عربي21:
2025-01-27@17:15:06 GMT

مسألة في النصر والهزيمة.. هل ننتصر حقّاً؟!

تاريخ النشر: 22nd, August 2023 GMT

ذكر ابن إسحاق في سيرته، أنّه "لمّا أقبل أصحاب مؤتة تلقّاهم رسول الله، صلى الله عليه وآله سلم، والمسلمون معه، قال: ولقيهم الصبيان يشتدّون ورسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم، مقبل مع القوم على دابّة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم وأعطوني ابن جعفر. فأتى بعبد الله فأخذه فحمله بين يديه، فجعلوا يحثون عليهم التراب ويقولون: يا فرّار فررتم في سبيل الله.

فقال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: ليسوا بالفرّار ولكنهم الكرّار إن شاء الله عز وجل".

بعد ذلك بقرون طويلة، كان رئيس الوزراء البريطاني أثناء الحرب العالمية الثانية، تشيرشيل، حذراً حين حديثه عن النجاح في إجلاء القوات البريطانية والفرنسية المحاصرة من القوات النازية في دونكيرك، فقال: "يجب أن نكون حريصين جدّاً على عدم إيلاء صفات النصر لهذا الإنقاذ، فالحروب لا تُكسب من عمليات الإجلاء"، لكن مع ذلك، تعامل عامّة البريطانيون مع الجنود العائدين بوصفهم منتصرين، بخلاف ما توقّعه الجنود أنفسهم. ما ينبغي التنويه إليه هنا؛ هو الدور التعبويّ الذي نهضت به الصحافة البريطانية، في تصوير عمليات الإجلاء، التي ساهمت فيها المئات من السفن والقوارب المدنية الصغيرة.

فلنتخيل لو أنّ القوّات النازية قد تمكّنت من إبادة الـ335 ألف جنديّ بريطانيّ وفرنسيّ، الذين أمكن إجلاؤهم من دونكيرك، ما المسار الذي يمكن تصوّره للحرب حينئذ؟! لذلك فإنّ تشيرشيل وهو يبدي حذره من وصف الإجلاء بالنصر عاد للقول: "كان هناك انتصار داخل هذا الخلاص"، ثمّ ختم خطابه بالقول: "إنّ مساحات شاسعة من أوروبا والعديد من الدول القديمة والمعروفة، قد سقطت أو قد تقع في قبضة الجستابو وجميع الأجهزة البغيضة للحكم النازي، لكنّنا لن نفشل، ولن نرفع راية الاستسلام. سنمضي حتى النهاية، سنقاتل في فرنسا، سنقاتل في البحار والمحيطات، سنقاتل بثقة متزايدة وقوّة متنامية في الجوّ، سندافع عن جزيرتنا، مهما كانت التكلفة، سنقاتل على الشواطئ، سنقاتل على أرض الإنزال، سنقاتل في الحقول وفي الشوارع، سنقاتل في التلال؛ لن نستسلم أبداً".

والحقّ أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلم، وهو يُنبَّأ بأحداث مؤتة، ويُنبئ أهل المدينة بما يجري، قد وصف انسحاب المسلمين بالفتح. فعن أنس رضي الله عنه: أن النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، نعى زيداً وجعفراً وابن رواحة للناس قبل أن يأتيهم خبرهم، فقال: "أخذ الراية زيد فأصيب، ثم أخذ جعفر فأصيب، ثم أخذ ابن رواحة فأصيب". وعيناه تذرفان: "حتى أخذ سيف من سيوف الله، حتى فتح الله عليهم".

ليست القضية في المثلين السابقين فقط في التمكّن من النجاة بالجسد الرئيس بالقوات، ولكن الأهمّ في ما يُبنى على ذلك، من رفض الهزيمة ثمّ استئناف القتال، وهو الأوضح حالاً، بالنسبة للنبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعد غزوة أحد، حينما لملم جراح أصحابه ولحق بالمشركين، وخيّم في حمراء الأسد ثلاثة أيام، وقد صار معلوماً من التاريخ أنّ النبيّ، صلّى الله عليه وآله وسلم، قد فتح مكة بعد بضع سنين، وصحابته، بعد وفاته بقليل من السنوات، أنهوا الوجود الروماني تماماً من المشرق العربيّ كلّه، أمّا الهزيمة النازية فهي جزء من تاريخنا الحديث.

