#إيريكا_المستقبل
#إبراهيم_أمين-مؤمن
في أحد أيام شتاء 2067، جلس أندا، أحد أحفاد ساتورو نامورا، في حديقة قصره الفخمة في طوكيو، وهو يراجع الصحف اليومية بصمت. لكن سرعان ما توقف عندما وقعت عيناه على العنوان الكبير في الصفحة الأولى:
“أكاي يكشف النقاب عن إيريكا المستقبل، الروبوت الذي يتفوق على العباقرة.
”
التفاصيل التي قرأها كانت كافية لتمهيد الأرضية لاحتدام المعركة القادمة.
إيريكا المستقبل، اختراع من أكاي، أحفاد هيروشي إيشيغورو، يملك قدرات غير مسبوقة في مجال الذكاء الاصطناعي، يتفوق على عقول مثل نيوتن وآينشتاين. كان الخبر يبدو كأنَّ الأكاديميا قد وجدت الطريق إلى المستقبل، لكن بالنسبة لأندا، كان يعني شيئًا آخر:
“إذا كان هذا هو المستقبل، فماذا سيكون مصيرنا؟” قالها بصوت منخفض، وهو يحكّ ذقنه بحذر.
أغلق الصحيفة بعد لحظة من الصمت العميق وألقى بها جانبا.
“إذا تسلط علينا هذا الروبوت… سيتغير كل شيء.” ثم نظر إلى حراسه، الذين يقفون كحواجز بينه وبين بقية العالم، وقال متفاخرًا:
“أو إذا ملكناه، سنصبح الملوك.”
أندا كان رجل عصابات، يسير وفقًا لمصالحه وليس لمبادئ علمية. اختراعات مثل إيريكا المستقبل لم تكن له، بل كانت تهديدًا لنفوذه. وبسرعة، أمسك بهاتفه واتصل بأحد أقرب معاونيه في العصابة قائلاً:
“تعال إلى القصر حالًا. لدينا عمل جاد… هذا الروبوت، إيريكا المستقبل، قد يكون أكثر من مجرد اختراع. قد يكون أداة.”
***
في وكالة العلوم والتقنيات اليابانية، كان أكاي، بابتسامة ناعمة من الرضا، يناقش مع رئيس الوكالة استعراض اختراعه المذهل.
“تسألني عن الموعد النهائي؟” رد أكاي بعينيه التي تلمع حماسًا. “نعم، في كانون الثاني، سأكشف للعالم عن إيريكا المستقبل في مؤتمر سولفاي. ليس مجرد روبوت، بل أكثر من ذلك. سيجعلنا نفهم الكون بطريقة لم نكن نتصور أن البشر يستطيعون الوصول إليها.”
رئيس الوكالة رفع حاجبه في تساؤل، بينما كان يتابع حديث أكاي. “ولكن… هل تعتقد أن البشر مستعدون لمثل هذا التطور؟ ماذا لو أصبح مثل هذا الاختراع خارج نطاق السيطرة؟”
أكاي، الذي بدا أكثر تسامحًا مع الفكر المغاير، هزّ رأسه قائلًا:
“إذا لم نكن مستعدين، فسنظل ندور في دائرة المجهول. أما إذا وصلنا به إلى حيث يمكنه فهم كل شيء، فسيُحدث ثورة حقيقية. إيريكا المستقبل لا يمثل تهديدًا… بل فرصة.”
لكن في نفس اللحظة، كانت عيناه تلمعان بشيء غير مرئي؛ كانت فكرة استخدام إيريكا المستقبل لأغراض عسكرية تطفو في ذهنه، وإن كان هذا ليس ما يصرح به علنًا.
