بعد تعيين ضابط سابق بمناصب قيادية.. لماذا قبل مثقفو مصر بعسكرة وزارة الثقافة؟
تاريخ النشر: 14th, February 2025 GMT
في آب/ أغسطس 2013، وعقب إطاحته بحكم الرئيس الراحل محمد مرسي، وخلال لقاء له مع قيادات الجيش والشرطة، نفى وزير الدفاع المصري حينها، الفريق أول عبدالفتاح السيسي، ترشحه لحكم مصر، قائلا: "لا والله مش حكم عسكر".
مقولة السيسي، الذي جرى ترقيته لرتبة المشير في العام التالي، سريعا ما تغيرت بتوليه حكم مصر لـ 3 ولايات متصلة من منتصف 2014 وحتى 2030، في الوقت الذي تتهمه المعارضة بـ"عسكرة الدولة" طيلة 11 عاما، بتعيين عسكريين سابقين بوزارات وهيئات الدولة ومرافقها ومؤسساتها المدنية وإداراتها المحلية.
الجديد في الأمر، جاء عبر خبر مقتضب من 3 فقرات متطابقة، وبعنوان متماثل، نقلت فيه أغلب الصحف والمواقع الإخبارية المصرية، قرار وزير الثقافة المصري أحمد فؤاد هنو، بتكليف اللواء خالد محمد عوض اللبان بمنصب مساعد وزير الثقافة، ورئاسة الهيئة العامة لقصور الثقافة، أيضا.
الخبر نُشر الأربعاء الماضي، بجميع الصحف ما عدا موقع "أخبار اليوم" الحكومي، بدون لقب لواء قبل اسم الرئيس الجديد للهيئة التي من المفترض أن تقوم على نشر الثقافة في ربوع المدن والقرى المصرية ورعاية النشء.
وفق نص الخبر، فإن الوزير، هنو، الذي تولى المنصب 3 تموز/ يوليو 2024، أعرب عن ثقته في قدرة اللبان، على تطوير أداء الهيئة العامة لقصور الثقافة وتعزيز دورها في نشر الثقافة والفنون، بما يحقق رؤية الدولة بجعل الثقافة عنصرا أساسيا ببناء المجتمع، ويسهم بتحقيق استراتيجية بناء المصري.
اللواء اللبان، الذي كان يدير هيئة الرقابة الإدارية بالأقصر، من جانبه، أكد عزمه على بذل كل الجهد للنهوض بالهيئة وتوسيع نطاق خدماتها الثقافية والفنية بالمحافظات.
وانتقد كتاب ومثقفين حديث الوزير عن قدرات لواء الجيش السابق، وعلى الفور قرأ بعضهم وبينهم الصحفي سليم عزوز، في القرار "عسكرة لوزارة الثقافة"، مشيرين إلى أن العسكريين أبعد ما يكونوا عن مجال الفكر والثقافة، فما بالك بالنهوض بها.
تعيين اللواء خالد محمد عوض اللبان رئيسا لهيئة قصور الثقافة
صباح الكاكي مال اللواء بتاع صفا وانتباه بقصور الثقافة
أح يا بلد — shady alghamedy (@alghamedyshady) February 13, 2025
وبحسب موقع وزارة الثقافة عبر الإنترنت، فإن "الهيئة العامة لقصور الثقافة" أنشئت تحت مسمي "الجامعة الشعبية" عام 1945، ليتغير اسمها عام 1965 إلى "الثقافة الجماهيرية"، ثم تحولت إلى "هيئة" عام 1989، بهدف رفع المستوى الثقافي وتوجيه الوعي القومي للجماهير بمجالات السينما والمسرح والموسيقى والآداب والفنون الشعبية والتشكيلية، ونشاط الطفل والمرأة والشباب والمكتبات.
وفي السياق، تناولت الصحافة المصرية الأربعاء الماضي، أيضا، خبرا مشابها، يقول إن وزير الأوقاف أسامة الأزهري الذي تولى المنصب 3 تموز/ يوليو 2024، قام باستقبال الوكيل الدائم الجديد لوزارة الأوقاف اللواء أحمد سمير، ووداع الوكيل السابق للوزارة اللواء عمرو شكري.
