اللامفكر فيه في موقف النخبة الحداثية من الإسلام السياسي
تاريخ النشر: 14th, February 2025 GMT
لرفع اللَّبس، قد يكون علينا منذ البدء أن نوضّح المقصود بالنخبة "الحداثية" في تونس. فالنخبة المقصودة هي كل أولئك الذين يمكن تسميتهم في زمن "التواصل الاجتماعي" بـ"المؤثّرين" أو "صنّاع الرأي"، بصرف النظر عن رساميلهم المعرفية أو القيمية أو "النضالية" أو غيرها (أكاديميين، إعلاميين، فنانين، ممثلين، سياسيين.
ونحن نتحدث في العنوان عن "موقف" بصيغة الإفراد لأن المواقف الجزئية -رغم بعض اختلافاتها- تعبّر عن بنية فكرية عميقة مشتركة. فصفة "الحداثة" عند المعنيين بالمقال -وهم أغلب "الحداثيين" المتصدرين للمشهد العام- هي تعرّف ذاتي/ دعوى تعكس عندهم انتماء جماعيا "متخيلا" يختزل الحداثة في التقابل مع "الإسلاميين" وفي النزعة الصدامية ضد المقدس الديني، وكذلك في الدفاع عن الأساطير المؤسسة لما يسمى بـ"النمط المجتمعي التونسي" بخطابه البورقيبي الكبير. وسيكون من الصعب تعريف هؤلاء على أساس أنهم مثقفون عضويون "يتميزون بوظيفتهم في توجيه أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها". فبالإضافة إلى الإشكالات النظرية التي يثيرها مفهوم الطبقة في "الكيانات الوظيفية" التي تسمى مجازا دولا وطنية، فإن تعبير الكثير من النخب الحداثية عن "أفكار وتطلعات الطبقة التي ينتمون إليها" أمر بعيد عن الواقع، بحكم أدوارهم الوظيفية في خدمة "طبقات" لا ينتمون إليها.
ولو شئنا استعمال منطق سارتر لقلنا إنّ النخبة "الحداثية" هي تلك النخبة الزائفة التي لا تقول "لا" لكل سياسات منظومة الاستعمار الداخلي، بل تقول "لا ولكن"، بينما تقول "لا" جذرية لكل نفَس إسلامي مهما كان مقدار تطبيعه مع الأطر المنظمة للعيش المشترك. إنها تلك النخبة التي تجد تعبيرها الأوضح في "مثقفٍ مزيّفٍ" هو المقابل الفكري والموضوعي للمثقف "الحقيقي"، ذلك المثقف الذي "يُدرك ويعي التعارض القائم فيه وفي المجتمع بين البحث عن الحقيقة العلمية وبين الأيديولوجية السائدة". إنها ببساطة تلك النخبة الوظيفية التي وضعت نفسها في خدمة آلة القمع الأيديولوجي، أي في خدمة الأيديولوجيا السائدة قبل الثورة، أو كانت جزءا من المعارضة الديكورية والهوامش المدجّنة ومازلت تخدم منظومة الاستعمار الداخلي إلى يومنا هذا. ولا يعنينا من هذه النخبة في هذا المقال إلا موقفها مما يُسمى بـ"الإسلام السياسي"، خاصة بعد الثورة التونسية و"الربيع العربي".
بحكم علاقتها بالدولة في إطار علاقة التعامد/التخادم وما يوفره من امتيازات ومكاسب، وبحكم سيطرتها على الجهاز الأيديولوجي للدولة -من جهة مؤسسات إنتاج المعنى "المقبول سلطويا"، ومن جهة أدوات توزيع ذلك المعنى عبر التعليم والثقافة والإعلام- تمتّعت "النخبة الحداثية"/ النخبة الزائفة/ النخبة الوظيفية بأفضلية واقعية على خصومها -وهم بالضرورة خصوم الدولة العميقة أو المنظومة الداخلي- منذ تأسيس "الدولة-الأمّة" وما تلاها. وهو ما جعلها تنجح بصورة معتبرة في "تدجين" النخب البديلة، بدءا من اليساريين والقوميين وانتهاء بالكثير من الإسلاميين.
