كيف الخلاص من ثنائية العلمانية والإسلام السياسي؟
تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT
منذ التسعينيات وأنا أردد أن علينا- فكريًا وسياسيًا – وضع الخط الفاصل لا بين العلمانيين والإسلاميين، وإنما بين الديمقراطيين والاستبداديين، فالحرب الحقيقية في مجتمعاتنا ضد أنظمة الفساد والقمع تجمع في أرض الميدان- ويجب أن تجمع أكثر- بين الديمقراطيين أكانوا إسلاميين أو علمانيين في مواجهة الاستبداديين ومنهم علمانيون وإسلاميون.
تُرجمت هذه القناعة التي توصلت لها في الثمانينيات إلى برنامج عمل سياسي مهّد حكم الترويكا في تونس بعد انتصار ثورة الياسمين. قلّ من يعرف أو يتذكّر أن تحالف حزب النهضة الإسلامي وحزبي المؤتمر والتكتل – وهما حزبان علمانيان- كان نتيجة اجتماع مفصلي دعوت إليه في مدينة اكس بفرنسا سنة 2003، كل مناهضي الدولة البوليسية، وانعقد طيلة ثلاثة أيام، وتمّ فيه الاتفاق لأول مرة على العمل المشترك، وحتى على صياغة وثيقة كانت مسوّدة أهم نتاج الثورة: دستور 2014.
صحيح أن الحلف الثلاثي لم يصمد، لكن ذلك لم يحصل؛ بسبب خلافات أيديولوجية، فالنهضة لم تكشّر عن أنيابها حال وصولنا للسلطة لتطالب بتطبيق الشريعة، ولم أدخل كرئيس الدولة في تحالفات مع العلمانيين الراديكاليين للتخلص من النهضة. كان الخلاف سياسيًا محضًا حول التعامل مع بقايا النظام الاستبدادي.
إعلانأذكر أنني تحدثت في اللقاءات الثلاثة التي جمعتني بالرئيس محمد مرسي، بخصوص ضرورة تجاوز الثنائية الجدباء فوجدته مقتنعًا كل الاقتناع بأن الخط الفاصل هو فعلًا بين الديمقراطيين والاستبداديين، وأكد لي أنه سعى بكل جهد ليشرك علمانيين في الحكم لكنه جوبه بالرفض؛ لأنهم لم يتمكنوا من تجاوز برمجيات فكرية قديمة وضغائن مستحكمة.
قبل المواصلة لنحدّد عمّا نتحدّث.
***
سألني أحدهم عن تعريف بسيط للعلمانية، وقد استنكرت أنها تعني الإلحاد. قلت ممازحًا: طوفان من الكتب والمقالات عن ظاهرة فيها كم من مدارس متناقضة، وتريد مني تعريفًا وتلحّ على أن يكون بسيطًا!
فجأة مرّت أمامنا فتاة محجّبة، فقلت ممازحًا: العلمانية -على الأقل التي أوْمن بها- هي رفض فرض الحجاب بالقوة كما تفعل الدولة في إيران، ونزعه بالقوة كما كانت تفعل الدولة في تونس (عهد بن علي)، أو التضييق عليه وحتى منعه في أماكن الدراسة كما في فرنسا اليوم.
ثم عدت للجِدّ: لا تفهم ما العلمانية إن لم تعرف جذورها. إنها ثورة 1789 الفرنسية التي نشأت في عداء شديد للكهنوت الكاثوليكي؛ لأنه كان مع الأرستقراطية أحد ركني استبداد الملكية المطلقة التي قامت ضدها.
كما نكّلت هذه الثورة بالأرستقراطية بقطع 1119 رأسًا، منهم رأسا الملك والملكة، نكّلت بالكنيسة الكاثوليكية رهبانًا ومبانيَ مبلورة علمانية متطرفة، وكرههًا للكهنوت الرجعي المعادي للثورة يتحول إلى كره للدين نفسه. إنها العلمانية التي أخذها للأسف الكثير من مثقفينا خاصة في المنطقة المغاربية يخفون وراء كرههم للإسلاميين كرههم للإسلام.