ما أثار ذات الجدل، السابق، واستدعى انتقادات المصريين عبر مواقع التواصل الاجتماعي، مفجرا الحديث مجددا عن ملف عسكرة الوزارات المدنية وتعيين قادة سابقين من الجيش والشرطة على رأس قيادات الوزارة التنفيذيين.
وجاء في نص الخبر: "أعرب الوزير عن كامل دعمه لجهود الوكيل الدائم الجديد، مثنيا على مسيرته العامرة بالمهنية والتميز، وراجيا له التوفيق والنجاح في مقتبل عمله، خصوصا في ظل اتجاه الدولة إلى تفعيل العمل المؤسسي بكامل طاقته، وتوجيهات رئيس الجمهورية بحسن استغلال الموارد وكفاءة توظيفها خدمة للوطن والمواطنين".
..أسامة الأزهري وزير الأوقاف
يستقبل الوكيل الدائم لوزارة الأوقاف
اللواء أحمد سمير
..تعيين اللواء خالد محمد عوض اللبان
رئيسا لهيئة قصور الثقافة
كاب وعمة وقصر مرحبا on Twitter / X — مرحبا (@manoooolita) February 13, 2025
"فاقد للاتيكيت السياسي"
وحول دلالات تعيين لواء سابق لتطوير أهم هيئة ثقافية في مصر، ودلالات صمت المثقفين على القرار، تحدث الأديب والكاتب المصري والباحث الإعلامي خالد الأصور، إلى "عربي21".
وقال إن "الأمر ليس مستغربا، الجديد فيه فقط هو أن صاحب القرار التنفيذي الحقيقي فضّل أن يغادر منطقة الظل، ليكون في الواجهة، فمنذ 10 سنوات، وكل مؤسسات الدولة، صغيرها وكبيرها، وحصريا، يديرها ضباط، بشكل مباشر أو من وراء ستار".
وأضاف: "وكل مؤسسات الدولة يتولى ضابط سابق أهم منصب فيها يتحكم من خلاله في كل شؤونها المالية والإدارية".
وأكد أن "المؤسسات الثقافية لم تكن بعيدة عن هذا، فإذا كانت الصحف التي نشرت هذا الخبر بصيغة واحدة في دلالة على أن الجهة المرسلة واحدة من موبايل سامسونج، وهي مؤسسات صحفية وإعلامية وثقافية أيضا، ليس من الغريب أن يتولى الضابط الذي يرسل الرسائل المنصب مباشرة كي لا يتحمل عنت الإرسال، فلن يرسل لنفسه، لأنه يعرف اتجاه البوصلة".
ويرى الأصور أن هذه الحالة موروث من موروثات فترة ستينيات القرن الماضي، لافتا إلى أنه "من المعروف سلفا فيما يتعلق بهيئة قصور الثقافة أن كافة أنشطتها وفعالياتها يجب أن تمر أولا على ضابط ما ليعتمدها".
وأكد أنه "وللأمانة ليس هذا قاصرا على عهد السيسي، بل هو موروث استبدادي من عهد جمال عبدالناصر، مرورا بأنور السادات، وصولا لعهد حسني مبارك، بيد أن العهد الحالي لم يعد يراعي ما يمكن تسميته بـ(الاتيكيت السياسي) الذي كان مرعيا في العهود السابقة".
"موقف المثقفين"
وينتقد مصريون عبر مواقع التواصل الاجتماعي صمت المثقفين على عسكرة وزارة الثقافة، خاصة مع اتخذوه من خطوات تصعيدية من 5 حزيران/ يونيو 2013، حين نظم مثقفون وفنانون اعتصاما مفتوحا أمام وزارة الثقافة المصرية، احتجاجا على ما سمّوه "سياسة أخونة الوزارة".
جاءت اعتراضات المثقفين حينها ضد تعيين الرئيس الراحل محمد مرسي، لوزير الثقافة الأسبق علاء عبدالعزيز، الحاصل على الدكتوراه في فنون السينما عام 2008، وعضو هيئة تدريس المعهد العالي للسينما، بحجة أنه غير معروف بأوساطهم، وبدعوى انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين.
"جزء من سياق عام"
وحول دلالات صمت المثقفين على القرار، بعكس ما قاموا به سابقا عام 2013، قال الكاتب الصحفي والإعلامي قطب العربي: "بداية فإن تعيين هذا اللواء مساعدا للوزير ورئيسا لهيئة قصور الثقافة هو جزء من سياق عام؛ فجميع الوزارات الآن لديها وكيل أول عسكري أو شخص ثاني عسكري موجود بكل الوزارات، وفي الحقيقة يكون هو الشخص الأول".
وأكد في حديثه لـ"عربي21"، أن "ذلك العسكري يأتي ضمن ما جرى من عسكرة للحياة المدنية بشكل عام في مصر، وأن يكون هناك شخص عسكري يدير ويقود ويتحكم في الإدارة الفعلية داخل الوزارات والهيئات الحكومية المختلفة".
وأشار إلى أن "الأمر الثاني الخاص بموقف المثقفين فيغلب عليه بالفعل حالة من الخنوع والقبول بأمر وقرارات العسكرة، رغم أنهم كانوا ينتفضون لأمور أقل من ذلك بكثير من قبل، وهذا يؤخذ عليهم وينبغي أن يدافعوا عن مدنية الثقافة".
ولفت إلى أنه "يمكن أن يكون للمؤسسة العسكرية دور في مجال الثقافة فيما يخص الجيش نفسه والمؤسسة العسكرية، وهذا دور تقوم به إدارة الشؤون المعنوية بالقوات المسلحة، ويمكن أن يؤسسوا قسما ثقافيا خاصا بهم في إطار القوات المسلحة لكن لا علاقة لهم بالقطاع المدني الثقافي".
وأوضح أنه "في ستينيات القرن الماضي، كان هناك وزراء ثقافة من العسكريين، بينهم ثروت عكاشة الذي كان عسكريا ومن الضباط الأحرار، وتولى حقيبة وزارة الثقافة بين (1958 و1962)، وبين (1966 و1970)".
وأضاف: "كانت هناك شخصيات عسكرية أخرى تتولى مواقع قيادية بوزارة الثقافة، وبينهم الوزير محمد عبدالقادر حاتم، الذي تخرج في الكلية الحربية عام 1939، وتولى وزارات الإعلام والثقافة والسياحة مدة 10 سنوات، بينها وزارة الثقافة عام 1962".
وتابع سرده قائلا: "كما أن سعد الدين وهبة الذي تخرج في كلية الشرطة عام 1949، كان أول رئيس للثقافة الجماهيرية في مصر عام 1969، كما رأس مهرجان القاهرة السينمائي منذ عام 1985، ولمدة 12 عاما متصلة".
وخلص للقول: "واضح أن العسكر مهتمون منذ ستينيات القرن الماضي وحتى والآن بأن يضعوا أيديهم على المجال الثقافي، لأنهم يعرفون أنه يوجه الرأي العام، والحالة القائمة الآن لاشك أنها امتداد لفترة الستينيات، وتخضع لرؤية الستينيات ورؤية العسكر في التعامل مع الثقافة باعتبار أنها وسيلة لتوجيه الرأي العام".
"عسكرة تقابلها إهانة"
ووجه السيسي، في أكثر من مناسبة انتقادات لموظفين مدنيين، أشهرها قوله في نيسان/ إبريل 2020، خلال زيارته لموقع إنشائي في القاهرة: "فين (أين) المدني إللي (الموجود) هنا؟"، وذلك بهدف توجيه اللوم له.
وأكد متحدثون سابقون لـ"عربي21"، أن سياسات السيسي بدعم حكومته وإداراتها بعسكريين سابقين، تأتي مكافأة للقادة بعد إحالتهم للاستيداع، ولمنحهم رواتب من الموازنة العامة للدولة، وخلق ظهير داعم له داخل الوزارات والهيئات العامة والقطاعات الحكومية.
وفي آب/ أغسطس 2019، وفي قرار وصفه متابعون بأنه بداية لـ"عسكرة التعليم"، قررت السلطات المصرية تحويل المدارس الفنية الصناعية لمدارس عسكرية، وتطبيق النظام الجديد على 27 مدرسة في 2020.
وفي عام 2020، أجرى السيسي تعديلا قانونيا تم بموجبه تعيين مستشار عسكري لكل محافظة، من مهامه المتابعة الميدانية للخدمات والمشروعات، والأمور الاقتصادية والاجتماعية والأمنية، ما رأى فيه مراقبون تحويلا للمحافظات المدنية إلى ثكنة عسكرية.
ومنتصف العام 2021، طلب السيسي، من الجيش تعيين ضابط جيش لكل قرية يشرف على "مبادرة حياة كريمة"، المعنية بتطوير الريف المصري.
وهو الأمر الذي رصدته عشرات الأبحاث والدراسات والتقارير الصحفية، وحتى الكتب، والتي من بينها كتاب: "عسكرة الأمة: الجيش والأعمال التجارية والثورة في مصر"، عام 2017 في نيويورك، للمؤلفة زينب أبوالمجد.
وكشفت دراسة للباحث أمجد حمدي، تشرين الأول/ أكتوبر 2019، عن "عسكرة إدارة وزارة النقل"، أكد خلالها أن الوزارة والهيئات التابعة لها تتحول لمؤسسة عسكرية بها عاملون مدنيون، مشيرا لتعيين أكثر من 100 قيادة عسكرية.
وفي دراسة ثانية لحمدي، رصد "عسكرة وزارة الصحة"، مؤكدا على تزايد ظاهرة العسكرة بإعادة تعيين المسؤولين العسكريين المتقاعدين بالقطاع الصحي، وافساح المجال للعسكريين للعمل كمدراء مستشفيات، وهيمنة العسكريين الكبار على القطاعات الرئيسية بالوزارة والمرتبطة بالميزانية والإدارة والأمن.
كما كشفت دراسة للباحثة المختصة بالتعليم إيزيس الكاشف، في آب/ أغسطس 2022، عن عسكرة وزارة التربية والتعليم، والمناصب القيادية بندب لواءات من الجيش، في رئاسة قطاع شؤون مكتب الوزير، ورئاسة إدارة الأمن، ومستشار الوزير لتنمية الموارد، ورئاسة هيئة الأبنية التعليمية، ورئاسة قطاع الكتب، ورئاسة قطاع الأمانة العامة وتضم الشؤون المالية والإدارية.
"قوانين للإدانة وأخرى للحماية"
وخلال عهد السيسي، صدرت العديد من القوانين التي تضع المدنيين وفق مراقبين، تحت سيطرة العسكريين، إذ أصبحت محاسبتهم على أي جريمة أو خطـأ تتم وفقا للقانون العسكري، وفي أفضل الحالات تحت قانون الطوارئ وقانون الكيانات الإرهابية.
وبحسب نص المادة (204) من (دستور 2014)، فإنه تجري محاكمة المدنيين أمام محاكم عسكرية، لكن تلك الصلاحية جرى في عهد السيسي توسيعها، لتضم محاكمة المدنيين عسكريا في أي واقعة تمس المنشآت المدنية التي تحميها القوات المسلحة، وفقا للقانون رقم (136 لسنة 2014).
وفي المقابل، صدرت قوانين لحماية العسكريين وبعض كبار قادة القوات المسلحة ومنحهم حصانة قانونية تمنع محاكمتهم أو محاسبتهم إزاء ما ارتكبوه من جرائم بحق المدنيين، وهو ما نص عليه القانون رقم (161 لسنة 2018).
وفي 6 تموز/ يوليو 2023، قرر منح درجات الليسانس والبكالوريوس التي تمنحها الجامعات المصرية لخريجي كليات الأكاديمية العسكرية المصرية، ليحصل خريج "الكلية الحربية" على بكالوريوس العلوم السياسية والاقتصاد والإحصاء، وينال خريج "الكلية البحرية" بكالوريوس العلوم السياسية، وخريج "الكلية الجوية" بكالوريوس التجارة وإدارة الأعمال.
وفي 2 تموز/ يوليو 2022، تم منح ضباط الجيش والمحالين على المعاش من العسكريين وعائلاتهم حصانة وامتيازات، منها منع أي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني التعارض مع الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة مُخالفة ذلك.
وأيضا: "لا يحق لأي مؤسسة رقابية أو شرطة مدنية أو أي قضاء مدني تفتيش ممتلكات السادة الضباط والأفراد، ولا يخول لأي جهة التصديق لهم بفعل السالف ذكره... ".