إذا كان بعضهم ينتهج هذا النمط من التفكير لرفض ما يطلقه المقاومون أحياناً على معاركهم من وصف الانتصار، فإنّ هذا لا يلغي أنّ ثمّة هزيمة نفسية مطبقة تقرأ تجارب التاريخ الفلسطيني بنحو خاطئ تماماً، في حين أنّ البعض قد صار جزءاً من تشكيلة اليمين العربي، الذي لا يفضّل أصلاً أن ينتصر الفلسطينيون لأنّه بات يرى أن الاستمرار الإسرائيلي هو حتمية لا مناص منها!
بالعودة إلى لحظتنا الراهنة، فإنّ فلسطين لم تُحرّر، ونتحدث أحياناً بأنّنا لا نحقّق إنجازات سياسية ملموسة بعد معاركنا مع عدوّنا، ولا نتمكّن من إلحاق خسائر به تقابل ما يلحقه بنا من خسائر. لكن هل بهذا فقط تُقيّم مقاومة عدوّ في صراع طويل ومرير ومعقّد؟!

بالنسبة لبعضهم فالأمر كذلك، إذ يُقيّمون مقاومة الفلسطينيين من هذه الحيثيات ويتوقّفون عندها، وإذا كان بعضهم ينتهج هذا النمط من التفكير لرفض ما يطلقه المقاومون أحياناً على معاركهم من وصف الانتصار، فإنّ هذا لا يلغي أنّ ثمّة هزيمة نفسية مطبقة تقرأ تجارب التاريخ الفلسطيني بنحو خاطئ تماماً، في حين أنّ البعض قد صار جزءاً من تشكيلة اليمين العربي، الذي لا يفضّل أصلاً أن ينتصر الفلسطينيون لأنّه بات يرى أن الاستمرار الإسرائيلي هو حتمية لا مناص منها!

لا شكّ أنّ هزيمة كبرى وقعت على العرب مرّتين، أفضت إلى إطباق المشروع الصهيوني على فلسطين. بعدها صار الفلسطينيون مجموعات منثورة في العالم ومحيطهم القريب وداخل أرضهم، مع وقائع إقليمية عربية في جوهرها معاندة لضرورة القيامة الفلسطينية، وعالم يصطفّ بالكامل في ظهر "إسرائيل" المتفوّقة بما يلغي قياس قدرة الفلسطينيين إليها أصلاً، وكانت كلّ واحدة من النكبتين كافية للإجهاز النفسي والمعنوي على الفلسطيني!

ماذا يعني أنّ الفلسطيني لم يزل يقاوم منذ الخمسينيات حتى اليوم سوى أنّه لم يُهزم؟ أو بكلمة أخرى، يرفض أن يرفع راية الهزيمة، ويقاتل في كلّ مكان أمكنه القتال فيه، وبكلّ أداة يتوفّر عليها، وإلا فإنّه يصنع المكان ويبدع الأداة للقتال في ظرف مستحيل.

مرّة أخرى بالعودة إلى اللحظة الراهنة، يمكن أن نتحدث عن آلاف العقبات والصعوبات التي تحيط بالمقاومة في قطاع غزّة. لكن هل علينا أن نتخيّل شيئاً آخر بالنسبة لمقاومة هي في جوهرها وطبيعتها لا بدّ وأن تكون الطرف الضعيف في مواجهة العدوّ المتفوّق من كلّ وجه، والذي يقاتل بالعالم كلّه لا بنفسه فقط؟! فماذا يعني بعد ذلك أن يصبح شريط ساحليّ ضيّق مكشوف معضلةً لهذا العدوّ، ولا يملك إزاءه أيّ حلّ جذريّ؟! بل لم يعد من بعد معركة العام 2014 مجترئاً على أيّ مواجهة برّيّة من شأنها أن تغيّر الموازين الماديّة والمعنويّة لصالحه في هذه المنطقة المحاصرة؟!

يمكن أن نتحدث عن آلاف العقبات والصعوبات التي تحيط بالمقاومة في قطاع غزّة. لكن هل علينا أن نتخيّل شيئاً آخر بالنسبة لمقاومة هي في جوهرها وطبيعتها لا بدّ وأن تكون الطرف الضعيف في مواجهة العدوّ المتفوّق من كلّ وجه، والذي يقاتل بالعالم كلّه لا بنفسه فقط؟!
الأمر الأكثر إثارة، هو أن يصبح أقل من نصف كيلومتر مربع، في قلب الهيمنة الإسرائيلية الأمنية والعسكرية والاستيطانية، عبئاً على أيّ رؤية استراتيجية إسرائيلية، أمنية وعسكرية وسياسية. مخيم جنين، يقع في قلب القدرة الإسرائيلية، وهو ما يعني ابتداء أنّ تنظيم حالة مقاومة واسعة فيه إنجاز، فكيف إذا أربك بمجرّد ذلك الحسابات الإسرائيلية، التي انتقلت للبحث في التكتيكات الجزئية للتعامل مع الحالة، والرهان على الزمن، في حين أنّ المقاومة نفسها تأخذ أشكالاً أخرى لا تقلّ إزعاجاً لـ"إسرائيل" في عموم الضفّة الغربية، رغماً عن أوضاع يدرك كلّ من يعاينها قسوتها الطاغية على قدرات الفلسطينيين، ومع ذلك يشقّون المستحيل منها!

الإنجاز في صنع حالة مناوئة للعدوّ الأقوى في بيئة يتحكّم فيها بالكامل، ثمّ القدرة على تجديد هذه الحالة، هو نتيجة رفض الهزيمة، وعدم التسليم بحتميّتها. القضية هنا نفسيّة بالدرجة الأولى، والناجي من الحتمية الإسرائيلية المزعومة هو منتصر بالضرورة، وإذا كان وصف الانتصار يزعج بعضهم، فإنّ الناجي من الحتمية الإسرائيلية المزعومة لم يُهزم، وطالما أنّ النجاة من هذه الحتمية المزعومة الحال المتجدّد على الفلسطينيين، فإنّهم في طور الانتصار لا في طور الهزيمة، أو على الأقل لا يمكن أن نصف عجز العدوّ بالإجهاز علينا بأنّه انتصار له وهزيمة لنا!

كتب أحدهم قبل فترة، منوّهاً بحركة التضامن المتسعة في العالم مع الفلسطينيين، يحصل ذلك بحسبه، في حين انقسام الفلسطينيين، وفي حين توترّ خلقته حركتا حماس والجهاد في مخيم جنين، وفي حين أنّ تضامناً كهذا لن ينتهي إلى نتيجة فلسطينية، ما دام الفلسطينيون يحلمون بطوبى! لعله يقصد أنّ أيّ تضامن يقابل بأمل فلسطيني بتحرير فلسطين سينتهي إلى لا شيء! مجرّد هذا التصوّر مليء بالتناقضات والأخطاء الفادحة والتشوّهات النفسية. لكن فلنختم بكلمة واحدة: لولا صمود الفلسطينيين وتجدّد مقاومتهم لما كان لهذا العالم أصلاً أن يأبه بهم أو أن ينظر إليهم!

twitter.com/sariorabi

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه النصر الهزيمة فلسطين المقاومة فلسطين الاحتلال النصر المقاومة الهزيمة مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات مقالات سياسة سياسة مقالات سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الله علیه وآله وسلم صلى الله علیه

إقرأ أيضاً:

ماذا رأي النبي في رحلة الإسراء والمعراج؟.. مشاهد عجيبة

كشفت دار الإفتاء المصرية، عن ملخص ما وقع من أحداث في ليلة الإسراء والمعراج، وأجابت عن سؤال مهم يستفسر عنه الكثير وهو: ماذا رأي النبي في رحلة الإسراء والمعراج؟

ماذا رأي النبي في رحلة الإسراء والمعراج؟

وقالت دار الإفتاء، إن أحداث الرحلة فتتلخص في أنه صلى الله عليه وآله وسلم سار ليلًا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى راكبًا البراق، وهو دابة يضع قدمه عند منتهى بصره.

وقد كان معه صلى الله عليه وآله وسلم سيدنا جبريل عليه السلام، أو كان معهما ميكائيل عليهم السلام، فأخذ سمت الطريق إلى المدينة، ثم إلى مدين، ثم إلى طور سيناء؛ حيث كلم الله موسى عليه السلام، ثم إلى بيت لحم؛ حيث ولد عيسى عليه السلام، ثم انتهى إلى بيت المقدس.

وجاء في روايات ضعيفة أنه نزل في كل موضع من هذه المواضع وصلى بإرشاد جبريل عليه السلام. وقد أطلعه الله- تعالى- في أثناء ذلك المسير على أعاجيب شتى من الحكم والحقائق التي ينتهي إليها ما يجري في عالم الظاهر من شؤون الخلق وأحوال العباد.

وكان صلى الله عليه وآله وسلم يسأل جبريل عليه السلام عن مغازيها فيجيبه عنها، ولما انتهى به السير إلى بيت المقدس دخله، فجمع الله له حفلًا عظيمًا من عالم القدس من الأنبياء والمرسلين والملائكة، وأقيمت الصلاة فصلى بهم إمامًا، وفي قول أن صلاته بهم كانت بعد رجوعه من السماء.

أحداث الإسراء والمعراج

أما ما يخص المعراج: فيتلخص في أنه صلى الله عليه وآله وسلم قد صعد إلى السماوات السبع واخترقها واحدة فواحدة، حتى بلغ السابعة، وفي كل واحدة يلتقي واحدًا أو اثنين من أعلام الأنبياء، فلقي في الأولي سيدنا آدم عليه السلام، وفي الثانية سيدنا يحىي وعيسى عليهما السلام، وفي الثالثة سيدنا يوسف عليه السلام.

وفي الرابعة سيدنا إدريس عليه السلام، وفي الخامسة سيدنا هارون عليه السلام، وفي السادسة سيدنا موسى عليه السلام، وفي السابعة سيدنا إبراهيم عليه السلام؛، حتى انتهى إلى سدرة المنتهى، ثم إلى ما فوقها إلى مستوى سمع فيه صريف الأقلام تجري في ألواح الملائكة بمقادير الخلائق التي وُكِّلُوا بإنفاذها من شئون الخلائق يَسْتَمْلُونَها من وحي الله تعالى، أو يستنسخونها من اللوح المحفوظ الذي هو نسخة العالم، وبرنامج الوجود الذي قدره الله سبحانه وتعالى.

ثم كلمه الله في فريضة الصلاة، وكانت في أول الأمر خمسين، فأشار عليه موسى عليه السلام بمراجعة ربه وسؤاله التخفيف، فما زال يتردد بينهما ويحط الله عنه منها حتى بلغت خمسًا، فأمضى أمر ربه ورضي وسلم.

مقالات مشابهة

  • بن غفير: ليس هذا ما يبدو عليه النصر المطلق بل الاستسلام التام
  • بن غفير: ليس هذا ما يبدو عليه النصر المطلق بل هو الاستسلام التام
  • هل غدًا صيام؟.. فضل ليلة الإسراء والمعراج
  • حكم صيام السابع والعشرين من رجب .. ليلة الإسراء والمعراج
  • أحمد سعد يتصدر الترند ويشيد بعزيز الشافعي في حوار مع عمرو أديب: نجاحه مسألة شخصية
  • أدلة حدوث رحلة الإسراء والمعراج .. معجزة حيَّرت العقول وطمأنت قلب النبي
  • ما سبب حدوث رحلة الإسراء والمعراج؟ .. اعرف السر الإلهي
  • الإسراء والمعراج .. دار الإفتاء تحسم الجدل حول حدوثها بالروح أم بالجسد
  • دليل يقظة النبي في الإسراء والمعراج .. وارد في القرآن الكريم
  • ماذا رأي النبي في رحلة الإسراء والمعراج؟.. مشاهد عجيبة