شهادات وذكريات.. يرويها مصطفى بكري: لحظات عصيبة في ساحة المحكمة
تاريخ النشر: 15th, February 2025 GMT
كواليس وأسرار 25 يومًا داخل أسوار سجن مزرعة طرة
ملحمة من الحب تجلت فى أبهى صورها داخل قاعة المحكمة
ماذا قال كبار رجال الدولة فى انصالاتهم الهاتفية أثناء الأزمة؟
هذه ليست قصة حياة، بل شهادة حية على مرحلة تاريخية مهمة، عشتُ فصولَها، انتصاراتِها وانكساراتِها، حُلوَها ومُرَّها، اقتربتُ من صنَّاع هذه الأحداث أحيانًا، وكنتُ ضحيةً لعنفوانهم في أحيان أخرى، معاركُ عديدة دخلتُها، بعضُها أودى بي إلى السجون، لم أنكسر، ولم أتراجع عن ثوابتي وقناعاتي.
أروي هذه الشهادات، بصدق وموضوعية، بعضُ شهودها أحياء، والبعضُ رحل إلى الدار الآخرة، لكنَّ التاريخ ووقائعه لا تُنسى، ولا يمكنُ القفزُ عليها، وتزويرُ أحداثِها.
توقعات بالإفراج ووداع المساجينقبيل ساعات من نظر الاستشكال في الحكم الصادر بسجننا.. كانت الأمور داخل السجن تسير باتجاه الإفراج عنا.. كان هذا توقع كل من معنا فى السجن.. لدرجة أن ياسر سعودى المسجون معنا فى عنبر المستشفى أقام يوم الأحد 22 يونيو 2003 مأدبة غداء خصيصًا تكريمًا لنا.. قائلاً بلغة ضاحكة: «أنا عامل الغدا ده علشان منشوفش وشكم تانى هنا.. إحنا بنتمنى لكم الخير وعاوزينكم تخرجوا»، هكذا راح حديثه يشبه أحاديث الوداع، كان الحوار يدور بيننا تحت إحدى الأشجار فى حديقة السجن التى اتخذنا من ظلها مكاناً لتناول الغداء الذى شاركنا فيه الدكتور طارق إبراهيم ومحمود الرشيدى وصلاح عيد وعلاء الشلقانى، كانت الوفود لا تتوقف عن الزيارة وكان أخر فى هذا اليوم هو الأخ أحمد ابراهيم ابن عزبة الوالدة فى حلوان والذى " قال غدا أتوقع الافراج عنكما وكل حلوان ستكون فى ساحة دار القضاء العالى غدا.
وقبيل أن تغلق العنابر أبوابها جاءنا الأخ والصديق خالد حامد محمود زائرًا، ومودعًا.. وجاء المقدم مصطفى عبد العزيز لوداعنا قائلا: «أنا بكره ورديتى بالليل وإذا أخذتم إفراج مش حشوفكم.. وللاحتياط أودعكما الآن.. وأطلب منكما أن تكونا جاهزين فى السابعة من صباح الغد لتتوجها للمحكمة».
وحين أدركنا أن الأمور يمكن أن تسير على هذا النحو.. وفى هذا الاتجاه.. رحت أدون التليفونات الخارجية لأسر كل المسجونين معنا حتى نطمئن عليهم من خلال أسرهم.. وفى المساء رحت ومعى الشاب السجين محمد يوسف مدنى نعد العدة، ونحزم الحقائب استعدادًا لتطورات الغد.
كان التوقع والشعور يتزايد فى هذه الليلة بأن شيئاً ما سيحدث فى المحكمة.. صباح اليوم التالى، وأن مغادرتنا أسوار السجن أصبحت مسألة وقت لا غير.
وبينما خلدت للنوم مبكرًا.. راح محمود يلعب «الدومينو» ويواصل سماع الحكايات من المسجونين معنا.
وعند الصباح الباكر، رحت أوقظ شقيقى محمود، استعدادًا لوصول السيارة التى ستنقلنا إلى دار القضاء العالى، حيث ينظر الاستشكال المقدم أمام الدائرة 19 شمال القاهرة برئاسة المستشار أحمد عزت العشماوى، وعند الساعة التاسعة صباحًا انطلقت بنا السيارة التى تقرر أن تحملنا إلى مقر المحكمة وتبعتها سيارات أخرى، فيما تقدمها أحد الموتوسيكلات.. جلسنا متجاورين فى سيارة الشرطة الزرقاء وإلى جوارنا أحد الجنود ومن خلفنا وأمامنا بعض ضباط وجنود فرقة الحراسة التى تقرر أن تصحبنا إلى المحكمة.. ذهابًا وعودة.