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة سياسة عربية مقابلات حقوق وحريات سياسة دولية الجيش المصري السيسي عسكرة الثقافة مصر السيسي الجيش عسكرة الثقافة المزيد في سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة وزارة الثقافة قصور الثقافة عسکرة وزارة إلى أن فی مصر
إقرأ أيضاً:
وزارة الدفاع الروسية تنشر وثائق عن اقتحام الجيش الأحمر لبرلين
روسيا – نشرت وزارة الدفاع الروسية وثائق أرشيفية رفعت عنها السرية تتعلق بعملية الهجوم الاستراتيجي والبطولي الذي شنته القوات السوفيتية على عاصمة ألمانيا النازية قبل 80 عاما.
في مشروع الوسائط المتعددة الجديد “الهجوم الأخير قبل النصر” على الموقع الإلكتروني لوزارة الدفاع الروسية، تم نشر توجيهات وأوامر مقر القيادة العليا، والتقارير العملياتية، وملخصات المعلومات، والبرقيات المشفرة، وسجلات القتال، والصور التاريخية، والرسوم البيانية والخطط المعدة لعملية الهجوم الاستراتيجي في برلين وغيرها من الوثائق التي لم يتم تقديمها من قبل لعامة الناس.
وقد استسلمت برلين للقوات السوفيتية في الثاني من مايو 1945، خلال قتال عنيف، وسجل هذا اليوم في التاريخ باعتباره رمزا لانهيار الرايخ الثالث، وبلغت العملية ذروتها برفع راية النصر فوق مبنى الرايخستاغ.
لم يحرم سقوط برلين النازيين من مركزهم السياسي فحسب، بل سرّع أيضا من استسلام ألمانيا، وظلت راية النصر فوق الرايخستاغ حاضرة في ذاكرة البشرية كصورة مرئية لنهاية أكثر الحروب دموية في التاريخ. وقد أبرزت هذه الحادثة الدور الحاسم للاتحاد السوفيتي في هزيمة النازية، وفقا لوزارة الدفاع الروسية.
وبفضل الشجاعة والبسالة التي أظهروها في أثناء اقتحامهم لبرلين، حصل مئات المشاركين في المعركة على لقب بطل الاتحاد السوفييتي – أعلى وسام وجائزة للدولة، مما يؤكد الطبيعة الاستثنائية لهذا الإنجاز، وكان من بينهم ليس فقط المحاربان ميخائيل ييغوروف وميليتون كانتاريا، اللذان رفعا راية النصر فوق الرايخستاغ، بل أيضا العشرات من القادة والمهندسين والمدفعيين والمشاة، الذين قررت أفعالهم نتيجة المعركة.
* الطريق إلى النصر
كانت عملية الهجوم الاستراتيجي في برلين، التي بدأت في 16 أبريل 1945، واحدة من أكبر الحملات وأكثرها تعقيدا في الحرب الوطنية العظمى. لقد تطلب الأمر قدرا هائلا من الجهد والمهارة التكتيكية والتضحيات المذهلة، وخلال العملية، خططت القيادة السوفيتية لهزيمة القوات الرئيسية لمجموعات الجيوش الألمانية فيستولا والمركز، والاستيلاء على عاصمة الرايخ الثالث، والوصول إلى نهر إلبه.
تضمنت خطة عملية برلين شن هجوم متزامن من قبل قوات الجبهتين البيلاروسية الأولى والأوكرانية الأولى في صباح يوم 16 أبريل 1945. وكان من المقرر أن تبدأ الجبهة البيلاروسية الثانية، بالتزامن مع إعادة تجميع قواتها الرئيسية القادمة، هجوما في 20 أبريل.
أنشأ الفيرماخت منطقة برلين الدفاعية، التي تتألف من ثلاثة محيطات دفاعية: المحيط الخارجي، والمحيط الداخلي، والمدينة نفسها.
وفي صباح يوم 16 أبريل، وقبل ساعتين من الفجر، بدأت الاستعدادات المدفعية في منطقة الجبهة البيلاروسية الأولى، وأطلقت تسعة آلاف مدفع وقذيفة هاون، بالإضافة إلى أكثر من 1.5 ألف نظام صاروخي من طراز BM-13 وBM-31، النار على خط الدفاع الأول الألماني في منطقة الاختراق التي يبلغ طولها 27 كيلومترا لمدة 25 دقيقة.
ومع بدء الهجوم، تم نقل نيران المدفعية إلى عمق الدفاع، وتم تشغيل حوالي 150 من الأضواء الكاشفة في مناطق الاختراق، وحجب الضوء رؤية العدو، وفي الوقت نفسه أضاء الطريق للوحدات المتقدمة.
ونصبت الأضواء الكاشفة على بعد 150-200 متر بعضها من بعض على طول خطوط قواتنا الأمامية، وعلى بعد 400-600 متر من خط المواجهة في الاتجاهات الرئيسية. وفي الساعة 4:30 من يوم 16 أبريل 1945، أطلقت المدفعية وابلا من النيران على التحصينات الألمانية. وبدأ استعداد مدفعي غير مسبوق للهجوم الحاسم للجبهة البيلاروسية الأولى على مركز العدوان الألماني – برلين. وغطى الدخان والغبار المواقع الألمانية جراء الانفجارات المتواصلة، حسبما ذكرت وزارة الدفاع الروسية.
في الساعة الخامسة صباحا، امتدت نيران المدفعية إلى عمق دفاعات العدو. في تلك اللحظة، ورد أمر ببدء إنارة خط الدفاع الأمامي، الذي كانت قواتنا المشاة والدبابات تتقدم لاختراقه.
وأكدت وزارة الدفاع الروسية أن “الهجوم الليلي حقق فعالية حقيقية بفضل الضوء على خط الدفاع الرئيسي للعدو المقاوم بشدة، وتركت العملية بصمة لا تمحى في تاريخ الفن العسكري للجيش السوفيتي خلال الحرب الوطنية العظمى”.
في 30 أبريل، بدأ الفيلق 79 التابع للجبهة البيلاروسية الأولى القتال من أجل الرايخستاغ. في ليلة الأول من مايو اندلعت معركة شرسة داخل الرايخستاغ. وقد جرت معارك في كل طابق، مع وقوع قتال بالأيدي على السلالم وفي الممرات. قام المقاتلون المهاجمون بتطهير المبنى من الفاشيين، مترا تلو الآخر، وغرفة تلو الأخرى.
بحلول بداية هجوم الجيش الأحمر، كان الألمان قد أقاموا العديد من الحواجز والهياكل الخرسانية في برلين، وقاموا بتركيب حواجز مضادة للدبابات، وعززوا نوافذ المباني السكنية بأكياس الرمل وحولوها إلى ثغرات لإطلاق النار. وطالبت هيئة الدفاع السكان بالمشاركة في المعارك ضد القوات السوفيتية في الشوارع، وفي المنازل.
بالإضافة إلى ذلك، تم تشكيل وحدات قتالية من ممثلي منظمة الشباب “شباب هتلر”، وكان معظمهم من المراهقين، لمحاربة الدبابات السوفيتية. تم نشر الطلاب وأفراد الخدمة من جميع المدارس العسكرية وتم تشكيل ما يقرب من 200 كتيبة من سكان المدينة، وإجراء تعبئة عامة لسكان المدينة الذكور الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و65 عاما، فيما بلغ عدد أفراد حامية برلين أكثر من 200 ألف شخص.
وتركزت الوحدات وقوات الأمن الخاصة في المدينة. ومن أجل تعزيز الانضباط، بدأت فرق قوات الأمن الخاصة في القيام بدوريات في أحياء المدينة، وإذا ما عثروا على أي متهربين، أطلقوا النار عليهم دون إجراء الكثير من التحقيقات.
في 20 أبريل، عند الساعة 13:50، كانت المدفعية البعيدة المدى التابعة لفيلق البنادق التاسع والسبعين التابع للجبهة البيلاروسية الأولى هي أول من فتح النار على برلين، إيذانا ببدء الهجوم على عاصمة الرايخ الثالث.
كانت القذائف التي استخدمها رجال المدفعية لقصف برلين تحمل النقوش التالية: “من أجل هتلر!”، “من أجل الفاشيين في برلين!”، “من أجل ستالينغراد، ودونباس، وأوكرانيا، والأيتام والأرامل. من أجل دموع الأمهات!”، “من أجل موسكو ولينينغراد!”.
* راية النصر فوق الرايخستاغ
كان اقتحام الرايخستاغ الحدث الأخير في معركة برلين. وبينما كانت المعارك العنيفة تدور في المبنى المحترق، أقدم زعيم الرايخ الثالث، أدولف هتلر، على الانتحار في مخبئه تحت الأرض.
وأبلغ رئيس الأركان العامة للقوات البرية الألمانية، الجنرال كريبس، القيادة السوفييتية بأن هتلر لم يعد على قيد الحياة، وطلب هدنة بينما تتولى الحكومة الألمانية الجديدة مهامها، وأعلنت القيادة السوفييتية موقفها: الخيار الوحيد هو الاستسلام غير المشروط.
بحلول الساعة 3:00 مساء في الثاني من مايو، توقفت المقاومة الألمانية في برلين بشكل كامل، استسلمت بقايا حامية برلين (135 ألف رجل)، بقيادة قائدها الجنرال هيلموت فايدلينغ، قائد المدفعية. وألقى حوالي 70 ألف جندي من الفيرماخت (الجيش) أسلحتهم. في المجمل، خسر الألمان في عملية برلين ما يصل إلى 380 ألف قتيل من الجنود والضباط، وتم أسر 400 ألف.
* إنقاذ برلين
بعد أسبوعين من القتال العنيف، تحولت برلين إلى أنقاض: حيث أدى ذلك إلى ترك المدينة بدون ماء أو كهرباء أو تدفئة، وتحولت العديد من المباني، بما في ذلك المستشفيات والمدارس، إلى أكوام من الأنقاض. كان مئات الآلاف من الناس على حافة المجاعة والمرض، ويحتاجون إلى مساعدات عاجلة.
وكان الجنود السوفييت الذين اقتحموا الرايخستاغ بالأمس هم أول من مد يد العون، حيث نظّم جنود الجيش الأحمر نقاطا لتوزيع الخبز، وأعادوا تأهيل عدة مستشفيات للجرحى والمدنيين، وبدأت وحدات الهندسة بإزالة الأنقاض وإصلاح شبكات المياه. وهكذا، تدريجيا، لم يهزم الجيش الأحمر العدو فحسب، بل أصبح مثابة جسر بين الحرب والسلام، كما تشير وزارة الدفاع الروسية.
بعد انتهاء عملية الهجوم على برلين، أصدرت القيادة العليا توجيها بشأن تغيير الموقف تجاه أسرى الحرب الألمان والسكان المدنيين، وتم إبلاغ محتواه وشرحه لجميع أفراد الجيش الأحمر. وقد فرضت على الضباط متطلبات صارمة فيما يتعلق بتثقيف الأفراد ومنع حالات الإجراءات التعسفية ضد الجنود والضباط الألمان الأسرى، فضلا عن السكان المدنيين في ألمانيا.
وفي ذلك الوقت، أنقذ الجيش الأحمر برلين من الموت جوعا، وفقا للإدارة العسكرية الروسية. ومباشرة بعد الاستيلاء على الرايخستاغ، تم إنشاء مطابخ ميدانية إضافية في الشوارع للمواطنين وأسرى الحرب.
وبحسب وثائق نشرتها وزارة الدفاع الروسية، كان كل مواطن من برلين يحصل أسبوعيا على ما يصل إلى ثلاثة كيلوغرامات من الخبز، و500 غرام من اللحوم، و1.5 كيلوغرام من السكر، والقهوة الطبيعية، والخضروات ومنتجات الألبان.
وبفضل جهود الجيش الأحمر، تم إطلاق وسائل النقل العام في برلين بحلول نهاية شهر يونيو. وبدأ المترو بالعمل، وعاد الترام إلى شوارع المدينة، تمت استعادة إمدادات الكهرباء في المدينة بشكل كامل، وإرجاع الكهرباء إلى 33 ألف مبنى سكني و50 محطة صرف صحي ومحطة مياه.
وفي 16 مايو 1945، بدأ البنك المركزي في ممارسة عمله في برلين، الأمر الذي شكل خطوة مهمة في اعادة إحياء الاقتصاد. وفي الوقت نفسه، وبفضل المشاركة الفعالة للجيش الأحمر، انتعشت الحياة الثقافية في المدينة: إذ تم افتتاح المسرح الغربي مع عروض الباليه ومسرح النهضة الذي قدم عروضا كوميدية لعشاق الفن، واستأنفت أوركسترا المدينة الفيلهارمونية أنشطتها الموسيقية، ودعت الجمهور إلى العروض التي تقدمها الأوركسترا السيمفونية.
المصدر: RT