عربي21:
2025-02-15@18:06:32 GMT

جنسيَّة الأفغاني ومذهبه

تاريخ النشر: 14th, February 2025 GMT

رغم أن الدولة العثمانيَّة قد رفضت تسليم السيد جمال الدين الأفغاني إلى إيران، عشية مقتل الشاه ناصر الدين آل قاجار على يد ميرزا رضا كرماني، تلميذ السيد، بل وأخطرت السفير الإيراني رسميّا باستحالة تسليمه؛ لأن "الباب العالي لم يكن مُقتنعا بأن السيد رعيَّة إيرانيَّة"، أضف إلى ذلك أن السيد كان ضيفا في الآستانة؛ مما يجعل تسليمه إلى حكومة تنوي قتله بلا محاكمة -أسوة بمن سُلِّم قبله من "المتَّهمين" بقتل الشاه- عملا وحشيّا تنأى بنفسها عنه، بل وأُطلعَ السفير الإيراني آنذاك على "وثيقة رسميَّة" حصل عليها الباب العالي، مرسلة من السفارة الإيرانية في سان بطرسبرغ إلى الخارجيَّة الروسيَّة؛ تُفيد بأن السيد ليس رعيَّة إيرانيَّة(1)، بيد أن هذا كله لم يحسم الخلاف حول أصل السيد داخل روسيا نفسها، بحسب الأكاديمي الروسي-التتري ضمير شهابي(2)؛ إذ استمر هذا الجدل إلى اليوم بتأثير تدافُع التيارات الفكريَّة التجديديَّة هناك، والتي تأثَّرت بالسيد تأثرا هائلا، جعلها تسلُك مسلك محمد عبده وعبد القادر المغربي ورشيد رضا وجورجي زيدان من قبل؛ في نسبة السيد إلى أفغانستان وإلى المذهب الحنفي، ربما خوفا من تُهمة التشيُّع الجاهزة المعلَّبة.



ورغم أن كثيرا من القرائن التي وقفت عليها الدراسات الحديثة، تشهد بأن السيد إيراني الأصل، وأنه قد نشأ في بيئة إماميَّة المذهب، بل وتكشف بعض هذه الدراسات أن النخبة السياسيَّة العثمانيَّة نفسها كانت تُدرك ذلك بداهة؛ فإن هذا الرأي لا زال مُستبعدا من أكثر المفكرين والدارسين المسلمين السنَّة، الذين ينتمون إلى تيارات ترفع نسبها الفكري والحركي إلى السيد نفسه؛ ولم يتبناه إلا جيوب من الإسلاميين أكثرهم من أصحاب الميول السلفيَّة الوهابيَّة، الذين نقلوا دون تمحيص عن محمد محمد حسين، وكانوا مستعدين لمد الخط على أي امتداد "يشوه" سيرة الرجل، وذلك بحكم الخلفيَّة الأيديولوجية الاختزالية والاستسهال المعرفي المهيمن.

ويبدو أن الباب العالي كان يتلاعب بهذه المعرفة لحسابه، فيُقِرُّ بها متى شاء ويُنكرها متى شاء؛ دورانا مع مصلحته الآنيَّة، والتي تبدأ من محاولة توظيف السيد في مشروعات السلطان السياسيَّة، وتنتهي بتوجُّس عبد الحميد نفسه من نفي الأفغاني أو تسليمه لإيران؛ خشية أن يُصيبه ما أصاب ناصر الدين شاه من قبل على يد بعض تلاميذ السيد(3). وهذا هو السبب الأرجح عندنا في إصرار السلطان عبد الحميد على إبقاء الأفغاني "بجواره" في الآستانة، مُحدد الإقامة تحت المراقبة؛ وتفضيله ذلك على إطلاق سراحه والسماح بسفره.

وينبني ترجيحنا هذا على إدراك النمط السلوكي المهيمن على تصرُّفات عبد الحميد، والمُتسق كليّا مع ما تكشفه المصادر غير المألوفة عن شخصيَّة السلطان المهووس بأمنه الشخصي، ومنها -على سبيل المثال- كتاب إبراهيم المويلحي: "ما هنالك"؛ الذي نشرناه مُحقَّقا قبل شهور عن تنوير للنشر والإعلام. وفيه يكشف المويلحي جوانب من شخصيَّة عبد الحميد وسياساته قلَّما تطرَّق إليها الدارسون، وهي جوانب تعرَّت للمؤلف نتاج مُخالطته البلاط العثماني وأهله طيلة عقد كامل من الزمان.

بيد أن الاستقراء البصير لكلٍّ من مصادر دراويش "الإسلاميين" التي ترفض الإقرار بما كشفت عنه أكثر الدراسات الحديثة، ومصادرهم التي تتبنَّى نقيض ذلك أخذا بقشور هذه الدراسات دون تعمُّق، بما أن غرضها التشويه فحسب؛ يكشف أن الخصمان الأيديولوجيان يتبنيان هاتان الرؤيتان المُتباينتان ظاهرا، انطلاقا من أرضيَّة واحدة؛ أرضيَّة لا يُمكن إدراكها دون تفكيك خطابهما وأيديولوجياتهما، وإعادة تركيبهما عبر إدراكنا لحسابات تموضعهما في الحياة الفكرية والسياسيَّة اليوم.

وقد أمكننا تجريد عناصر ثلاثة تأسيسيَّة، يشترك فيها المعسكران المتخاصمان؛ وتنضح بها أكثر مواقفهما "المتناقضة" من السيد وفكره وحياته، ويُمكن عدها أهم منطلقاتهم الكامنة.

وأول عناصر هذه الرؤية المختلَّة؛ إعادة قراءة التاريخ "قبل الحديث" -بأمميته ورحابته- بشفرات ومعايير واقع التشظي القُطري الحديث، الذي بدأ بالهيمنة على ديار الإسلام عقب وفاة السيد بربع قرن تقريبا. وذلك أن الإسلاميين الذين يسعون لبناء مشروعات سياسيَّة قُطريَّة في دول يَغلِب عليها التسنُّن السوسيولوجي، لا يُمكنهم الإقرار بخلفيَّة السيد "الحقيقيَّة" وإن تيقَّنوا منها، وذلك حتى لا توظَّف ضدهم من خصومهم المذهبيين، أو -وهو الأسوأ- من أنظمة أغبى وأجهل وأعتى من نظام عبد الحميد الثاني. أما الذين لا يجدون غضاضة في الإقرار بهذه الخلفيَّة -على سبيل التشهير- إذ يتَّهمون السيد بـ"التأفغُن" طعنا في صدقه؛ فإنما غايتهم تمزيق روابط الفكر الإسلامي العابرة للمذهبيَّة وللحدود القُطريَّة، خدمة منهم للأنظمة التي ترعاهم، وإقرارا منهم بثِقَل الواقع المعادي للأمة، وعجزهم عن تجاوزه. وهما معا قد جرى استيعابهما كليّا في الأطر القطريَّة الحديثة، حتى صارا مُناهضين -دون وعي أحيانا- لأية تعبير عن الطبيعة الأممية لهذا الدين والعمل له.

وهذا بدوره يحملنا إلى العنصر الثاني في هذه الرؤية الاختزاليَّة؛ أي تكريسها النظام العالمي القائم، والحفاظ عليه؛ بما أن الدول القُطريَّة التي صار هذان الفريقان جزءا منها ومن "شرعيتها" الهشَّة هي اللبنات الأساسيَّة لهذا النظام، وقواعده التي لا يُمكن له الاستمرار دونها. فبدهي أن الإسلاميين أصحاب المشروعات السياسيَّة جلهم من الطامحين باعتراف النظام العالمي، الراغبين في العمل تحت عباءته، والاستمرار في إطار شرعيته، وتحت سقف مؤسساته؛ وهذا يجعلهم ينبذون تلقائيّا كافة العناصر الفكريَّة والحركيَّة التي تستعدي هذا النظام، أو حتى تُثير حساسيته! أما التيارات السلطوية الطاعنة في السيد، وانطلاقا من رغبتهم تمزيق الروابط الأممية التي تتهدَّد الأنظمة التي ترعاهم؛ فإنهم يُكرسون هذا النظام العالمي الكفري نفسه بوصفه نظامهم الخاص، ما دام سلطانهم يُقِرُّ ذلك ويأمر به، ويشارك بطبيعة الحال في جني بعض أرباحه. ولهذا، صار السيد عدوّا خطيرا لهؤلاء؛ يشحنون الجماهير ضده، ويوظفون الشحن السياسي والطائفي المعاصر في هذا الصدد.

وهذا يحملنا إلى العنصر الثالث في هذه الرؤية، وهو عنصرٌ "طبيعي" مُكمل لهذا الثالوث غير المقدَّس، ويتمثَّل في استصحاب ميراث الشحن الطائفي الخليجي طيلة نصف قرن تقريبا، ومداومة توظيفه، وذلك بعد إذ اصطفَّت أكثر الدول الكُبرى خلف دول الخليج، التي شكَّلت المزاج الديني المتأخر وخطابه بتمويلها السخي للجيوب الوهابية، بل وللأنظمة السلطوية. وهذا العنصر الديماغوغي لا يُيسر فحسب التوظيف العقدي للصراعات السياسية والشخصيَّة، بل يمول تأصيلها ويُكرس أصالتها زورا، في ظل تفشي الجهل وهيمنة الإعلام المأجور.

