متسائلًا: «ما الفرق بين السياسي الذي يقول إن إفريقيا لا تستطيع الاستغناء عن الإمبريالية، والكاتب الذي يقول إن إفريقيا لا تستطيع الاستغناء عن اللغات الأوروبية؟».

أخيرًا، نكرر السؤال المكرر الذي يبقى بلا تبرير مقنعٍ حتى اللحظة: ما الذي ينقص الجامعات العربية يا ترى لتتحرر من النظام المعرفي للغة الإنجليزية، إذا كانت إسرائيل، المستعمَرة الغربية الحديثة والمصطنعة، تسعى جاهدة منذ تأسيسها لتطوير سياسات لغوية حازمة لتكريس اللغة العبرية لغة للعلم والمجتمع والصناعة بهدف ليس بعيد أن يكون هو الانقلاب على اللغة الإنجليزية؟! بنو العُرب أولى.

سالم الرحبي شاعر وكاتب عُماني

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: اللغة الإنجلیزیة

إقرأ أيضاً:

هل كانت والدة ترامب على حق ؟

بقلم: كمال فتاح حيدر ..

زعمت بعض مواقع التواصل ان والدة ترامب، السيدة ماري آن (1912 – 2000)، لخصت مؤهلات ابنها بهذه العبارة:
(نعم، إنه أحمق. بلا عقلٍ سليم، ولا مهارات اجتماعية، لكنه ابني. أتمنى فقط ألا يتدخل في السياسة أبداً. لأن تدخله يعني الكارثة). .
لكن وكالة (رويترز) كذبت تلك المزاعم، وقالت: انها مجرد ادعاءات لا أساس لها من الصحة. ولم تعثر الوكالة على دليل واحد، يؤكد أن السيدة والدة ترامب قالت شيئا كهذا. .
وان أقرب تعليق لوالدة ترامب عن ابنها، عثرت عليه رويترز، جاء من عدد عام 1990 من مجلة فانيتي فير (Vanity Fair)، زعم أن احدى النساء قالت ساخرة لوالدة ترامب: (أي نوع من الأبناء انجبتي ؟). ولا يوجد دليل قاطع على أن أمه وصفته بأنه أحمق، أو انه سيكون كارثة في عالم السياسة. .
لكن واقع الحال يؤكد انه لا يدرك الفرق بين العجز التجاري والتعريفات الجمركية. فالعجز التجاري ليس فاتورة، وليس خسارة أموال، ولا يعني أن دولة تغش دولة أخرى. بل يعني ببساطة أن الولايات المتحدة تشتري أكثر مما تبيع، وتستهلك اكثر مما تنتج، لأن الأمريكيين لديهم المال لينفقوه. هذا كل ما في الأمر. لكن ترامب يتعامل مع العجز التجاري كبطاقة نتائج، والتعريفات الجمركية كعقوبة. وان سياسته التجارية بأكملها مبنية على أوهام وتخيلات. هذه ليست استراتيجية اقتصادية، بل تفكير سطحي ذو عواقب عالمية وخيمة. وهو الآن يتخبط بإطلاق قراراته الطائشة، يحرق الجسور، يدمر التحالفات، ومع ذلك يتظاهر بالذكاء والقوة. .
خبراء الاقتصاد يصرخون: (ترامب لا يفهم الرسوم الجمركية، وخطته هراء)، وسخر منه الاتحاد الأوروبي، وتهكم عليه خبراء الصين، في حين خرج المتظاهرون في معظم الولايات الأمريكية احتجاجاً على سياسته الغبية، وبدأت جماعات حقوقية الإعداد لمظاهرات حاشدة تحاصر البيت البيضاوي. .
وقد انضم الاتحاد الأوروبي الآن إلى الصين وكندا لفرض رسوم جمركية إنتقامية على الولايات المتحدة، في تصعيد مبكر قد يسفر عن خوض حرب عالمية (تجارية)، ما يزيد تكلفة الشراء على شريحة واسعة من الشعوب والامم، وربما يدفع الاقتصاد العالمي إلى الركود. .
وكنتيجة لسياسته الرعناء سارعت الصين إلى إقرار الإعفاءات الجمركية الشاملة على جميع المنتجات الواردة اليها من 33 دولة أفريقية، بينما سارع ترامب إلى فرض رسوم مضافة بنسبة 10 % على منتجات 32 دولة أفريقية منخفضة الدخل. فهل نلوم أفريقيا على اختيارها الصين ؟. أم نسخر من الرئيس المتحامل على البلدان الفقيرة ؟. .
لا رادع لترامب إلا ترامب نفسه، فالرجل يتصرف على هواه بلا مرجعية علمية ولا استشارية. فهو يحمل ملامح الطاغية الروماني كاليغولا (Caligula) الذي كان من اشهر الملوك المجانين قبل الميلاد. .

د. كمال فتاح حيدر

مقالات مشابهة

  • اليوتيوبر المصري مروان سري يقتحم عالم ملكية الأندية الإنجليزية
  • السعودية تطلق مشروع السياسات اللغوية في العالم
  • وزارة الخارجية توقع مذكرة تفاهم مع المجلس الثقافي البريطاني لتعزيز التعاون في مجال تطوير اللغة والثقافة الإنجليزية
  • الترجمة الفورية.. خدمات لا تعلمها بمطار القاهرة الدولي
  • الصحافة الإنجليزية تشيد بعمر مرموش: صفقة رابحة وتأقلم مثالي في مانشستر سيتي
  • هل كانت والدة ترامب على حق ؟
  • للعام الحادي عشر..ألسن عين شمس تستعد لإطلاق منتداها العلمي لشباب الباحثين
  • مجمع اللغة العربية يستقبل طلاباً وأكاديميين إيطاليين
  • البيت الأبيض: المناقشات مع إيران كانت إيجابية وبناءة للغاية
  • عُمان: المحادثات الأمريكية الإيرانية كانت ودية