لكن هذا الكُره هدأ تدريجيًا حتى في فرنسا ليعرّف قانون 1905 العلمانية بأنها حياد الدولة تجاه الدين – أي دين – حيث لا تضطهده، لكنها لا تبني عليه قوانينها وسياساتها. إنها العلمانية التي أتبناها ويمكن تلخيصها كالآتي: لا تدخل للسياسة في شؤون الدين ولا تفويض للدين في المعارك السياسية، كما يفعل ما يسمّى بالإسلام السياسي.
إعلانقال هل من تعريف واضح وبسيط للإسلام السياسي؟
قلت يا رجل اتقِ الله، طوفان من الكتب والمقالات في محاولة ضبط هذا المصطلح -المرفوض أصلًا من الكثير من الإسلاميين – وتريد مني تعريفًا بسيطًا. إنه هو الآخر طيف واسع من الأفكار والتصرفات يمتد من أقصى التشدّد والانغلاق إلى أقصى المرونة والتفتح. هكذا تجد فيه الداعين إلى قطع الأيدي ورجم الزانيات بعد صلاة الجمعة، كما تجد فيه الباحثين عن مدّ الجسور والتعامل البناء مع فكر العصر، البارحة الاشتراكية، اليوم الديمقراطية.
قال: قل ما القاسم المشترك بين كل مكونات الطيف وعليك الأمان.
قلت إجمالًا هو ادعاؤها أن مرجعية التشريعات والقيم التي تسعى لجعلها دعامة الدولة والمجتمع كلام الله، لا كلام البشر.
قال لماذا تقول إنها تدّعي. قلت لأن النص القرآني الذي هو مصدرها الأساسي لا ينطق إلا عبر بشر كثر يفسّرونه حسب ما يعتقدون- بصدق وأحيانًا حسب أهوائهم ومصالحهم- ومن ثمة كثرة وتعقيد وتناقض التنظيمات والمدارس الفكرية التي نضعها تحت نفس الاسم الفضفاض.
قال: في نفس السياق ما القاسم المشترك بين العلمانيين؟ قلت إيمانهم بأن كلام البشر كافٍ وحده لإرساء دعائم المدينة الفاضلة. لكن كلام البشر كما تعلم يذهب في كل اتجاه ومن ثمة لا تستغرب أن توجد علمانيات متطرفة ومعتدلة، علمانيات اشتراكية وليبرالية، علمانيات استبدادية وديمقراطية.
سأترك قضايا التعريف للمؤرخين والباحثين في العلوم السياسية، فهم أدرى مني بتشعّب الموضوع. ما يهمني كرجل سياسي هو الصراع الذي ورثته وأعايشه – وأساهم فيه – منذ أكثر من نصف قرن بين العلمانيين بكل مللهم ونحلهم، والإسلاميين بكل طوائفهم وشيعهم، وتأثير هذا الصراع على شعوبنا المنكوبة به.
***
آخر مظاهره خروج البعض في ساحة الأمويين بعيد انتصار الثورة السورية للمطالبة بدولة علمانية وانفجار غضب الأصوليين في وجوههم يذكرونهم بأن من يقرر هو المنتصر، وبالتالي سوريا ستكون إسلامية أحب من أحب وكره من كره.
إعلانثمة أيضًا بمناسبة الاحتفال بالذكرى الرابعة عشرة للثورة التونسية حادثة تجمّع النهضة وبعض العلمانيين الذين ما زالوا ينسقون معها أمام المسرح البلدي عند منتصف النهار.. وإصرار شظايا اليسار العلماني على التجمع في نفس المكان، لكن في الرابعة بعد الظهر لأن الاستقطاب العقائدي الفجّ ما زال سيد الموقف.
الأهم من هذه الأحداث الفلكلورية المحطات التاريخية الكبرى التي شهدت الانتصار المدوي أو الهزيمة المهينة لهذا الطرف أو ذاك.
قد يكون أهم انتصار للعلمانية في عالمنا الإسلامي الهجوم الكاسح الذي قاده كمال أتاتورك لاجتثاث كل التراث الديني لتركيا والذي وصل ذروته بإلغاء الخلافة سنة 1924.
نَهج بورقيبة على نفس السياسة سنة 1956 عبر إعلان مجلة الأحوال الشخصية بكل بنودها المعطلة للشرع الإسلامي، ثم بمناداته عبر ثلاث خطب في فبراير/ شباط 1960 بضرورة التخلي بكل بساطة عن ركن من أركان الإسلام ألا وهو صيام رمضان.
في الاتجاه المعاكس نجد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية في فبراير/ شباط 1978 التي أنهت عقودًا من الصلف العلماني كما مثلّه حكم الشاه رضا بهلوي منذ 1941، أو تغلب الأحزاب الإسلامية في أفغانستان على كل الأنظمة العلمانية التي حاول السوفيات والأميركيون زرعها وآخرها انتصار طالبان سنة 2021.
أضف للقائمة إعلان زعيم تنظيم الدولة أبو بكر البغدادي في يونيو/ حزيران 2014 في مدينة الموصل عن عودة الخلافة، حتى وإن لم تدم المغامرة الدموية طويلًا.
لا أحد يعرف هل سنشهد قريبًا في إيران انتصاب دولة علمانية على أنقاض الدولة الدينية، أو كيف ستتطور المعركة المحتدمة منذ قرابة قرن في بعض البلدان الإسلامية الأخرى، فكما قال أبو سفيان "يوم بيوم بدر وإن الأيام دول والحرب سجال".
كل ما نحن متأكدون منه أن المحاولة العلمانية كالإسلامية لتطويع المجتمع والدولة انتهت في الماضي، وستنتهي في المستقبل لنفس الفشل.
إعلان***
تتباين مظاهر هذا الفشل زمانًا مكانًا والسبب واحد. لماذا؟
يقول فرانسيس بيكون أبو العلم التجريبي: " أنت لا تملي إرادتك على الطبيعة إلا إذا أطعت قوانينها ". ما يصدق على العلم يصدق على السياسة. لكنّ المتطرفين من العلمانيين والإسلاميين يعتقدون أنه يمكن إملاء الإرادة على المجتمعات دون إطاعة القوانين التي تحكمها وحتى العمل ضدها.
من هذه القوانين:
كل مجتمع بشري مطالب بالتواصل مع ماضيه، وذلك بالمحافظة على عاداته وتقاليده ومعتقداته ضمانًا لاستقراره وإلا فإنها الفتنة والفوضى.هذا الشرط الأساسي للبقاء هو الذي يبلوره كمّ هائل من النظريات والمؤسسات والأشخاص يصفهم خصومهم بالمحافظين أو الرجعيين أو الظلاميين أو المتخلفين أو ما شئت من النعوت اللطيفة الأخرى!. كل مجتمع بشري مطالب لضمان مستقبله بالتحديث والتحيين المتواصلين لأفكاره ومؤسساته -أكان عن طريق الإصلاح المتدرج أو الثورة – حتى يمكنه مواكبة تحديات عالم لا شيءَ ثابتًا فيه، وإلا فإنه الانحطاط والاندثار.
هذا الشرط الأساسي للبقاء هو الذي يبلوره كمّ هائل من النظريات والمؤسسات وأشخاص يسمون أنفسهم بالتقدميين والحداثيين ويسميهم خصومهم بالمنبتين والتغريبيين وما شئت من النعوت اللطيفة الأخرى!. كل مجتمع بشري مطالب بتلبية الحاجتين الأساسيتين وإن تبدوَا متناقضتين لأنهما متكاملتان وضروريتان لكيف يحفظ المجتمع توازنًا لا يكون إلا بالتوفيق بين الثبات والحركة.
إنها حاجة السيارة التي تشق طريقها في مسار وعر للمسرّع والمكبح. إن أفرط السائق-وهو في قضية الحال النظام السياسي بالنسبة للمجتمع – في استعمال المكبح تأخرت السيارة عن بلوغ هدفها، وإن أفرط في استعمال المسرّع خاطر بحياته وبسلامة السيارة.
هذه البديهيات هي التي يجهلها أو يتجاهلها المتطرفون من الجانبين.
من تبعات هذا الجهل أو التجاهل ارتطام إرادة التغيير في الأنظمة العلمانية المتطرفة بمقاومة الجزء المحافظ من المجتمع. أما المسؤول عن هذه المقاومة السلبية الصامتة أو الصاخبة وأحيانًا العنيفة فليس "التخلف" و"الرجعية" و"الظلامية"، وإنما ضرورة الحفاظ على تواصل مجتمع لا حاضر ولا مستقبل له إلا وهو مرتكز على ماضيه.