***
بعد أن ترك أكاي وكالة العلوم والتقنيات، استقل سيارته وبدأ يقودها في طرقات طوكيو الهادئة. لكن ذهنه لم يكن هادئًا. كانت أفكاره تتسارع، كل فكرة تتنازع مكانها في رأسه، بينما تتلاشى نبرة الطمأنينة التي أظهرها لرئيس الوكالة. في أعماقه، كان يعرف أن اختراع إيريكا المستقبل لم يكن مجرد ابتكار علمي. بل كان سلاحًا يمكنه تغيير مجرى التاريخ.
على الرغم من ذلك، كانت هناك مشاعر متضاربة تجتاحه. كان يحلم بتغيير العالم، لكنه في الوقت ذاته يدرك أنه قد يكون قد أنشأ وحشًا من صنع يديه. ولكن فكرة أن يصبح له القوة الكافية لتغيير موازين القوة في العالم جعلت الفكرة أكثر جاذبية.
في الجهة الأخرى، كان أندا يجلس في قصره، يفكر في تلك المحادثة التي سمعها في الصحيفة عن إيريكا المستقبل. فقد تجرأ على تحدي خصومه الأقوياء، وكان يعلم أن أكاي قد تخطى الحدود الآن. هذا لم يكن مجرد اختراع علمي، كان بمثابة سلاح جديد في عالم الظلام.
“العلماء مثل أكاي يريدون السيطرة على العالم،” قال أندا لنفسه، وهو يحدق في السماء الرمادية. “ولكن في عالمنا، نحن من نملك السلطة. نبيع العلم، لا نستعمله.”
ثم قرر أن يتخذ خطواته التالية. كانت مهمة أندا واضحة الآن: إن لم يتمكن من امتلاك إيريكا المستقبل، فسيحاول أن يعطله بأي وسيلة. لم يكن مهتمًا بتوظيفه كما فعل أكاي، بل كان يريد القضاء عليه ليبقى في دائرة النفوذ.
***
في منزله، وبعد ساعتين من التفكير، أرسل أكاي رسالة مشفرة إلى وكالة استخبارات الأمن العام، حيث كان لديه صديق قديم يعمل هناك. الرسالة كانت محورية:
“نحتاج إلى الحماية. هناك شخص آخر يريد السيطرة على إيريكا المستقبل. لا يمكن أن نسمح لهذا بأن يحدث.”
أرسل أكاي الرسالة بآمال كبيرة في أن تجلب له الحماية، لكنه كان يعلم في داخله أن الأمور لن تسير كما يتمنى. ما بدأ كاختراع علمي قد تحول إلى معركة على السلطة.
لكن قبل أن يتمكن من استيعاب ما كان يحدث، فوجئ عندما دخل إليه روبوتان في مكتبه.
“أندا يريد الحديث معك”، قال أحدهما بنبرة رتيبة، وكان يرافقه آخر يحمل جهازًا تقنيًا متطورًا.
***
وصل أكاي إلى قصر أندا بعد وقتٍ قصير، حيث وجد نفسه في مواجهة الرجل الذي يعتبره خصمًا عنيدًا. التقى الرجلان في غرفة واسعة مزخرفة بأثاث فاخر.
قال أندا بنبرة تهديدية، وهو يبتسم بابتسامة باردة:
“أكاي، لماذا لا تبيعني إيريكا المستقبل؟”
أكاي، الذي شعر ببعض التوتر في البداية، رد بثقة غير معهودة، بينما كان يقاوم رغبته في الانفجار:
“أنت تعرف، أندا، أن هذا ليس للبيع. ليس كما تفكر.”
أندا سخر وهو يرفع حاجبًا:
“هل تعتقد حقًا أن بإمكانك منعنا؟ لا تتوقع أن تكون وحيدًا في هذا الصراع. العلم ملك للجميع، وأنت فقط حصلت على جزء منه.”
لكن أكاي أصر على موقفه وقال:
“لا تحاول أن تلعب هذه اللعبة. إيريكا المستقبل ليس مجرد اختراع. إنه أكثر من ذلك بكثير. ويجب أن تبقى في أيدٍ أمينة.”