وكانت تلك هى المرة الأولى التى نخرج فيها من أسوار السجن بعد اثنين وعشرين يومًا من الحبس بداخله.. وقبيل أن ينطلق الموكب صوب المحكمة كانت تعليمات العقيد حسين والى قائد فرقة الحراسة للجميع أن التعليمات بشأن معاملتنا يجب أن تصدر منه هو شخصيًا.. كان الرجل ومعه زملاؤه من الضباط يتعاملون معنا معاملة إنسانية رائعة.. وكان سلوكهم معنا سلوكًا حضاريًا محترمًا.
الطريق إلى المحكمة ولقاء الأهل والأصدقاءوسلك الموكب طريق الأوتوستراد، متجهًا إلى شارع صلاح سالم عبر كوبرى القلعة.. ومن هناك إلى كوبرى الفردوس، فنفق الأزهر، فميدان الأوبرا، إلى شارع عدلى ومنه إلى شارع عماد الدين يميناً، ثم شارع 62 يوليو، ثم إلى شارع شامبليون، حيث توقف الموكب أمام الباب الرئيسى لدار القضاء العالى.
كان وجه وليد زكى رفاعى مدير مكتبى هو أول وجه شاهدناه أمامنا فور هبوطنا من السيارة.. وسرعان ما راحت الوجوه تظهر أمامنا.. وحين اتجهنا صوب السلالم الرئيسية لدار القضاء العالى كانت عدة محطات فضائية فى الانتظار، حيث استطاع مندوب قناة «العربية» إجراء لقاء سريع معى أكدت فيه أن الأزمة الراهنة لن تثنينا أبدًا عن التخلى عن ثوابتنا، ومواقفنا المعادية للفساد، والمناوئة للأطماع الأمريكية والصهيونية فى المنطقة.
ما أن خطونا صوب المدخل الرئيسى لدار القضاء العالى حتى فوجئنا بالمئات يتدفقون نحونا فى مشهد فريد.. وراحت الحاجة «أم نظمى شاهين» بطل ثورة مصر تحتضننى وتقبلنى بحرارة.. كان بعضهم يذرف الدموع، وبعضهم يرفع الهتاف «الله أكبر» بينما راح الضباط يحاولون بصعوبة شق الطريق فى أوساط الجماهير المندفعة، والذين لم يتعرض لهم أحد من الأمن بأى سوء.
فى لحظات وصلنا إلى غرفة قائد الحرس بالمحكمة.. وبعد نحو 5 دقائق جاءنا شقيقنا أحمد الذى جلس إلى جوارنا، ثم أعقبه وصول نجلينا أحمد وخالد حيث كان لقاؤنا معهما حارًا ومؤثرًا.. وكنا فى قمة السعادة أن بلغ نجلانا هذه الحالة من النضج فى هذه السن المبكرة من حياتهما، وأدركنا أن لدينا الآن سندًا إضافيًا لمواجهة حروبنا المتواصلة ضد الفساد ورموزه، وانعكاساتها الإنسانية على أسرنا.
بعد فترة وجيزة علمنا أن المستشار أحمد العشماوى وهيئة المحكمة وصلوا إلى غرفة المداولة، ولم تمض دقائق حتى جاء قائد حرس المحكمة ومعاونوه لاصطحابنا إلى داخل قاعة المحكمة.
عبر ممر خلفى دفع بنا الحرس إلى معبر خاص إلى قفص المحكمة.. لقد بدا لنا الأمر طبيعيًا جدًا فى تلك اللحظات، وتزايد لدينا الشعور بالفخر بأننا نسجن، ونودع قفص المحكمة لأننا حاربنا الفساد ورموزه.
كان المشهد داخل قاعة المحكمة بليغاً ومؤثرًا.. فلم نكد نضع أقدامنا فى القفص حتى شاهدنا الجمهور المحتشد، وراح المئات يصفقون ويهللون، فى مشهد لم تألفه المحاكم من قبل، خاصة دار القضاء العالى التى تضم أعلى المحاكم المصرية ومجلس القضاء الأعلى ومكتب النائب العام ورئيس محكمة الاستئناف وغير ذلك من هيئات قضائية رفيعة.