ولسنا نعني بالتدجين هنا تغيير الهويات الأيديولوجية بشكل جذري -فهذا أمر نادر- بل نعني أحد أمرين: إما "تمييع" القضايا الصلبة والمركزية في السرديات الكبرى وجعل التناقض بينها وبين الخيارات المؤسسة للدولة-الأمة "تناقضا ثانويا" يمكن إدارته بالعمل السياسي والجمعياتي داخل ديمقراطية تمثيلية "زائفة" (ولكنها "حداثية" وتقبل نظريا بالإصلاح من داخلها، أو هكذا يخيل للنخبة "الحداثية" بمختلف مكوناتها وكذلك للجناح "التوافقي" الذي هيمن على حركة النهضة منذ المرحلة التأسيسية)؛ وإما "فرض" إشكالاتها ونظام تسميتها على الأطراف المشاركة في السجال العمومي وعلى الرأي العام برمته، وهو ما تدخل قضية الموقف من "الإسلام السياسي" فيه.
إذا كان "بلوغ الأنوار" عند فيلسوف التنوير الأبرز إيمانويل كانط يعني "خروج الإنسان من القصور الذي هو مسؤول عنه والذي يعني عجزه عن استعمال عقله دون إرشاد الغير"، فإن "النخبة الحداثية" (وهي في الأغلب الأعم من دعاة التنوير بوصفه مقابلا للظلامية والرجعية، أي مقابلا للسرديات الإسلامية في التراث والواقع) قد قادت بعد الثورة -بوعي أو بلا وعي- حركة عكسية مزدوجة ضد التنوير الذي تدعي تمثيله. فمن جهة أولى، مثلت "النخبة الحداثية" مظهرا من مظاهر العطالة الفكرية ومن القبول بـ"وصاية الغير" (أي الغرب وما أنتجه من مفاهيم تحليلية للشرق باعتباره موضوعا للهيمنة) عبر تبنيها لمفهوم "الإسلام السياسي" دون أي مسافة نقدية، ومن جهة ثانية، نصبت نفسها "وصيّة" على عموم التونسيين -سياسيا وفكريا، بل دينيا- وساهمت في تكريس السطحية والاختزالية وغياب الوعي النقدي وقبول الاختلاف لدى أنصارها قبل غيرهم.
على ألسنة "النخبة الحداثية" أصبح تعبير "الإسلام السياسي" ضربا من البداهة أو من المسلمات التي لا يجوز مناقشتها أو التفكير فيها بعيدا عن التوظيفات السياسية. ونحن هنا لا نلوم "النخبة" الإعلامية أو الفنية أو النقابية -بحكم قلة زادها المعرفي وعدم رسوخها في القضايا النظرية- ولكننا نستطيع لوم "النخب الأكاديمية" أو "المثقفين" على مواقفهم المتراوحة بين التطبيع مع التزييف أو حتى تزكيته وشرعنته بما لهم من سلطة معرفية. وقد يكون من المفيد أن نقسم مواقف "المثقفين الحداثيين" من "الإسلام السياسي" إلى مستويين يتداخلان واقعيا: مستوى معرفي (نظري) ومستوى سياسي (عملي). في المستوى النظري المجرد، لم يكن الأغلب الأعم من "المثقفين الحداثيين" -بمن فيهم غير المتحزبين- معنيين بتفكيك تعبير "الإسلام السياسي" وما يثيره من قضايا.
لو أردنا التمثيل للقضايا المقموعة أو المنسية في خطابات "المثقفين الحداثيين" فإننا نستطيع أن نُمثّل لها بالإشكاليات التالية التي هي قضايا نظرية ذات امتدادات سياسية بالضرورة: هل يوجد إسلام غير سياسي، بما في ذلك التكييف السلطوي اللائكي للإسلام؟ ما معنى "تونسة الإسلام السياسي" في ظل سرديات حداثية هي جزء وظيفي من الدولة العميقة، أو هي في جوهرها ابنة تلك الدولة وجهازها الأيديولوجي؟ كيف يمكن التعامل مع الإسلاميين الذين ارتضوا العمل القانوني وقبلوا بالدستور باعتبارهم شركاء/ نظراء وليس باعتباره تهديدا أو خطرا وجوديا؟
هل "النمط المجتمعي التونسي" (وهو النسخة المشوهة من مبادئ الثورة الفرنسية وقيم جمهوريتها اللائكية) هو نمط مقدس ونهائي ولا يقبل المساءلة والتعديل؟ كيف يمكن التعامل مع ظاهرة عودة الدين إلى المجال العام بمنطق عقلاني بعيدا عن منطقي الاستئصال الصلب والاستئصال الناعم، وبالاستفادة من مفكرين كبار أمثال جون رولز وخوسيه كازانوفا ويورغن هبرماس وغيرهم؟ هل إن نموذج العلمنة اللائكي هو النموذج الأصلح لتونس أم يجب الانفتاح على نماذج أخرى، خاصة النموذج الأنغلوساكسوني؟ لماذا عجز "المثقف الحداثي" عن إنتاج مفاهيم ترافق "الثورة" ولماذا تحول إلى أداة في يد الرجعية "البرجوازية" رغم كل ادعائاته التقدمية؟ هل إن الخطر الحقيقي هو بنية الاستبداد الديني أم بنية الاستبداد الحداثوي، أو بصياغة أخرى: هل إن التناقض الرئيس هو مع منظومة الاستعمار الداخلي باعتبارها نواة الاستبداد الحداثوي، أم هو مع "الإسلاميين" باعتبارهم ضحايا تلك المنظومة أو شريكا ممكنا لنسفها صوب منظومة سلطوية "وطنية"؟
إنها أسئلة لا يبدو أن كل التحولات المحلية والإقليمية قد استطاعت أن تدفع بها إلى مركز اهتمام "النخبة الحداثية". وهو أمر يمكن ردّه -عند النخب غير الأكاديمية- إلى الجهل أو القصور المعرفي والمصالح الشخصية من جهة أولى، والانحيازات الأيديولوجية والمصالح السياسية للمتحكمين في "خطوط التحرير" من جهة ثانية. ولكن عدم التفكير النقدي -واتخاذ مسافة من أيديولوجيا منظومة الاستعمار الداخلي- هو خيار واعٍ عند "المثقفين الحداثيين"، ولكنه لا يقبل الاختزال في المصالح المادية دون الاعتبارات "الرمزية". ونحن نرجّح أن يكون هذا الخيار نتيجة مخاوف حقيقية ومشروعة أحيانا (تتعلق بالخوف من فقدان المكانة الاجتماعية المرتبطة بـ"المعرفة")، ولكنه في الأغلب نتيجة مخاوف "متخيلة" سببها شبكات الفهم/ التفسير المفوّتة، وكذلك الرغبة في حماية "نسق الذات"، وهو نسق يتم تمثّله والتعبير عنه بتثبيت نقيضه الفكري والموضوعي -أي الإسلامي- في صورة نمطية تدعم هوية "الحداثي" ولكنها تمنعه واقعيا من رؤية الأمور بموضوعية وتجرد.
ولا شك عندنا في أن هذا الوضع يوجب على "الحداثي" أن يطرح على نفسه "إصلاح" عقله قبل المناداة بإصلاح العقل الديني، بل يوجب عليه أن يتواضع للمعرفة ولشركائه في الوطن والتخلي عن تقديم نفسه باعتباره مرجع المعنى الجماعي الصحيح والأوحد في "بلاد النمط المجتمعي التونسي".
x.com/adel_arabi21
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الحداثية تونس المجتمعي تونس مجتمع اسلامي ايديولوجي حداثي مقالات مقالات مقالات اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة رياضة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الإسلام السیاسی من جهة
إقرأ أيضاً:
كيف تحقق طموحك دون الوقوع فيما نهى عنه الاسلام؟.. علي جمعة يوضح
قال الدكتور علي جمعة مفتي الجمهورية السابق وعضو هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف، إن النفس البشرية جبلت على التطلع للمستقبل, والطموح إلى المراتب الأعلى دائما, وهو ما حدا بالبعض إلى الجموح لتحقيق أهدافه وأحلامه, مستندا إلى مبدأ: "الغاية تبرر الوسيلة" دون نظر إلى ما تمثله تلك الوسيلة من خير أو شر, وهو أمر شديد الخطورة, يؤثر بالسلب على الفرد والمجتمع.
ونوه ان الطموح هو السعي باتجاه الوصول إلى أعلى الأهداف, وحتى يصل الإنسان إلى ما تطمح إليه نفسه في ظل الالتزام بالمبادئ التي قررها الإسلام ؛يجب أن يكون لديه الدافع المحاط بالأخلاق التي حددها القرآن الكريم والسنة النبوية، وإلا أصبح الطموح جموحا يوشك أن يودي بصاحبه ويدمره
الطموح الصحيح
وأشار الى ان رسول الله ﷺ أوضح لنا الطموح الصحيح في أسمى صوره، وزرع فينا حب التميز والتفوق والحصول على أسمى المراتب في كل مكان نعمل فيه.
ولفت إلى أن التواضع والزهد في الدنيا لا يعنيان أبدا أن يقبل المسلم الحد الأدنى ، أو ينزوي وراء الآخرين ويكون في ذيلهم، ولذلك حثنا رسول الله ﷺ على العمل لبلوغ الغاية والهدف الأسمى لكل مسلم فقال: «إذا سألتم الله فسلوه الفردوس الأعلى, فإنه سر الجنة» [الكبير للطبراني], كذلك علمنا أن نعظم من رغباتنا عند الدعاء, فقال ﷺ : «إذا دعا أحدكم فلا يقل اللهم اغفر لي إن شئت, ولكن ليعزم المسألة وليعظم الرغبة, فإن الله لا يتعاظمه شيء أعطاه» [مسلم]
واضاف:الإسلام -كما دعا إلى الطموح لنيل المنزلة العليا في ظل مبادئه السامية- جاء أيضا ليهذب النفس البشرية عن جموحها ويقوم سلوكها ويهديها سبيل الرشاد, فالنفس مائلة بطبعها إلى التوجه إلى السيئ, كما أكد القرآن الكريم في قوله تعالى: (إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي), وهي غالبا ما تتبع الهوى بغية إشباع رغباته, ومن هنا جاء الإسلام ليعلمنا كيف نكبح جماح تلك النفس حتى تستكين وتعود إلى جادة الصراط المستقيم, وسبيل ذلك تربية النفس على طاعة الله ورسوله في كل شيء.
وبين ان الاسلام وازن بين الواجبات التي فرضها على المسلم وبين ما تطمح إليه نفسه البشرية, فعمل على ألا تكون فروض الدين شاغله أمره كله وداعية لترك دنياه, بل أمره بالجد والسعي في طلب الرزق وإعمار الأرض, قال تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ) .
فالاستغراق في المأمول بلا حدود هو الطموح الزائد الذي ينقلب إلى جموح، وهو أمر مرفوض في الإسلام, قال الله عز وجل: (وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا), أما إذا أعاد الإنسان ضبط هذا المأمول في إطار المشروع, وفي إطار ما أحله الله وأباحه ودون الخروج عن الهدي النبوي الكريم, وبما لا يخالف النظام العام, فسوف يصل إلى هدفه ويحقق طموحه الذي يأمله ،ويكون بهذا قد حقق التوازن والاتساق بين ما تطمح إليه نفسه وبين ما يأمره به ربه.