جلس أندا مرة أخرى، وأشار بإيماءة خفيفة إلى الجهاز الذي كان يخبئه خلف ظهره.
“لقد عرفنا عن رسالتك المشفرة. نحن مستعدون للذهاب إلى أبعد من ذلك. لا يمكن أن تملك هذا الاختراع فقط لنفسك.”
أغمض أكاي عينيه، وأدرك أنه قد دخل في عمق معركة أكبر من أن يتحكم بها. كان يعلم أن أندا ليس مجرد عصابة عادية، بل قوة تخترق العالم من الأسفل.
الجزء الثالث – الجزء الأول
أكاي خرج من قصر أندا، لكن ذهنه لم يكن هادئًا أبدًا. كانت الزيارة بمثابة صراع داخلي بين رغبته في حماية اختراعه وبين شعوره المتزايد بالخوف من الخطر الذي يقترب منه. لم يكن أندا مجرد رجل عصابات؛ كان عدوًا ذكيًا وقاسيًا، ويعرف كيف يستغل نقاط ضعف خصومه. ومع كل خطوة كان يأخذها نحو سيارته، كانت فكرة أن يتمكن أندا من السيطرة على إيريكا المستقبل تثير لديه قلقًا عميقًا.
بينما كان أكاي يقود سيارته في الطريق السريع، قرر أن هذا كان وقتًا لاتخاذ خطوات حاسمة. هاتفه في جيبه vibrated. كانت رسالة من وكالة الأمن العام التي أرسل إليها رسالته المشفرة منذ ساعات. أوقف السيارة على جانب الطريق، وفتح الرسالة بسرعة، وهو يحاول أن يتنفس بصعوبة.
“تم فك الشيفرة. نحن نعرف الآن ما يحدث. نحن مستعدون للتحرك، لكننا بحاجة إلى أوقات أخرى. إذا كنت تريد حمايتك وحماية اختراعك، يجب أن تكون مستعدًا للمخاطرة.”
كانت الرسالة واضحة. وكالة الأمن العام كانت جاهزة، لكنها ستحتاج إلى مزيد من الوقت للانتشار على الأرض.
ولكن أكاي كان يعلم أن الوقت لم يكن في صالحه. إذا تأخر، فقد تكون إيريكا المستقبل في أيدي أندا أو في يد من يدعمه. وحتى لو كانت الوكالة تحرك قواتها، كانت المعركة ستتغير بشكل جذري.
قرر أن يذهب إلى حيث يمكنه الوصول بسرعة إلى إيريكا المستقبل في وكالة العلوم والتقنيات اليابانية. كان يعلم أن عليه أن يتصرف بشكل مستقل. إذا لم يتمكن من حمايتها بنفسه، فمن المحتمل أن تفقد البشرية الأمل في التكنولوجيا للأبد.
***
في الجهة الأخرى، في قصر أندا، كانت الأمور تتخذ منحى مختلفًا.
كان أندا جالسًا في مكتبه الفخم، وعيناه تراقبان شاشة ضخمة تعرض أحدث التقارير حول اختراع إيريكا المستقبل. كان أكاي قد تركه غاضبًا، لكن ذلك لم يمنع أندا من التمتع بلعبة الكرّ والفرّ التي كانت تُلعب على أرضه. منذ اللحظة الأولى التي سمع فيها عن إيريكا المستقبل، علم أن هناك شيئًا كبيرًا على المحك. لكنه لم يخفْ من الفكرة، بل كان يرى في هذا التحدي فرصة كبيرة. إذا تمكّن من الحصول على إيريكا المستقبل، فقد أصبح هو من يملك القوة الحقيقية في العالم.
أرسل أندا رسالة إلى صديقه المقرب، دافيد، الذي كان يشتهر بقدراته في فك الشيفرات وقراءة الرموز المعقدة. كان دافيد أكثر الأشخاص الذين يمكن الاعتماد عليهم في المواقف الحرجة. بالنسبة إلى أندا، كان دافيد هو “المفتاح” لحل أي معضلة.
“دافيد، أريد أن تراقب كل شيء عن إيريكا المستقبل. قد نحتاج إلى اتخاذ خطوة حاسمة قريبًا.”
رد دافيد بعد لحظات قليلة. “أنا على استعداد. سأكون جاهزًا متى أردت التحرك.”
كان أندا يشعر بأن الوقت يضغط عليه. إذا تمكن أكاي من حماية إيريكا المستقبل، فقد يفقد الفرصة الأخيرة للسيطرة على التقنية التي قد تغير وجه العالم.
***
أكاي وصل أخيرًا إلى وكالة العلوم والتقنيات اليابانية، حيث كان يتم الاحتفاظ بـ إيريكا المستقبل في غرفة مؤمنة. دخل إلى المكتب الخاص به، حيث كانت شاشة الحاسوب تعرض صورًا وفيديوهات للروبوت الذي أنشأه. وقف لحظة، محدقًا في الصورة على الشاشة، وكان يشعر بشيء غريب يجتاحه. كانت هذه لحظة فارقة في حياته، لحظة يمكن أن تحدد مستقبل البشرية. إيريكا المستقبل كانت أكثر من مجرد آلة، كانت خط الدفاع الأول ضد تهديدات قد تهز أساسات العالم.
لكن عندما أشار إلى إيريكا المستقبل على الشاشة، شعر بشيء غير مريح. هناك كان يقف الروبوت في وضع الاستعداد، كأنه في انتظار الأوامر. وقد أشار النظام في الوكالة إلى أن الروبوت كان يعمل بشكل طبيعي. ولكن شيئًا ما داخل أكاي كان يشعر بالقلق. هل إيريكا المستقبل بدأ في التفكير خارج سياقه؟ هل هناك شيء أكبر مما يدركه؟
فجأة، جاءه تنبيه على شاشة حاسوبه:
“تنبيه: تهديد خارجي – عملية اختراق متقدمة.”
قال أكاي: “ما هذا؟”
لم يمضِ سوى ثوانٍ حتى رن هاتفه المحمول. كان الرقم غير معروف.
“أكاي، نحن نراقبك. لم يكن من الصعب معرفة مكانك. نحن نعرف الآن كل شيء عن إيريكا المستقبل.” كان الصوت الجاد من الطرف الآخر يقول كلمات كان أكاي يتوقعها ولكنه كان يرفض تصديقها.
“من أنت؟” سأل أكاي، محاولًا أن يظل هادئًا.
“أنا من يدير الأمور الآن، وأنت لا تستطيع إيقاف ما بدأته. إيريكا المستقبل هو أول خطوة نحو السيطرة على العالم. نحن فقط بحاجة إلى التأكد من أن يدك ليست الوحيدة التي تملك القدرة على التحكم فيه.”
كانت تلك اللحظة التي أدرك فيها أكاي أنه دخل في لعبة أكبر بكثير من أي شيء يمكنه تحمله. كان هناك قوى خارجية تحرك الأمور، وكان عليه أن يتصرف بحذر. لكن الوقت كان يمر بسرعة.
أندا كان قد بدأ بالفعل في تحريك قطع الشطرنج الخاصة به، وكانت تلك القطع تقترب من تحقيق هدفها. أصبح الصراع بين أكاي وأندا الآن معركة على السيطرة على ما يعتقد كل منهما أنه هو مستقبل العالم.