فى العادة لا تستوعب قاعة المحكمة أكثر من مائتين أو ثلاثمائة فرد على أقصى تقدير.. لكن التدفق الجماهيرى وصل بالمحتشدين بداخلها إلى نحو سبعمائة فرد على الأقل، الأمر الذى انعكس على درجة الحرارة التى ارتفعت بشكل ملحوظ داخل القاعة وأثرت على انعقاد هيئة المحكمة فى موعدها المحدد.
كان الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى والفنان حمدى أحمد والفنانة سناء يونس والفنان سامح الصريطى هم الأقرب إلى قفص المحكمة، وكعادته كان الأبنودى متألقاً فى قفشاته، وروحه المرحة التى تبعث على البهجة حتى فى اللحظات الصعبة.. وما أن جُلنا ببصرنا داخل القاعة حتى رحنا نتلقى السلام والتحية من الكثير من الوجوه الشريفة التى احتشدت داخل المحكمة منذ الصباح الباكر.. وكأننا فى مشهد عظيم، جاء كل واحد ليحجز له موطئ قدم بداخل القاعة.. رحنا من جانبنا نرد السلام والتحية.. عشرات الوجوه نعرفها جيدا.. ومئات أخرى نشاهدها للمرة الأولى.. هؤلاء شباب قريتنا الحبيبة «المعني» وأبناء قنا.. العشرات منهم يتقدمهم المرحوم الدكتور عصمت دنقل وكيل وزارة الصحة بقنا والأستاذ المرحوم محمد رشاد الخطيب نقيب المحامين بقنا والبحر الأحمر، قطعوا أكثر من ستمائة كيلومتر ليكونوا بجانبنا
فى تلك اللحظات.. وهؤلاء شرفاء حلوان والتبين و15 مايو أبناء دائرتى الانتخابية، وقد احتشدوا بشكل يبعث على الفخر والاحترام.. وها هم الصحفيون الشرفاء من كل المؤسسات الصحفية.. زملاء أعزاء يتقدمهم أعضاء من مجلس النقابة، بينما تواجد الأستاذ النقيب إبراهيم نافع فى موقع قريب ليتابع تداعيات القضية لحظة بلحظة..
عن بكرة أبيهم جاء صحفيو «الأسبوع» و«صوت حلوان» وها هم أبناء شعب مصر الشرفاء من الإسكندرية لأسوان، ومن وجه بحرى ومدن القناة، وحتى سيناء.. كان المشهد مثيرًا، وكنا سعداء بهذا الجمع من أشرف النساء والرجال.
كانت لحظات، اختلطت فيها الدموع بالمشاعر الفياضة، وامتزج فيها الانفعال بعلو الصوت.. وترافق فيها الدعاء مع الرجاء والأمل بالفرج من الله سبحانه وتعالى.. رجال كبار كانوا يبكون.. فى قاعة المحكمة.. مواطن جاء من محافظة البحيرة راح يخطب فى جمهور الحاضرين معتبرًا أننا ندفع الآن ثمن كلمتنا الحرة ومواقفنا الوطنية، تمامًا كما دفع كل المخلصين من أجل مصر تضحيات جسامًا حبًا وعشقاً فى سبيل نهضتها.. شيخ طاعن فى السن راح يهتف كل لحظة «الله أكبر.. الله أكبر».. الفنانة الوطنية سناء يونس اشتبكت مع أحد الصعايدة حيث قال لها: «شكرًا لحضورك» فردت عليه بخفتها المعتادة: «انتوا فاكرين نفسكوا بتحبوا مصطفى ومحمود أكتر مننا».. مواطنون عاديون يلقون بعشرات علب المناديل والعصائر والمياه المثلجة داخل القفص، الكل كانوا هناك.. يتوجهون بالدعاء.. وينتظرون على أحر من الجمر أن يتحقق ما جاءوا من أجله منذ الصباح الباكر.
وبينما كنا نتصفح الوجوه التى امتلأت بها قاعة المحكمة.. ظهر أمامنا فجأة وجه الأخ والصديق مصطفى النوبى المحامى.. لقد بدا وجهه شاحبًا.. وجسمه هزيلاً.. أدهشنا حضوره.. ورحت استغيث بابن شقيقته سيد فراج الذى جاء خصيصًا من الأقصر، طالباً منه أن يعيد مصطفى النوبى من حيث أتى.. فنحن نعرف أنه خرج من المستشفى منذ أيام فقط بعد أن تم استئصال الكلية التى تم زرعها له منذ عدة سنوات، وأصبح الآن بلا كلية، وأدرك أن حالته الصحية متدهورة بشكل متواصل.. ولكن حين تلاقت يدانا عبر القفص الحديدى، تساقطت دموعه الضعيفة، وراح يبكى كالأطفال.. صرخت فيه: لماذا جئت يا مصطفى؟.. اذهب أرجوك وعد لبيتك.. رد عليّ بقول أثر فى نفسى كثيرًا: «أنا كنت حاموت، لو مكنتش جيت علشان أشوفكم النهاردة».
ومن قلب وجوه المحبين والمخلصين الذين احتشدوا جاءتنا وجوه لا نعرفها، راح بعضهم يقف أمامنا بعد أن شقوا طريقهم بصعوبة وسط الزحام.. ويطلبون منا أن نردد خلفهم بعض الأدعية والأحاديث النبوية وبعضاً من آيات القرآن الكريم.. كانت بانوراما مثيرة تجلت فيها الصورة المصرية كأنبل ما تكون.. بانوراما شاعرية رسمها نحو خمسة آلاف مواطن احتشدوا فى قاعة وردهات المحكمة.. وكانوا مجرد تعبير عن مشاعر شعبنا المصرى العظيم الذى كانت وقفته فى المحنة مشهودة وتاريخية ومؤثرة لأبعد الحدود.
بعد أكثر من الساعتين ونصف الساعة، نادى الحاجب عند نحو الثانية عشرة ظهرًا.. «محكمة» معلناً دخول هيئة المحكمة برئاسة المستشار أحمد عزت العشماوى.. وفور دخوله أعلن رئيس المحكمة أنه، وبالاستناد إلى القانون، تقرر نظر القضية فى غرفة المشورة، على أن يكون الحضور مقصورًا على المحكومين ومحاميهم المختارين والموكلين منهم رسميًا.. ثم رفع الجلسة عائدًا إلى غرفة المداولة..
كان قرار رئيس المحكمة يعنى أن القاعة لا تصلح فى ظل هذ الوضع المزدحم لنظر القضية.. لذا رحنا نسعى مع الحاضرين والمحامين والصحفيين لإفراغ القاعة حتى يتسنى للمحكمة الانعقاد بداخلها.. وبعد نحو ثلاثة أرباع الساعة نجحت المحاولة، وعادت هيئة المحكمة لنظر القضية داخل القاعة بعد أن عدلت عن قرارها السابق.
بدأ المستشار أحمد عزت العشماوى فى تدوين أسماء المحامين الحاضرين الذين تجاوز عددهم الأربعين محاميًا يتقدمهم الأستاذ سامح عاشور نقيب المحامين والدكتور محمد سليم العوّا.. وقد تحدث عدد محدود منهم أمام هيئة المحكمة، حيث بدأ الأستاذ سامح عاشور المرافعة، تلاه الدكتور محمد سليم العوّا، ثم الأستاذ صبرى بسيونى، فالأستاذ عادل عيد، فالأستاذ محمد الدماطى.. ثم الأستاذ أحمد عبد الحفيظ المحامى ثم المستشار مرتضى منصور وغيرهم.. بعد سبعين دقيقة من المرافعة أعلن رئيس المحكمة رفع الجلسة، وبعد عشر دقائق فقط، عاد المستشار أحمد عزت العشماوى إلى داخل القاعة، وراح يتلو قرار المحكمة حيث قال: «قررت المحكمة قبول الاستشكال المقدم من المحكومين شكلاً.. وفى الموضوع بوقف تنفيذ الحكم لحين الفصل فى الالتماس المقدم للنائب العام».
فرحة عارمة بعد قرار المحكمةعند هذه اللحظات.. وقبل أن يكمل المستشار رئيس المحكمة قراره، انفجرت القاعة بالهتاف، واقتحم المئات من خارجها الباب، ودخلوا إلى القاعة يهتفون ويهللون ويبكون، ولم يعد أحد يستطيع السيطرة على تلك الجموع المنفعلة.. جاء الجميع يهنئوننا، وانطلقت الزغاريد وراحت الهتافات التى تشيد بالعدالة ترتفع فى الخارج حتى زلزلت جدران دار القضاء العالى.. أما الشاعر الكبير عبد الرحمن الأبنودى فقد انخرط فى موجة بكاء شديد.. الفنان سامح الصريطى راح يحتضن شقيقنا أحمد.. مئات الشباب يهتفون «بالروح بالدم نفديك يا بكري».. حالة من الانفعال العارم عمت داخل وخارج المحكمة.. انطلق المارد الشعبى ليعبر عن مكنون تلك القلوب الشريفة التى جاءت زاحفة لتناصر من لا يملكان سوى أقلامهما يذودان بها عن وطنهما، ويحاربان بها رموز الفساد.. كانت وجوه أولادنا أحمد وخالد تنطق سعادة حين اقتربا من القفص.. وكان أهلنا، وأحباؤنا، واخوتنا، وأصدقاؤنا، وأساتذتنا.. أكثر سعادة.. ملحمة من الحب تجلت فى أبهى صورها فى تلك اللحظات.. التى لم تشهد دار القضاء العالى لها مثيلاً منذ إنشائها.. لقد انطلق خمسة آلاف مواطن من أبناء شعب مصر يهللون ويرقصون داخل وخارج المحكمة وكأن كلا منهم حصل على البراءة لنفسه.
كان المستشار رئيس المحكمة قد رفع الجلسة، ولم يستطع استكمال إعلان قرار المحكمة بفعل التدفقات الجماهيرية، وامتلاء القاعة بالجماهير.. وبعد نحو ربع الساعة، وبعد أن تمكنا بالعافية من إقناع الجماهير بالخروج وإخلاء القاعة حتى يتسنى لرئيس المحكمة العودة واستكمال منطوق القرار.. عادت هيئة المحكمة ليعلن رئيسها فى قرار مكتوب أنه «كان بإمكان هيئة المحكمة بذات تشكيلها أن تعيد إلقاء القبض على المحكومين، وأن تحكم عليهما بذات العقوبة، وأن توجه إليهما تهمة إهانة المحكمة بعد أن دنس الحاضرون من الجماهير قاعة المحكمة، ولكن المحكمة لن تفعل ذلك تقديرًا منها للظروف التى صدر فيها الحكم» ثم راح يستكمل تلاوة القرار الذى اشتمل على فقرة إضافية تقول: بإدراج اسمينا على قوائم الممنوعين من السفر لحين الفصل فى الالتماس المقدم.
وما أن أعلن رئيس هيئة المحكمة رفع الجلسة، حتى راحت الجماهير تواصل هتافها لعدالة القضاء، وتعبر عن فرحتها، وانتظرنا نحن لأكثر من ربع الساعة حتى جاء الحرس لإخراجنا.. وما أن خطونا أنا ومحمود خطوات محدودة حتى فوجئنا بمندوبى المحطات التليفزيونية والإذاعية والصحف المصرية والعربية والدولية يغرقوننا فى بحر من أضواء فلاشات الكاميرات.. بينما اندفع المئات من المواطنين من خلفنا محاولين اللحاق بنا وهم يهتفون «بالروح.. بالدم نفديك يا بكري».. إلا أن رجال الحرس الذين أصابهم القلق من الحشود المندفعة أسرعوا بنا عبر باب جانبى لا يعرفه أحد، وأغلقوه من الخلف فى وجه الجماهير الزاحفة.
لحظات.. وهبطنا إلى خلف دار القضاء العالى.. دفعوا بنا إلى السيارة التى جاءت بنا صباحًا.. وحين خرجت إلى شارع شامبليون.. كان الشارع قد أُغلق تمامًا أمام السيارات الأخرى..
اندفع رتل السيارات عائدًا بنا مرة أخرى إلى سجن مزرعة طرة ولكن عبر الكورنيش هذه المرة.. مرورًا بكوبرى طرة، إلى الأوتوستراد ومن هناك وصلنا باب السجن فى نحو الساعة الثالثة والنصف..
وكان الدخول إلى السجن هذه المرة مختلفاً.. تأملنا المنظر الخارجى قبل أن نجتاز البوابة الرئيسية إلى مبنى إدارة السجن.. وما أن وطئت أقدامنا بداخله حتى فوجئنا باستقبال حار وبهجة بالإفراج عنا تطغى على مشاعر الضباط الذين قابلونا بفرحة حقيقية.. وكانت مشاعر إنسانية أصيلة.. فيما عبر النزلاء بالسجن عن تهانيهم الحارة، وراحوا يباركون ما حدث.
وكان الوقت يمضى بسرعة.. وكنا نتوقع أن تنتهى إجراءات الإفراج عنا سريعًا، بعد أن اصطحب أحد الضباط شقيقنا أحمد لإنجازها من نيابة غرب القاهرة.. بسرعة.. فآثرنا الاستعداد للرحيل قبيل أن تغلق عنابر السجن أبوابها فى الساعة الخامسة والنصف حسب ما هو معتاد.
صدمة غير متوقعةوحين اتجهنا إلى الداخل.. كانت وجهتنا أولاً إلى عنبر رقم 4 - زنزانة رقم 6 - حيث يتواجد الأخ خالد حامد محمود الذى ما أن بلغه خبر قبول الاستشكال حتى أغرورقت عيناه بالدموع فرحًا وابتهاجًا.. وقد آثر ألا يتركنا حتى ننهى إجراءاتنا ونخرج من السجن.. فجاء بصحبتنا إلى عنبر المستشفى.. حيث حملنا حاجياتنا، وودعنا كل زملاء السجن الذين هنأونا بالقرار ثم عدنا إلى مبنى الإدارة بصحبة العقيد محسن رمضان، وهناك خلعنا للمرة الأولى ملابس السجن الزرقاء، وارتدى كل منا البذلة التى جاء بها يوم إلقاء القبض علينا.. بدأنا فى تلك اللحظات نشعر باقتراب موعد الحرية.. انتظرنا كثيرًا فى غرفة المأمور، وكنا لا نزال نتوقع إنهاء إجراءات الإفراج الليلة.. ولكن جاءت الرياح بما لا تشتهى السفن.. فقد جاءنا الضابط المختص بصحبة شقيقنا أحمد معلناً أن إجراءات الإفراج لم تنته، وأن الأمر سينتظر إلى الغد.
وبكل هدوء.. رحنا نخلع البذل التى ارتديناها، ونرتدى ملابس السجن مجددًا.. ونعود إلى عنبر المستشفى الذى كان قد أغلق أبوابه فى تلك اللحظات.. وحين دخلنا فوجئ زملاء السجن بوجودنا بينهم مرة أخرى وفى تلك اللحظات لم نكن قد تناولنا طعامًا منذ صباح يوم المحكمة، والذى كان مرهقاً للغاية.. وكنا قبيل خروجنا قد وزعنا كل ما كان معنا من مخزون الطعام.. وهنا.. وما أن علم الأخ ياسر سعودى بعودتنا حتى راح يسارع بإعداد وجبة طعام خصيصًا لنا.
وبينما كان الليل يرخى سدوله على منطقة سجن مزرعة طرة.. كنا نتعايش مرة أخرى مع أوضاع السجن، وراحت ليلة أخرى تمر علينا بالداخل بعد أن فشلت عملية إنهاء الإجراءات فى اليوم التالى 24 يونيو.. وبقينا بهدوء شديد نواصل حياتنا فى الداخل دون أى قلق.
كواليس اللحظات الأخيرة خلف القضبانوحين جاء قرار الإفراج ظهر اليوم الثالث الأربعاء 25 من يونيو رحنا مجددًا نودع الإخوة النزلاء بالسجن.. قطعنا المسافة المتبقية من عنبر 4 إلى مبنى إدارة السجن فى دقائق.. وما هى سوى لحظات، حتى رحنا نودع السادة الضباط والمسجونين الذين آثروا أن يصحبونا حتى مبنى الإدارة.. نظرنا إلى السجن من الداخل ونحن نجتاز بوابته إلى الخارج بصحبة أشقائنا الذين جاءونا، بينما كان اللواء إيهاب فرج أحد كبار الضباط فى منطقة السجون يتعجل خروجنا بسبب الازدحام الشديد عند بوابة السجن الخارجية، حيث احتشد المئات فى انتظارنا.
حين وصلنا إلى مدخل منطقة سجون طرة.. كانت حشود غفيرة تنتظرنا هناك.. رحنا نلتقى معهم، ونتبادل الأحضان سويًا.. وراحوا يرفعوننا على الأكتاف.. ومن وسط المشاعر المتدفقة.. ومن بين الهتافات المدوية.. راح الصديق والأخ العزيز الحاج عبد الحميد حامد - أحد أهم الشخصيات العزيزة على قلوبنا فى منطقة حلوان - يلقى بنفسه فى أحضاننا وهو يذرف الدموع.. وحصل منا على وعد بأن نكون فى ضيافته فى الجمعة التالية.. ولكن إرادة الله كانت أسبق ليفارقنا بعد أيام قليلة.. ليلقى وجه ربه الكريم فجأة.. فكان حزننا عليه شديدًا.. وحمدنا الله أن يسر لنا الخروج من السجن حتى نكون فى وداعه إلى مثواه الأخير.
وحين خرجنا من السجن.. وبمجرد الخروج كان د.زكريا عزمى رئيس ديوان رئيس الجمهورية يتصل بى مهنئا وقبله كان قد حدثنى صفوت الشريف وزير الإعلام تليفونيًا وأنا داخل السجن، وكان اللواء حبيب العادلى قد اتصل بى وأنا داخل السجن أيضا، وعندما قال لى أننى سأحيل الضباط الذين جاءوا منزلك فجرًا إلى التحقيق، طلبت منه ألا يفعلها، وقلت له: يبدو أنهم يعرفون أننى أصحو مبكرًا، ولذلك جاءوا للقبض علىّ فى الوقت المناسب.
بعد أن مضينا بعيدًا عن السجن قليلًا آثرنا التوجه إلى مقر صحيفة «الأسبوع» مباشرة.. حيث أقام لنا الزملاء احتفالاً سريعًا.. وكان أبنائي أحمد ومصطفى وسيف في انتظاري هناك، كنا متلهفين لإنهائه بسرعة حتى نعود إلى والدتنا وأسرتينا الذين كانوا في انتظارنا على أحر من الجمر بعد غربة استمرت نحو 25 يومًا داخل أسوار سجن مزرعة طرة.. ولكنها كانت بمقاييس ما جرى رحلة من الصدق والحب والإخلاص.. أكدت لنا مجددًا أن شعبنا العظيم بخير.. وأن أمتنا بخير.. وأن الخير لا يزال كامناً فى النفوس العامرة بالإيمان بالله.. وبالوطن.
جاء ذلك، في الحلقات التي ينشرها «الجمهور» يوم الجمعة من كل أسبوع، ويروي خلالها الكاتب والبرلماني مصطفى بكري، شهادته عن أزمات وأحداث كان شاهدًا عليها خلال فترات حكم السادات ومبارك والمشير طنطاوي ومرسي والسيسي.
اقرأ أيضاً«مصطفى بكري»: الفريق عبد المجيد صقر طالب القوات المسلحة بأعلى درجات الاستعداد
«مصطفى بكري» لـ وزير إسرائيلي: انت عبيط يا ابني.. حبة من تراب سيناء فيها رقابكم كلكم
يابني احنا تاني يوم نبقى في تل أبيب.. مصطفى بكري يرد على خبراء إسرائيليين
المصدر: الأسبوع
كلمات دلالية: وزارة الصحة النائب العام مصطفى بكري درجة الحرارة الشباب محاكم دار القضاء العالى قاعة المحکمة رئیس المحکمة هیئة المحکمة داخل القاعة رفع الجلسة مصطفى بکری إلى شارع أکثر من وما أن بعد أن ا داخل صباح ا
إقرأ أيضاً:
مصطفى بكري: من يظن قدرته على ليّ ذراع مصر واهم
أكد الإعلامي مصطفى بكري، أننا "واجهنا مثل هذه التحديات من قبل، حاولوا مع الزعيم الراحل جمال عبد الناصر وفشلوا، وحاولوا مرات ومرات، لكنهم لن ينجحوا أمام قائد وطني جسور وضع روحه على كفه، تحدى العالم وبنى الدولة، وقضى على الإرهاب، وحمى الأمن القومي المصري.
وقال مصطفى بكري، خلال تقديمه برنامج “حقائق وأسرار”، عبر فضائية “صدى البلد”، أن من يظن أنه قادر على ليّ ذراع مصر فهو واهم"، مؤكدا أن “يا سيادة الرئيس، سواء سافرت إلى أمريكا أو لم تفعل، فنحن لدينا ثقة كاملة في موقفك وشجاعتك، فهناك 110 ملايين مصري يقفون خلفك، واثقون أنك لن تخذلنا ولن تتراجع عن مواقفك”.
وتابع مقدم برنامج “حقائق وأسرار”، أن "هذه قضية وطنية لا تقبل أنصاف الحلول، وقد أكدتَ ذلك مرارًا وتكرارًا".