* * *

وعندنا أن نسبة السيد نفسه للأفغان، وهي الأشهر فيما استعمله من ألقاب؛ رجحت على ما عداها لأن النموذج النفسي والأخلاقي الذي رسمه لهم في كتابه: "تتمة البيان في تاريخ الأفغان"، لحض المصريين على مجاهدة البريطانيين(4)؛ هو النموذج الذي يرتضيه لأمم الإسلام في مواجهة المعتدين. ورغم مثالب الأفغان، التي لا يكاد يُخفيها نموذجه؛ فهي عنده نسبة الفخر والرضا بهذا النموذج المركَّب، الذي أسهم في تكوين السيد وبناء شخصيته وتعيين غايته في الحياة، أضف إلى ذلك مركزية هذا النموذج الواضحة في تصوره، وضرورة هيمنته سوسيولوجيّا، بسبب بمقدرته الفائقة على تحقيق غايات السيد السياسية المناوئة للهجمة الكولونياليَّة، وهذا يتجلَّى بوضوح شديد في التتمة.

أما النموذج الإيراني، الذي كان السيد يرى أنه نموذج اعتراه الاضمحلال -آنذاك- وفقد مكامن عظمته التاريخيَّة، كما يؤكد في خاطراته هناك؛ فهو نموذج لم يرتض نسبة نفسه إليه(5). هذا ناهيك عمَّا تُبرهن عليه نصوصه الخاصَّة من تجاوزه هو شخصيّا للمذهبيَّة، كما كان أهل عصره لا يكترثون بالحدود "الوطنية"؛ إيمانا بما يُمكننا اليوم تسميته بـ"الجنسية الإسلامية"، التي يعمل حاملها للأمة، ويضعها في رأس أولوياته فوق الوطن والعرق والعشيرة. وهي الرحابة الإسلامية الفطرية، التي انتكس عنها "المتدينون" السذج؛ الذين يجهدون أنفسهم اليوم لمحاكمة ما يعجزون عن إدراكه، بلوازم لا تُلزمه!
__________
(1) Azmi Özcan (1995), Jamaladdin Afghani’s honorable confinement in Istanbul and Iran’s demands for his extradition, The Journal of Ottoman Studies XV.
(2) Damir Shagaviev, “Remarks on the origins of Sayyid Jamal-ud-Din in a number of Russian Sources”, in: The Life and Thought of Sayyid Janal-ed-Din Assadabadi, Iranian Institute for Social and Cultural Studies, 2009.
(3) للمزيد حول ملابسات طرد الأفغاني من إيران إبَّان مرضه، والتي كانت أحد أسباب اغتيال ناصر شاه؛ يُراجع مقالنا المطوَّل: عبد الرحمن أبو ذكري، لمحات من حياة الأفغاني؛ وهو متاح على شبكة الإنترنت.
(4) راجع: تتمة البيان في تاريخ الأفغان، السيد جمال الدين الأفغاني (تنوير للنشر والإعلام، 2025م)، التصدير.
(5) راجع: خاطرات السيد جمال الدين الأفغاني في إيران (تنوير للنشر والإعلام، 2025م)، تقرير فرصة الدولة الشيرازي، فصل تاريخ إيران العام.

x.com/abouzekryEG
facebook.com/abouzekry

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه الأفغاني إيران إيران اسلامي شخصية الأفغاني مقالات مقالات مقالات اقتصاد صحافة سياسة سياسة سياسة اقتصاد سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة عبد الحمید أن السید ة السید ة التی

إقرأ أيضاً:

لقاء ترامب - بوتين.. تفاصيل جديدة وهذا رد الكرملين

لقاء ترامب - بوتين.. تفاصيل جديدة وهذا رد الكرملين

مقالات مشابهة

  • صريح جدا: هذا هو الشخص الذي يثق فيه الجزائري و يبوح له بسره
  • حركة المجاهدين الفلسطينية تجدد إشادتها بالموقف اليمني الأصيل الذي عبَّر عنه السيد القائد
  • توجيه تهمة القتل العمد للسائق الأفغاني المتهم في حادث ميونخ
  • لقاء ترامب - بوتين.. تفاصيل جديدة وهذا رد الكرملين
  • السيد تسلمت من حجار مهام وزارة الشؤون: سأعمل لعقد اجتماعي جديد
  • الرئيس مهدي المشاط يدعو إلى الخروج المليوني يوم غد استجابة لدعوة قائد الثورة السيد عبدالملك بدر الدين الحوثي
  • السيد القائد: سنستخدم القوة لمنع تنفيذ خطة ترامب
  • أتاسي: هذا التفاعل الشعبي الذي يعكس نبض الشارع وتطلعات المواطنين شكل قاعدة صلبة استندت إليها اللجنة التحضيرية في تحديد الأفكار المركزية والمحاور الرئيسية التي يناقشها المؤتمر
  • الدغيم لـ سانا: عندما تنضج عملية التواصل وإعداد الأوراق الأولية للتنفيذ لا شك ستتم الدعوة لمؤتمر الحوار الوطني، الذي سيلاقي فيه السوريون والسوريات الأرضية التي سينطلقون منها في بناء مستقبل بلدهم لأول مرة منذ عام 1950