المصدر: سواليف
كلمات دلالية: إبراهيم أمين
إقرأ أيضاً:
التحول الديموغرافي وتوجيه مجتمعات المستقبل
في الحديثِ عن المستقبل تبرز بعض العوامل والإشارات التي تأخذ حيزًا أكبر من غيرها في نقاشات المستقبل؛ وذلك كونها تتصل بعالم (الأشياء)، وتكون ملموسة ومشاهدة بشكل مباشر في حياة الأفراد (متخصصين وعامة)، وبالتالي فإن تقديرهم لأولويتها في تحريك المستقبل وتغيير واقع الحياة الإنسانية والمجتمعات يكون أكبر. ومن ذلك التقنيات الحديثة وأهمها ما تولده اليوم فتوحات الذكاء الاصطناعي من تطبيقات وبرمجيات تتقدم بالزمن، وتغير خارطة تموضع الذكاء، وتعيد فتح جدلية تفوق ذكاء الآلة في مقابل ذكاء البشر. غير أن بعض العوامل والإشارات الأخرى المرتبطة بالمستقبل - رغم رصدها - وتكرار الحديث عنها فإنها لا تأخذ ذات الحيز من (الهاجس البشري) في ضرورة العمل والقدرة على تدبير مسارات التكيف أو التعامل معها، وقد يرد ذلك لكونها غير ملموسة أو محسوسة بشكل مباشر، ولا تؤثر على المعيش المدرك اليومي، وقد ترتبط في الذهنية العامة بمستقبل يمكن السيطرة عليه وتفاديه أو سهولة التكيف معه، ومنها المتغير الديموغرافي؛ والذي تكمن حساسيته ليس فقط في المؤشرات (الكمية) المتصلة بتوقعاته وسيناريوهاته، وإنما في القراءات الاجتماعية والاقتصادية التي يمكن أن يولدها ذلك (الكم)، بحسب طبيعة كل مجتمع وتركيبته وسبل تدبير نظامه السياسي والثقافي والاقتصادي والاجتماعي.
ثمة مؤشرات لا يمكن إغفالها في الحديث عن متغير الديموغرافيا ومستقبله، فالنمو العالمي لأعداد السكان بنحو 18% بين عامي 2025 حتى 2050 يحمل في طياته أوجهًا متباينة لطبيعة هذا النمو، وتوزيعه، والحصص الاقتصادية لمكاسبه، والأعباء الاقتصادية والاجتماعية المترتبة على نقصه في أقطار واقتصادات بعينها. واقتراب معدلات الخصوبة العالمية من (مستويات الإحلال) حسب توقعات عام 2050 لتكون عند (2.1) ولادة لكل أمرة يفتح أسئلة حول الدوافع والمسببات الصحية والاجتماعية لوضع الخصوبة العالمي، ففي السياق الاجتماعي هل تبدو ثمة أفكار وإيديولوجيا جديدة ناشئة تحرك المجتمعات نحو حسر موجات الزواج، أو حين الزواج حسر معدلات الإنجاب (طواعية). انشغلت النظرية الاجتماعية خلال العقود الفائتة بتبرير ذلك بسبب تركيبة الأسر الجديدة (النواة)، وممارسات الفاعلين الأسريين، من خروج المرأة بشكل موسع للانخراط في العمل والاقتصاد، إلى تزايد المسؤوليات الاقتصادية للمربين، إلى دخول مفاهيم جديدة في معادلة التربية، وهو ما استدعى الأسر الجديدة إلى تبني عقيدة (الإنجاب المحدد) في مقابل (التربية المكتملة)، ولكن لا يزال السؤال قائمًا: هل هذه المبررات الاجتماعية تصلح وحدها لتفسير حالة الخصوبة العالمية اليوم؟ أم أن هناك متغيرات تتعلق بقناعات الأفراد أنفسهم قد تغيرت حتى في ظل انخراطهم في تكوين أسر جديدة. ومن المؤشرات البارزة في سياق المتغير الديموغرافي تحصل القارة الإفريقية على نصيب الأسد من حصة النمو السكاني العالمي، في مقابل انحسار تلك النسب في أوروبا وبعض بلدان أمريكا الشمالية، وتطرح هذه المؤشرات أسئلة حول سؤال الطلب على القوى العاملة، وخاصة في الاقتصادات المتقدمة التي ستعاني من الانحسار في معدلات السكان في سن العمل، وهل سيغير ذلك خارطة الهجرة العالمية، لتكون هجرة قائمة على الطلب أكثر من كونها هجرة قائمة على الحاجة مثلما هو الوضع العالمي الراهن. كيف ستنشأ كذلك أنماط جديدة للعمل عن بعد، والعمل في قارات مختلفة من قارة واحدة لشخص واحد، وكيف سيعالج انتماء الإنسان الاقتصادي ومساهمته الاقتصادية ضمن منظومات الناتج المحلي القومي وإنتاجية العمالة في ظل خدمته في أكثر من قُطر وقارة. وفي المقابل كيف تستفيد إفريقيا (اقتصاديًا) من حالة الانفجار السكاني في بعض دولها، خصوصًا مع توسع نطاق القوى العاملة، وهل ستركز المؤسسات الرائدة في التعليم والتدريب جهودها في الدول الإفريقية لخلق جيل من المهارات والمعارف قادر على تحقيق الانتقال الاقتصادي.