إعلانأما في الأنظمة الدينية المتطرفة فخيار التوقف عند الماضي والتصادم مع الجزء المتحرك من المجتمع والمسؤول عن المقاومة ليس "الاغتراب" و"التبعية" و"التنكر للهوية والخروج عن الدين" وإنما ضرورة تحيين مجتمع لا نفع له من ماضيه إن لم يكن له مستقبل بالضرورة مختلفًا عن هذا الماضي.
عن خيار التعرض لإحدى الحاجتين الضروريتين ينتج عاجلًا أو آجلًا فشل هذا الطرف أو ذاك ثم يتجدد الدوران في نفس الحلقة المفرغة بعد تبادل الدورين.
لا شكّ أن أتاتورك تقلّب في قبره وهو "يرى" عودة الأتراك بقوة لكل ما حاول تخليصهم منه، وهو حسب رؤيته كان "تخلفهم الناتج عن تعلقهم بشرقيتهم وإسلامهم"، وذلك بوصول حزب العدالة والتنمية التركي للسلطة سنة 2002. من أبلغ رموز هذا الثأر التاريخي إلغاء القرار الذي اتخذه أتاتورك سنة 1934 بتحويل مسجد آيا صوفيا إلى متحف ليعود المتحف مسجدًا من جديد بقرار أردوغان سنة 2020.
لا شك أن بورقيبة هو الآخر تقلّب في قبره وحركة النهضة الإسلامية هي التي تفوز بأول انتخابات ديمقراطية سنة 2011، لأنه كان لها قاعدة جماهيرية لم تنجح علمانيته المأخوذة دون رويّة من تاريخ أمة أخرى في التأثير عليها إلا بصفة سطحية.
عن فشل قادة إيران وأفغانستان الحتمي في فرض أصوليتهم الدينية، لا شك أنهم لا ينامون قريري العين وهم واعون بتصاعد المقاومة الصامتة والصاخبة التي يلقونها من جزء متعاظم من المجتمع وخاصة النساء وكيف أن تحدّي بعضهن وصل لدرجة المشي بالثياب الداخلية احتجاجًا على فرض الحجاب بالقوة.
بعبارة أخرى قدر الخيار العلماني الارتطام دومًا بالجزء الذي نسميه المحافظ، واستحالة التخلص منه ومن مقاومته لأنه جزء هيكلي ثابت وقارّ في المجتمع.
كذلك قدر الخيار الأصولي الديني الارتطام دومًا بالجزء الذي نسميه الحداثي واستحالة التخلص منه، ومن مقاومته لأنه جزء هيكلي ثابت وقار في المجتمع.
إعلانأي حلّ للإمعان في محاولة إنجاح خيار لا يمكن له أن ينجح؟ طبعًا فرضه بالقوة أي بالاستبداد الذي سيضيف كوارث آلياته من عنف وفساد وظلم، لكارثة الخيار الأخرق؟
مجمل القول: لأن الشكل العلماني للاستبداد لا يفهم أنه لا يمكن لأي شجرة أن تنمو بفصل الجذع عن جذوره.. ولأن شكله الديني لا يفهم أنه لا يمكن منع الأغصان من النمو في أكثر من اتجاه بحثًا عن نور الشمس، فإن قدرَ الاستبداد لكسر المقاومة الطبيعية التي تولدها سياسته الحمقاء، حربٌ أهلية صامتة ضد نصف المجتمع تكلف هذا المجتمع غاليًا وغالبًا ما تنتهي بثورة هي الأخرى باهظة التكاليف.
***
للخروج من الثنائية العقيمة المتسببة في هذه الحرب الأهلية المزمنة تحرك العقل الجماعي بحثًا عن خيار ثالث.
تبلور هذا الخيار في البداية بانشقاق داخل الكتلتين المتصارعتين، تَرك على أقصى الطيف المتطرفين، ودفع إلى وسطه المعتدلين من الكتلتين ليبحثوا عن مخرج.
