ناصر عبدالرحمن يكتب: الشخصية المصرية «14».. النرجسية والازدواجية
تاريخ النشر: 14th, February 2025 GMT
ألوان تغرق فيها الشخصية المصرية، تتجاذب أطراف كل صفة داخل الأخرى، فى أمواج متدافعة أحياناً وملاحقة أحياناً، ومختلطة فى معظم الأحيان، كثير من التعقيد والامتزاج بين الصفتين، جمع وفرق وقُرب وبُعد ومسافات، على حسب أوقات النجاح والانتصار تجد الشخصية تترنح فى خيلاء وتعالى نرجسية.
وفى أوقات الضعف والحاجة تتوحد على نفسها فى رفض صريح وكتم للأوجاع بسخرية عكسية، وفى حالات التباين والطبقية تظهر الازدواجية كما تتداخل الصفات وتصنع امتزاجاً مرعباً، فى أوقات الثبات والحيرة والتقيد والغيبة، يظهر فى أوقات الغيبوبة الاجتماعية مزيج جامع بين النرجسية والازدواجية، من الفرد إلى الأسرة إلى الحى إلى القرية إلى المدينة، يظهر مزيج بين الصفتين، فى الشاب والفتاة والمرأة والرجل والعائل والمسئول والوحيد والمتعلم والجاهل والغنى والفقير، يظهر مزيج بين النرجسية والازدواجية فى المهنى والمزارع والتاجر والسمسار.
صاحب كشك أم صاحب شركة أم صاحب كانتين، الكل فى بحر متلاطم بين أمواج الصفتين، تجد النرجسية واضحة فى الحضارة المصرية القديمة، فى التماثيل الشاهقة للملوك والأمراء والحكام، نرجسية واضحة فى المبالغة والظهور، تجبر العالم على الإعجاب بالنحت والرسم والعمدان.
تلحظ النرجسية فى الأغانى والأناشيد والقصائد، إلى تكرار المدح والإعجاب، تجد المدير يُقرّب الموظف الذى يُطربه، والمرأة تغرم بمن يشيد فى مبالغة بجمالها، ويُقرّب المسئول من يغذى نرجسيته، ويُبعد من لا يُقدّر مكانته. يعتقد المصرى كثيراً أنه يستحق التقدير، وأنه مظلوم وأنه مغبون، ويشتكى بلا كلل ولا ملل ليل نهار مَن يتعامل معه بأقل مما يستحق. تميل الشخصية المصرية إلى التغنى المفرط بإنجازاتها، بتاريخها وجغرافيتها ومواهبها وريادتها، فى إغفال كبير عن العمل والتركيز لدرجة التعالى عن تقدم الآخر، بل والنيل من حجة الآخر، دون مقاومة لترميم ضعفها وإظهار سيطرتها، كما أنها تكره النقد.
تميل الشخصية المصرية النرجسية إلى التعالى على النقد، بل وتكذيب من ينقدها أو يشير إلى عيب فيها، كما أنها تبالغ فى فرديتها والتغنى باختلافها، والتعقيد فى النرجسية المصرية ينبع من مزج النرجسية بالتواضع، المزج بين النرجسية والتفاخر بالرضا واستيعاب الآخر.
تتجلى النرجسية فى الغيرة الشديدة من الجار، من تحجيم الصفات السلبية من الشخصية إلى المبالغة فى الإيجابية على غير اكتمال وقدرة، كل حقبة زمنية تشتعل بأضواء النرجسية، فى عرض النماذج المصرية، الرموز الشهيرة من الشخصيات المصرية، تقدم وتكتب بنرجسية، بحيث تتجاهل عدم إنقاذ التجار والمقتدرين لمحمد كريم مع إظهار أفعاله لصالحهم، تجاهل التاجر الوحيد الذى تكفل بإحضار جثمان السيد محمد فريد مع إظهار عرض قضيتنا وحقنا فى الحرية، إظهار عبقرية الدكتور طه حسين وإنكار دور زوجته وفرنسيته فى نجاحه.
كما تظهر النرجسية فى الرياضة، ينجح أبطال الاسكواش ونُخفى التجنيس، إظهار عبارات التفاخر بين الأندية الكبيرة، وإخفاء موت أندية عريقة كالبلاستيك والسكة الحديد، النرجسية تحترق بنيران النفسية المتوحدة على نفسها، نُظهر أننا مجتمع أغلبه من الشباب ونغفل انتشار الإدمان بين فئات الشباب فى المدن والدلتا والصعيد، نرجسية تزيد من تفاقم المشكلات وتعميقها، نُظهر ملايين طلاب الجامعة ونغفل انتشار المدارس والجامعات الخاصة، تأجيل الأوجاع نرجسية، تظهر فى العامل المصرى، العامل أصبح نرجسياً وبقوة، مما جعل العامل السورى والعامل التونسى والعامل الباكستانى يتفوق عليه، جعلت النرجسية من العامل المصرى كسولاً، إذا حصل على يومية لا يعمل بعده ويفضل الجلوس على المقهى حتى آخر قرش فى يوميته، النرجسية تجعل العامل الماهر يفتخر بمهارته وينسى أن يدعمها ويجدد فيها، لكى يعى بالتقدم الحاصل فى المهنة.