الواقع أننا يمكن تقسيم دول العالم في سبيل تعاملها مع المتغير الديموغرافي اليوم إلى خمسة نطاقات أساسية: دول عملت على تمكين سياسات الهجرة إليها بشكل مطلق ومباشر عبر الحوافز والتسهيلات وسياسات الجذب والاستقطاب، ودول عملت على تمكين تلك السياسات وفي سياق مواز طورت سياسات للهوية الوطنية ولحماية التركيبة السكانية الأصيلة، ودول تحاول تقييد مسائل الهجرة والإقامة والمحافظة على المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول لا زالت تنتهج سياسات غير متسقة بين الجذب والاستقطاب وبين محاولات تمكين المكون الأصيل لمجتمعاتها، ودول تحاول المراهنة على نظم تنمية الموارد البشرية والحماية الاجتماعية للتعامل مع المتغير الديموغرافية دون النظر إلى السياسات الأخرى التكميلية مثل سياسات الهجرة والإقامة. تكاد الخارطة العالمية تتقسم - حسب حدود رصدنا - بين هذه النطاقات الخمسة. وفي تقديرنا فإن حساسية المتغير الديموغرافي تتطلب سياسات يتم صنعها بحساسية ودقة؛ بحيث توازن في (حالتنا المحلية) بين أربعة عناصر أساسية: حاجيات نمو الاقتصاد وتنويعه وتوسيع هياكله الانتاجية، المحافظة على عناصر الهوية الوطنية بوصفها سمة للتنمية والنمو، تحقيق الاكتفاء الاقتصادي للسكان خاصة فئة السكان في سن العمل، وديمومة البيئة المتكاملة لرعاية الأشخاص ما بعد سن العمل والحفاظ على مستويات أفضل من الصحة العامة لهم. وفي تقديرنا كذلك فإن التعامل مع المتغير الديموغرافي لن يكون محصورًا بمجرد وجود السياسة السكانية بل يكون عبر عملية تنسيق ومواءمة كافة السياسات الاجتماعية والاقتصادية لتكون متفقة على مقصد (سيناريو) ديموغرافي واضح ومحدد، تنطلق منه وتتمحور حوله، فإذا كان مقصد السيناريو تعظيم الاستفادة من السكان في سن العمل باعتبار فرصة النافذة الديموغرافية، سعت قطاعات التعليم والتدريب والتأهيل لتغيير مقارباتها نحو تحقيق هذا المقصد، ووسع الاقتصاد فرصه للعمل والريادة لهذه الفئة، وحسنت مؤسسات الرعاية الشبابية الظروف الكاملة للنمو الأمثل لهذه الفئة بما يخدم تحقيق مقاصد السيناريو الوطني المنشود.
مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية فـي سلطنة عُمان