أي مخرج غير الديمقراطية؟ كيف لا وهي الأيديولوجيا الوحيدة التي تنطلق من الاعتراف بالتعددية المجتمعية والسياسية، ومن الإيمان بضرورة إدارة الصراع بين قوى المحافظة وقوى التغيير بصفة سلمية؛ لكي يتطور المجتمع بآليات الدفع تحت ضغط العلمانية، وبآليات الكبح التي تسهر عليها الأصولية الدينية.
نعم، ولكن.. حقًّا الاستبداد بتداول حكمه عبر شقيه العلماني والإسلامي هو المرض العضال لمجتمعاتنا.
حقًّا الديمقراطية هي دواءه الوحيد المتوفر حاليًا. لكن ماذا لو كان الدواء هو نفسه فاسدًا؟ كيف نداوي مريضًا بدواء قد يزيده مرضًا؟
ألا يعكف بقلق متزايد الكثير من المفكرين الديمقراطيين في كبرى الجامعات ومراكز البحوث على ظاهرة الانحسار المتسارع للديمقراطية في جلّ أماكن العالم وخاصة في أقدم معاقلها (البلدان الغربية)؟
ألا نلاحظ أن القوى الاستبدادية نجحت إلى قدر كبير حتى في الغرب في السطو على جلّ آليات الديمقراطية، ومنها الانتخابات لتطويعها بالمال الفاسد والإعلام الفاسد لتضليل الشعب الذي تدعي خدمته، وفرض مصالحها على مصالحه.
إعلانكيف لا ننتبه لخطورة مدّ الشعبوية والحركات اليمينية المتطرفة في هذا العصر، كالتي حملت هتلر سنة 1933 لسدة الحكم، وبفضل انتخابات لا أكثر منها ديمقراطية؟
كل هذا صحيح، لكن هل لنا من خيار آخر غير التمسك بالقيم والمبادئ الديمقراطية، وهي الوحيدة التي تضمن التوفيق بين المحافظة والتغيير؟ أليس من واجبنا تفحص آلياتها المعطوبة لنرى ما الذي يجب إصلاحه فيها لكيلا يحكم علينا أن نبقى ندور في نفس الحلقة المفرغة التي أنهكت شعوبنا ولا تزال تستنفد طاقات صراع لو وفرناها على أنفسنا لكنا من صنّاع التاريخ لا من ضحاياه؟
***
وللحديث بقية: هذه هي ديمقراطية عرب الواحد والعشرين
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outlineالمصدر: الجزيرة
كلمات دلالية: حريات تعریف ا فی نفس
إقرأ أيضاً:
نحن الآن في أخطر مفترق طرق
اختلف كثيرون حول وصف سوريا بـ"قلب العروبة النابض"، وهو الوصف الذي كاد يرقى إلى مرتبة "المُسلّمات" في المنقلب الثاني من القرن الفائت. بيد أنك لن تجد اثنين يتجادلان حول مكانة سوريا بوصفها "قلب المشرق الكبير"، وأقصد به دول ما كان "هلالًا خصيبًا" ذات يوم، وجوارها التركي والإيراني، وبالمعنى الجغرافي، المنطقة الممتدة من ضفاف قزوين وحتى شرق المتوسط، مرورًا بالهضبة التركية.
خرائط هذا المشرق، رسمتها نتائج حربين كونيتين، ووثّقت بين خطوطها، حدود التقسيم والتقاسم، من سايكس- بيكو وبلفور، إلى سان ريمو ولوزان، وزرعت في ثناياها قنابل "هوياتية"، قابلة للاشتعال والانفجار.
وقد انفجر بعضها على نحو شبه "منضبط" و"موقعي" طيلة القرن الفائت، وستنفجر على نطاق واسع، عصيّ على الاحتواء على ما يبدو، منذ مفتتح القرن الحادي والعشرين، فيما بات يعرف بزمن "الهويات القاتلة".
سيأخذ الهلال الخصيب، اسمًا حركيًا جديدًا منذ العام 2005: "الهلال الشيعي"، وستنشأ مع اندلاع موجات الربيع العربي، "أقواس سنيّة" متحركة، وسيدخل مصطلح "العثمانية الجديدة" مجال التداول لأول مرة منذ سقوط الخلافة.
سيندفع للخلف مفهوم "القومية العربية"، وستحل محلّه على استحياء مفاهيم مفصّلة على مقاسات اللحظة التاريخية، لعل أهمها، بل أخطرها، مفهوم "العروبة الجديدة" التي يراد تعزيز رابطتها القومية، فقط في مواجهة إيران وحلفائها، مع ترك الباب مفتوحًا لتحالف محتمل مع "الدولة اليهودية"، وفقًا لمندرجات "ناتو شرق أوسطي جديد" حينًا، وبمبررات "أبراهامية" حينًا آخر.
إعلانفي معمعة الأفكار والمشاريع والمصالح المتضاربة، حد التناحر أحيانًا، تحتل سوريا مكانة محورية، مستمدة أساسًا من "توسطها الجغرافي" لـ "المشرق الكبير"، والأهم من "فسيفسائها الديمغرافية" التي تكاد تختصر الفسيفساء السكانية لأكثر من نصف دزينة من الدول والبلدان التي يتشكل منها الإقليم. حتى بات يصح القول إن من يسيطر على سوريا، يكاد يفرض سيطرته على المنطقة برمتها.
سوريا في ظلال "الدولة المركزية" نجحت إلى حد كبير، ولسنوات وعقود، في قطع التواصل الأفقي بين الكيانات والمكونات المذهبية، التي تتشكل منها مجتمعات الإقليم، مع أنها انخرطت كدولة في نزاعات وصراعات "عمودية" مع جوارها العربي: (لبنان والعراق والأردن)، والإقليمي: تركيا وإيران في مرحلة سابقة، قبل أن تصبح الأخيرة، سيدة اللعبة في سوريا طيلة أزيد من عشرية من السنين، تتويجًا لعلاقات تعاون وتحالف، امتدت منذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران العام 1979، وحتى الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.
سوريا "الدولة الضعيفة" أو "المُضعَفَة"، التي لا تسيطر منذ سنوات طوال، على أزيد من 40 بالمئة من أراضيها وأكثر من نصف ساكنتها ومواطنيها، أفسحت المجال أمام "علاقات أفقية" بين مكوناتها وكياناتها وما يناظرها في دول الجوار.
بات "الدرزي الفلسطيني أو اللبناني" أقرب لـ"الدرزي السوري" من جاره "السنّي" في درعا، وبات شيعة لبنان والعراق أقرب لشيعة سوريا من جيرانهم السنّة في أماكن انتشارهم وتوزعهم.
وباتت الهوية المذهبية والطائفية هي المُحدد لشكل الهجرات المتعاقبة، والمُقرر للهوية المذهبية لموجات اللاجئين والنازحين قسرًا عن ديارهم، قبل سقوط النظام انتمت غالبية اللاجئين للمكون السنّي الأكثري، وبعد سقوطه، تتالت عمليات لجوء الأقليات العلوية والشيعية إلى "حواضنها الاجتماعية" في لبنان، وصولًا للعراق.
إعلانوالأمر ذاته تكرر عندما توجه عشرات ألوف الشيعة من لبنان إلى العراق هربًا من الجبروت والترويع الإسرائيليين لحاضنة حزب الله.
وبين هذه وتلك، ثمة أمثلة أكبر أو أصغر، دالّة على اختلاف "الهويات المذهبية والطائفية" لموجات اللجوء والنزوح في هذا الإقليم، منذ مفتتح القرن الحالي، بدءًا بالعراق بعد سقوط نظام صدام حسين.
قرابة المليونين من السوريين لجؤُوا إلى لبنان إبان حكم النظام المخلوع، معظمهم من العرب السنّة. وبعد السقوط، تدفق عشرات ألوف الشيعة والعلويين إلى القرى اللبنانية ذات الأكثرية العلوية أو الشيعية، والحبل على الجرار.
قبل ذلك، كان اللاجئون العراقيون من مختلف الطوائف، يختارون وجهاتهم وفقًا للمعيار المذهبي أو الطائفي الحاكم، وبما يشبه إعادة الفرز على خطوط المذاهب والأقوام.
اختار أبناء المحافظات العراقية الغربية الأردن كوجهة، واختار أبناء الوسط والجنوب إيران، ولبنان، وسوريا تحت حكم آل الأسد، فيما كان الغرب، وجهة رئيسة لما يقرب من مليون مسيحي، نزفهم العراق منذ احتلال بغداد، واليوم يتواصل النزف المسيحي من غالبية دول المنطقة، ومن ضمنها سوريا، وبما يشي بأن هذا المشرق قد يصبح في غضون عشريات قلائل، منطقة خالية من المسيحيين، سكان هذه البلاد الأصليين.
خلاصة المشهد، أن الحراك السياسي والاجتماعي داخل المكون الواحد، لم يعد مقتصرًا على الحدود الجغرافية لهذا البلد أو ذاك من بلدان المشرق. الدروز يتحولون إلى "مسألة درزية"، لا تعترف بحدود سايكس- بيكو، وانقساماتهم يقودها قطبان غير سوريين: وليد جنبلاط (اللبناني) وموفق طريف (الفلسطيني/الإسرائيلي)، والصراع محتدم بين من يمثلون إرث سلطان الأطرش، وشكيب أرسلان، وكمال جنبلاط، ومن اختاروا "الأسرلة" والاستقواء بالاحتلال الإسرائيلي المتمادي للأراضي السورية (دع عنك فلسطين وجنوب لبنان).
إعلانو"المسألة الكردية" كانت على الدوام "عابرة للحدود"، وموزعة على أربعة أقطار من هذا "المشرق الكبير"، فيما أكراد سوريا يواجهون اليوم، أكثر من أي وقت مضى، "سيناريو الأقلمة"، وتلعب زعامتان غير سوريتين كذلك، دورًا مقررًا في تحديد وجهتهم واتجاهاتهم: التركي عبد الله أوجلان، والعراقي مسعود البارزاني، وبدرجة أقل، المدرسة الطالبانية في السليمانية، ولكل منهم حساباته ومصالحه وتحالفاته ومرجعياته المختلفة، حتى لا نقول المصطرعة.
وعلى الرغم من هدأة الأوضاع على الساحل السوري، فإن أحداث الأيام والأسابيع الفائتة، تحمل في طيّاتها إرهاصات نشوء "مسألة علويّة"، لن تتوقف عند حدود الساحل والجغرافيا السورية، بل أخذت تطل برأسها فوق سماء طرابلس وقرى عكّار اللبنانية، وتثير سجالًا داخل تركيا، دفع بالرئيس رجب طيب أردوغان، إلى تحذير منافسيه في حزب الشعب الجمهوري، من مغبة اللعب على هذه الورقة، وإثارة "فتنة مذهبية" استنادًا لتعاطف علويي تركيا الكُثر، مع الأقلية العلوية السورية.
بهذا المعنى، تكتسب سوريا مكانتها بوصفها "قلب المشرق الكبير"، فإن اجتازت تحدي التقسيم، أمكن للإقليم برمته، تجاوز مفاعيل "مبدأ الدومينو"، وإن استعادت "الدولة الوطنية" مكانتها المحورية في الداخل، أمكن الحفاظ على خرائط ما بعد الحرب العالمية الأولى، تلك الخرائط المرذولة التي كانت موضع هجاء من معظم تيارات الفكر والسياسة العربية، قبل أن يصبح الحفاظ عليها، "غاية لا تدرك" إلا بـ"شق الأنفس".
ولهذا السبب رجحنا في بداية التغيير في سوريا قبل مائة يوم أو يزيد قليلًا، فرضية أن سوريا ذاهبة لخيار التقاسم، تقاسم النفوذ، بين لاعبين إقليميين ودوليين كبار، على حساب "سيناريو التقسيم" الذي لا تفضله سوى إسرائيل وبعض دوائر الغرب الاستعماري الأكثر فظاظة.
لكن التطورات تتسارع بوتيرة شديدة الخطورة، جالبةً معها، شتى الاحتمالات وأخطرها، لا سيما بوجود "جيوب إسرائيلية" مبثوثة في أوساط مختلف المكونات، يعلو صوتها ويخفت على وقع الأحداث والتطورات المتسارعة.
إعلانوبمعزل عن "المقاربات البائسة" التي تكتفي بإجراء المقارنات بين نظام قديم منهار، وآخر جديد قيد التشكل، وبعيدًا عن "المقاربات الأيديولوجية" التي تنشئ انحيازًا مطلقًا لأي منهما، فإن التفكير الواقعي والمسؤول، يقترح التطلع إلى الأمام، وإدراك حقيقة أن الحفاظ على وحدة سوريا يعادل الحفاظ على الوحدة الوطنية والترابية لدول الإقليم كافة.
وأن استقرار سوريا، هو مصدر الاستقرار لدول الإقليم برمتها. وأن النجاح في إعادة بناء "الدولة الوطنية" السورية، هو المتطلب الضروري لجهود الحفاظ على "الدول الوطنية" في الجوار القريب والبعيد لدمشق.
ليس المهم أن تتفق مع أو تفترق عن النظام القائم في دمشق، وحدة سوريا وسلامة ترابها الوطني، تبدوان أولوية لا تعلوهما أولوية أخرى، فمن يَعِد بالتقسيم، يَعِد بالفوضى والخراب العميمين والمُقيمين.
لسنا من أنصار النظام البائد، ولقد مُنعنا من دخول دمشق لأكثر من ربع قرن (على دفعتين) بينهما فاصل زمني قصير، كما أننا بالقطع، لا ننتمي للمدرسة السياسية والفكرية للنظام الجديد. لم نأخذ حكاية "مقاومة النظام المخلوع وممانعته" على محمل الجِد، ونحن أبناء تجربة تفتحت على فصول التدخل السوري في لبنان (1975)، وحروب المخيمات وحصاراتها، وحصار طرابلس، ومحاولات تدبير انشقاقات لا هدف منها سوى السطو على منظمة التحرير، ووضع اليد على الحركة الوطنية الفلسطينية.
لكننا نراقب بكثير من القلق، تدني مكانة "التهديد الإسرائيلي" في أجندة النظام الجديد في سوريا، ورهاناته على أن بمقدوره تفادي السيناريو الأسوأ للنهم الإسرائيلي التوسعي، إن هو أكثر من رسائل الطمأنينة التي يبعث بها، وجنح إلى مزيد من الاعتدال و"النأي بالنفس" و"الحياد الإيجابي الفعّال".
نفهم أن رهان سوريا اليوم، لا يسمح بالتفكير بخيارات عسكرية. ولكننا لا نفهم أبدًا، ألا تزدحم الأجندة السورية بالخيارات السياسية والدبلوماسية والقانونية التي تشكل سدًّا في وجه من تسوّل له نفسه و"جيبه" وتفكيره المريض، خرق جدران المقاطعة، ومد يد العمالة للكيان الصهيوني. لا يمكن وقف عجلة التهافت ومدّ اليد للإسرائيلي من الأطراف، إن كانت يد المركز متراخية حيال هذا الموضوع.
إعلانسوريا اليوم، أمنًا واستقرارًا، سيادة ووحدة ترابية ووطنية، هي مفتاح الأمن والاستقرار لدول المنطقة وسلامة أراضيها، وبخلاف ذلك، وإن وقع المحظور، لا سمح الله، فإن شرارات الانقسام والتقسيم والتقاسم، الفوضى "غير الخلاقة" وعدم الاستقرار "المستدام"، ستتطاير في عموم هذا "المشرق الكبير".
الآراء الواردة في المقال لا تعكس بالضرورة الموقف التحريري لشبكة الجزيرة.
aj-logoaj-logoaj-logo إعلان من نحناعرض المزيدمن نحنالأحكام والشروطسياسة الخصوصيةسياسة ملفات تعريف الارتباطتفضيلات ملفات تعريف الارتباطخريطة الموقعتواصل معنااعرض المزيدتواصل معنااحصل على المساعدةأعلن معناابق على اتصالالنشرات البريديةرابط بديلترددات البثبيانات صحفيةشبكتنااعرض المزيدمركز الجزيرة للدراساتمعهد الجزيرة للإعلامتعلم العربيةمركز الجزيرة للحريات العامة وحقوق الإنسانقنواتنااعرض المزيدالجزيرة الإخباريةالجزيرة الإنجليزيالجزيرة مباشرالجزيرة الوثائقيةالجزيرة البلقانعربي AJ+تابع الجزيرة نت على:
facebooktwitteryoutubeinstagram-colored-outlinersswhatsapptelegramtiktok-colored-outline