النرجسية تجعل العامل يقع فى حفرة الكبر، حتى إنه يتقدم نحو صناعات لا يفهم فيها، يسافر إلى بلاد وهو مستعد لأن يعمل فى أى صنعة، النرجسية تجعله يرفض التخصص، تجد الصيدلى يصف لك دواء أى مرض، والمقاول يعمل عمل المهندس، والفلاح يبنى فى أرضه، والمدرس يشرح أى منهج.
كلها تدخل بالفهلوة داخل بوتقة النرجسية.. النرجسية جعلتنا نصف الاحتلال الفرنسى على أنه حملة علمية، والاحتلال التركى على أنه خلافة إسلامية، تصف معاهدة المهادنة على أنها معاهدة سلام، والتدخل الأمريكى فى تفاصيل حياتنا لدرجة أن تأثير الفيلم الأمريكى مصدق لا يكذب وأننا غير مؤهلين للفن، كلها بسبب نرجسية تصنع صوراً وهمية وجداراً كاذباً وتضليلاً للحقائق، تجعل البنت ترفض خطبة الفقير فى انتظار الغنى، والقبول بالعجوز فى نفس السبيل.
النرجسية تجعل الشاب يعرّض نفسه للموت بأن يرمى نفسه فى البحر أملاً فى الهجرة لأوروبا، دون أن يتحقق من إمكانياته أو حتى لغتهم التى لا يتقنها، نرجسية تجعلنا أرض نعام. أما الازدواجية فقد أشار إليها كُتاب الشعر وكتاب الروايات والأدب، أشهرهم ثلاثية نجيب محفوظ، فشخصية سى السيد ترجمة وتجلٍّ صريح للازدواجية فى الشخصية المصرية التى تتحدث عن رموزها ونجومها ثم تهدمها وتنال منها.
سعد زغلول زعيم سياسى قاد ثورة 1919 الثورة الشعبية التى خرج فيها أطياف المصريين وطبقاتهم بدياناتهم وثقافاتهم هو نفسه الذى تعامل معه المصرى على أنه «قمارتى»، سيد درويش مجدد الموسيقى تعاملوا معه على أنه عامل فقير يغنى باليومية للعمال.
الازدواجية تجعل الإعلامى فى التوك شو يتحدث بحمية على أمر ثم يتحدث بحمية أيضاً على عكس الأمر، نتحدث عن الفقر والمرض والجهل ونرفض أن نوصف بأمراض الفقر والمرض والجهل، نقدس النهر ولا نحميه ولا ننظفه ولا نقدّره، نتغنى بالنيل ونرمى فيه مخلفات المصانع والنوادى النهرية، نشيد بالقطن المصرى ولا نزرعه، نقدّر الفلاح المصرى ولا ندعمه ولا نقوّمه، فى السبعينات تظهر مزارع الدواجن البيضاء، فندين تربية الدواجن فى العشش والحارات، الازدواجية تجعلنا نُعجب فى صمت ونعلن النفور فى العلن، الازدواجية تتجلى فى قصة سيدنا يوسف الذى ظهرت براءته من التهمة وفى نفس الوقت سُجن وتمت إدانته، يزور المصرى مقامات الأولياء ويقيم الموالد والاحتفالات ثم يحارب زيارتهم وينكر فضلهم عليه، نشيد بالناجح المجتهد وبالعالم المجدد ثم نرفض بزوغه ونتهم علمه، نعشق الجمال ونخافه ونتهمه بالفتنة، نعجب بالفنان المصرى ونترك نجومه تلمع فى سماء غيرنا، نتحدث بإعجاب عن الأفلام ونتركها سدى فى أيدى من يشتريها، نكرم النجم ونسبه.
الازدواجية تجعلنا نتغنى بأمنا مصر وفى نفس الوقت نلعنها ونطعن فيها، الخطورة أن الجمع بين النرجسية والازدواجية يخلق صفة أكثر تعقيداً منهما تسمى بالتوحد اللهم فاشهد.
المصدر: الوطن
كلمات دلالية: الشخصية المصرية النرجسية الازدواجية الشخصیة المصریة بین النرجسیة على أنه
إقرأ أيضاً: