ترامب بين القانون الدولي وقانون الغاب
تاريخ النشر: 14th, February 2025 GMT
عندما سأل صحافي الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أمام العاهل الأردني عبد الله الثاني، حول السلطة التي تخوله الاستيلاء على غزة، وطرد أهلها قال، دون تردد «السلطة الأمريكية وأن الدول الأخرى عليها أن تستوعب الفلسطينيين».
هذه الإجابة تعود بنا إلى القرن التاسع عشر عندما بدأت الولايات المتحدة تشعر بقوتها وأخذت تستولي على مناطق شاسعة من أراضي الدول الأخرى، أو تشتريها بقليل من المال.
وفي عام 1803، اشترت الولايات المتحدة ولاية لويزيانا من فرنسا مقابل 15 مليون دولار، وتم الاستيلاء على فلوريدا بالقوة من إسبانيا بحلول عام 1819، كما اشترت ولاية ألاسكا من روسيا القيصرية عام 1867 بقيمة 7.2 مليون دولار، وباعت إسبانيا الفلبين لأمريكا مقابل 20 مليون دولار في عام 1899. واشترت أمريكا بالبلطجة جزر العذراء من الدنمارك بمبلغ 25 مليون دولار في عام 1917.
وبعد أن دخلت العلاقات الدولية مرحلة القانون، وإنشاء المنظمات الدولية وإعلان الرئيس وودرو ويلسون عام 1918 مبادئه الأربعة عشر من بينها «حق تقرير المصير»، ألغى الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت عام 1933 «مبدأ مونرو» بمفهومه الكولونيالي، واعتمد مفهوما جديدا للمبدأ وهو التعاون الدولي والسياسة المتعددة الأقطاب وتحولت الكولونيالية الكلاسيكية القائمة على الاحتلال والحروب مرحلة جديدة تقوم على السيطرة الاقتصادية، وإقامة الاتفاقيات والمعاهدات الدفاعية، واستخدام البنوك والمؤسسات المالية للسيطرة على الشعوب، وهو ما سمي بالإمبريالية.
يبدو أن ترامب ما زال يعيش في القرن التاسع عشر خلال مرحلة «مبدأ مونرو»، وأنه لا يعرف أن هناك قانونا دوليا، أو منظمات دولية أعادت ترتيب العلاقات الدولية بطريقة تتعايش فيها الدول كبيرها وصغيرها وتحتكم في حالة الخلافات إلى مرجعية قانونية توافقت عليها الدول في مؤتمرات دولية لعبت فيها الولايات المتحدة دورا أساسيا ومنها إنشاء الأمم المتحدة نفسها في سان فرنسيسكو عام 1948 وصياغة «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» بقيادة إلينور روزفلت عام 1948. ترامب يريد أن يستبدل قوة قانون بقانون القوة محليا ودوليا.
ثلاثة أسابيع من القرارات التعسفية
اتخذ ترامب خلال ثلاثة أسابيع من القرارات التعسفية، أو أعلن عن نيته باتخاذ قرارات «خارج الصندوق» كما وصفه نتنياهو، طالت معظم دول العالم منها كندا والمكسيك وبنما والدنمارك وجنوب افريقيا وكولومبيا وفنزويلا والصين وروسيا وأوكرانيا ومصر والأردن وفلسطين. والمقبل ينذر بمزيد من القرارات الخطيرة. فهو يريد أن يغير الخرائط والحدود والهويات وديموغرافيا الدول ويفرض العقوبات على هواه، ويتصرف بالفعل كبطلجي الحارة الذي يحمل نبوتا غليظا، ويريد أن ينزل به على رأس كل من يخالفه. أما بالنسبة للمنظومة الدولية، فقد انسحب من اتفاقية باريس للمناخ، ومن منظمة الصحة العالمية ومجلس حقوق الإنسان وانسحابه المقبل سيكون من اليونسكو، وفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية، وأوقف نهائيا تمويل وكالة إغاثة وتشغيل لاجئي فلسطين (الأونروا) وطالب بحلها واتهمها بأنها منظمة معادية للسامية.
وقريبا سيخفض مساهماته في ميزانية الأمم المتحدة العادية، وميزانية عمليات حفظ السلام. وستكون الصين أكبر الرابحين، حيث لن تجد مقاومة من أحد لتملأ الفراغ، وتقفز من الدولة الثانية لتصبح الدولة الأولى عالميا في تمويل المنظمات الدولية، بالتالي الأكثر تاثيرا في المجتمع الدولي.
غزة ـ التهجير والاستملاك
كثير من المحللين والمعلقين يعتبرون تصريحات ترامب حول تملك غزة وتهجير الشعب الفلسطيني منها، ثم إعمارها وعرضها للبيع، أو تسلميها لإسرائيل، يمكن أن تكون مناورة للتأثير على بعض الدول العربية لجرها للتطبيع مع الكيان الصهيوني، وتجريف أموالهم تحت غطاء إعادة إعمار غزة. أنا اعتقد أن ترامب جاد كل الجدية، إذا لم يجد أمامه سدا منيعا من الرفض العربي والدولي، والحراك الجماهيري على الأرض في فلسطين كلها ودول الطوق والعالم العربي بكامله. لقد فضحت لغة الجسد التي ظهرت على وجه الملك عبد الله عمق الإحراج الذي تعرض له، عندما أعلن أمامه دون أدنى احترام للأعراف الدبلوماسية بأنه ماض في موضوع التهجير وموضوع الضفة الغربية.
ونحن لا نشك أن الملك في اجتماعهما المغلق، قد يكون أبدى نوعا من التحفظ على طرح ترامب، إلا أنه لم يجد أذنا صاغية، ولم يتنازل أو يعدل من اقتراحاته وتمسك بها في العلن فكيف في الاجتماعات المغلقة. وهذا ما قاله بعد الاجتماع بكل فظاظة: «سيكون هناك قطع من الأرض في الأردن ومصر يمكن أن يعيش فيها الفلسطينيون». ويبدو أن الرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، وصلته الرسالة بيّنة وقوية، في أن موضوع التهجير أمر محسوم، ولا يملك من أمره إلا التعاون، لذلك أجّل، ويقال ألغى، زيارته للبيت الأبيض التي كانت مقررة بعد أيام قليلة من زيارة العاهل الأردني. الجميع الآن ينتظر القمة العربية يوم 27 من الشهر الحالي حول هذا التطور الخطير. ويمكن للأمة العربية وأنظمة الحكم فيها أن تُفشِل هذا المخطط بشكل كامل على أن يتم اتخاذ الخطوات التالية:
– تصدر القمة موقفا قويا لا لبس فيه ولا مراوغة ولا ضبابية، بأن مشروع التهجير مرفوض جملة وتفصيلا، والهجرة المسموح بها فقط باتجاه واحد هو عودة هؤلاء إلى بيوتهم وأراضيهم في فلسطين التي سرقت منهم عام 1948؛
– أن تسمح هذه الأنظمة للجماهير العربية أن تعبر عن غضبها وأن تخرج إلى الشوارع بالملايين الهادرة التي ترفض التهجير والتطبيع والاعتراف بالكيان وتطالب بقطع العلاقات مع هذا الكيان
الفاشي؛
– أن تأخذ على عاتقها دعم الشعب الفلسطيني بكل مكوناته دون قبول الإملاءات من الخارج من هو مقبول ومن هو غير مقبول. الأمر متروك للشعب الفلسطيني ليختار ممثليه لعملية إعمار غزة بالتعاون مع الدول العربية دون تدخل من أحد.
– أن يتم الضغط على قيادة السلطة الفلسطينية التي أخذت مواقف مخزية وخطيرة ضد مصلحة الشعب الفلسطيني وقواه الحية المقاومة للعدوان والاحتلال، بهدف تشكيل قيادة وطنية موحدة تضم كل ممثلي الطيف الفلسطيني وقواه الأساسية، بعيدا عن المحاصصة والتشبث بفصائل لا وجود لها على الأرض.
– إطلاق طاقات الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية لمقاومة الاحتلال. فما يجري الآن من تدمير ممنهج لمخيمات الضفة الغربية هو نسخة مصغرة عما جرى في غزة سيتسع ويصبح أكثر خطورة ودموية إذا لم يتكاتف الشعب الفلسطيني بفئاته كافة للدفاع عن أرضه ومدنه وقراه ومخيماته وتحويل الطاقة العظيمة للشعب والفصائل ورجالات الأمن المكبلة باتفاقيات داس عليها العدو الصهيوني ألف مرة للانخراط في مقاومة الاحتلال.
نريد أن نسمع مرة واحدة من القمم العربية والإسلامية موقفا شريفا يؤيد الحق القانوني للشعب الفلسطيني، بمقاومة الاحتلال، حسب القانون الدولي بدل تجريم المقاومين واعتبارهم خارجين عن القانون، ولا نعرف أين هو القانون الذي خرجوا عليه إلا قوانين الاحتلال. إن لم تأخذ القمة العربية والقيادات الفلسطينية مثل هذه المواقف فانتظروا أياما قد تكون أصعب من الـ 471 يوما من حرب الإبادة التي عشنا تفاصيلها يوما بيوم.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب غزة الاحتلال الدول العربية المصري مصر الاردن غزة الاحتلال الدول العربية مقالات مقالات مقالات صحافة سياسة سياسة اقتصاد سياسة سياسة رياضة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة الولایات المتحدة الشعب الفلسطینی ملیون دولار
إقرأ أيضاً:
إدارة ترامب وتفكيك استقرار النظام العالمي القائم
منذ وصول ترامب إلى البيت الأبيض، والجدل كبيرٌ حول قراراته الصادمة على المستوى الداخلي وعلى مستوى العلاقات الدولية. لا شكَّ أن أمريكا مثلت ركيزةَ النظام العالمي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية، إذ تم ضبط منظومة القانون الدولي الحديث على موازنة صعود الولايات المتحدة الأمريكية وتراجع دور القارة الأوروبية، وبقيت الولايات المتحدة تقود المشهد الغربي، وتمثل طليعة المشروع الغربي في تقعيد وتوسيع مساحة ومظلة القانون الدولي؛ لتمثل منظومة قانونية تحتكم إليها الدول في علاقاتها مع بعضها البعض.
الشعار الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية "أمريكا أولا" لم تنعكس آثاره السلبية على الانقسام الداخلي الأمريكي فقط، بل انعكس على استقرار النظام العالمي القائم ومؤسسات القانون الدولي التي تناسلت من هيئة الأمم المتحدة في ضبط السلم والاستقرار العالمي.
(1) تفكيك مؤسسات القانون الدولي
كان لقرار ترامب في الانسحاب من اتفاقية باريس للمناخ (التي وقعت عليها 193 دولة من أجل منع زيادة درجات الحرارة على كوكب الأرض وتخصيص الأموال للدول النامية لمواجهة الآثار الناتجة عن التغير المناخي نتيجة انبعاث الغازات الدفيئة) أثر كبير على الدعم المالي المقدم لصندوق المناخ الأخضر والبالغ 3 مليارات دولار، كما أثر على الأوراق البحثية المتعلقة بالتغير المناخي، والتي تقدم أمريكا 50 في المئة منها، وبذلك يكون ترامب قد قوَّض أهم الاتفاقيات الدولية في المحافظة على المناخ العالمي والحد من التغيرات المناخية.
الشعار الذي رفعه ترامب في حملته الانتخابية "أمريكا أولا" لم تنعكس آثاره السلبية على الانقسام الداخلي الأمريكي فقط، بل انعكس على استقرار النظام العالمي القائم ومؤسسات القانون الدولي التي تناسلت من هيئة الأمم المتحدة في ضبط السلم والاستقرار العالمي
كما انسحب ترامب من منظمة الصحة العالمية، وهي المنظمة التي تأسست عام 1948، إذ تهدف إلى تحقيق أعلى مستوى من الرعاية الصحية وضمان المساواة في الحصول على الرعاية الصحية ومواجهة الأخطار الصحية التي تهدد سكان الأرض. يشكل انسحاب أمريكا من منظمة الصحة العالمية ضربة كبيرة لعمل المنظمة، إذ تنفق أمريكا ما يقارب 1.25 مليار دولار على المنظمة، وهو ما يمثل 18 في المئة من ميزانيتها، كما أن انسحاب الولايات المتحدة سوف يحرم المنظمة من الخبرات والكوادر التي كانت ترسلها إليها، كل ذلك سوف يسبب انتكاسة فيما حققته المنظمة من مكاسب في محاربة الأمراض الخطيرة مثل الملاريا والإيدز وغيرها.
كما انسحبت الولايات المتحدة من مجلس حقوق الإنسان الأممي، إذ يعد المجلس هيئة دولية تابعة لمنظمة الأمم المتحدة لتعزيز الاحترام العالمي لحقوق الإنسان وحمايتها في جميع أنحاء العالم. وقد بررت إدارة ترامب انسحابها من مجلس حقوق الإنسان بأن المجلس منحازٌ ضد إسرائيل، كما وصفت المندوبة الأمريكية في الأمم المتحدة المجلس بأنه "منظمة منافقة وأنانية وتستهزئ بحقوق الإنسان". كما وصف ترامب مجلس حقوق الإنسان بأنه ينتهج "الانحياز المعادي لإسرائيل وشن حملة ممنهجة ضدها".
كما يسعى ترامب حاليا إلى الانسحاب من منظمة اليونسكو، إذ تمثل اليونسكو أهم منظمةٍ تابعةٍ للأمم المتحدة معنية بالتربية والعلم والثقافة، وتسعى للنهوض بالتعليم الجيد والتعامل مع الذكاء الاصطناعي وصون التراث العالمي وضمان الوصول إلى المعلومة الموثوقة، إذ كانت الولايات المتحدة قد انسحبت من منظمة اليونسكو سابقا بحجة انحياز المنظمة ضد إسرائيل، إلا أنها عادت للمنظمة عام 2023 بعد أن قامت بدفع المستحقات المالية المتأخرة عليها والبالغة 619 مليون دولار على عدة سنوات، ومن المرجح أن يكون انسحاب الولايات المتحدة من المنظمة مؤكدا خلال الفترة المقبلة، إذ تعلن إدارة ترامب باستمرار عن رغبتها بذلك صراحة.
لم يقتصر دور إدارة الولايات المتحدة الأمريكية على الانسحاب من مؤسسات القانون والتعاون الدولي، بل إنها أصبحت تحارب أهم عنوانٍ من عناوين العدالة الدولية في ملاحقة جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية، إذ قامت إدارة ترامب في شباط/ فبراير من العام الحالي بفرض عقوبات على المحكمة الجنائية الدولية بعد أن أصدرت الأخيرة مذكرة اعتقال بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير الدفاع يؤاف غالانت، فلم تكتفِ الولايات المتحدة بالمواقف السلبية تجاه مؤسسات القانون الدولي، بل تطورت مواقفها السلبية إلى تقويض تلك المؤسسات ومناهضتها.
(2) تهديد وجود الدول وسيادتها
على الرغم من سعي الولايات المتحدة الأمريكية لاحتلال كندا أكثر من مرة وضمها إليها، إلا أن الولايات المتحدة خضعت في النهاية للأمر الواقع واعترفت بدولة كندا وأقامت معها علاقات سياسية وثيقة، ليعود الرئيس ترامب مجددا إلى الحديث عن سعيه لضم كندا إلى الولايات المتحدة، تلك الفكرة التي يرفضها غالبية الكنديين في استطلاعات الرأي.
وقد شكل تصريح الرئيس الأمريكي صدمة في العلاقات الدولية، إذ كيف يتم الحديث عن ضم كندا التي يساوي عدد سكانها 12 في المئة من سكان الولايات المتحدة، ومساحتها تزيد عن مساحة الولايات المتحدة، وتُعتبر ثاني أكبر دولة في العالم من حيث المساحة؟
كما صرَّح ترامب في كانون الأول/ ديسمبر الماضي برغبته في شراء جزيرة غرينلاند، وزعم أن بلاده تحتاج شراء الجزيرة من أجل الأمن القومي الأمريكي، ووصف سيطرته على الجزيرة بأنها "ضرورة قومية". ولم يستبعد فرض الوسائل العسكرية والاقتصادية من أجل إجبار الدنمارك على بيع الجزيرة لأمريكا، كما عمل فريق ترامب في مجلس النواب الأمريكي على إعداد قانون لشراء الجزيرة.
وتعد جزيرة غرينلاند أكبر جزيرة في العالم، يسكنها 56 ألف شخص، وتُعتبر من أكثر الجزر غنى بالمعادن النادرة، خاصة مع التغير المناخي وذوبان الثلوج، وهي جزيرة تتبع للدنمارك منذ مئات السنين وتخضع لحكم ذاتي. وقد أظهرت استطلاعات الرأي أن 85 في المئة من سكان غرينلاند يرفضون الانضمام إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
كان التصريح الأكثر صدمة في منطقة الشرق الأوسط ما صرَّح به ترامب من رغبته في الاستيلاء على غزة التي دمرها الكيان الصهيوني وتهجير سكانها البالغ عددهم 2.2 مليون، من أجل تحويلها إلى مدينة سياحية لتكون "ريفييرا الشرق الأوسط"، في إشارة إلى المنطقة الساحلية الواقعة جنوب شرق فرنسا على سواحل البحر الأبيض المتوسط والتي تكثر فيها المنتجعات السياحية. هذه التصريحات أثارت توترا سياسيا في منطقة الشرق الأوسط، وأنعشت آمال اليمين الإسرائيلي في التخلص من الكتلة الديمغرافية في الأراضي الفلسطينية المحتلة والقضاء على فكرة إقامة الدولة الفلسطينية.
قدوم ترامب وإدارة أكبر دولة بهذه الصورة كشركة ربحية واستثمار يحقق الثراء السريع، صغَّر كثيرا من دورها العالمي، وجعل منها حالة سياسية غير ثابتة ستخلط كل أوراق الاستقرار النسبي الذي شهدته دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية
وتكرر الأمر نفسه في تصريحات ترامب حول الاستيلاء على قناة بنما، مما دفع بنما لتقديم شكوى ضد أمريكا أمام الأمم المتحدة، لمخالفتها أحكام نظام الأمم المتحدة التي تنص على عدم جواز استخدام القوة ضد دولة أخرى والمساس بسيادتها.
(3) خذلان حلفاء أمريكا
بعد الحرب العالمية الثانية، تزعمت الولايات المتحدة قيادة حلف شمال الأطلسي (الناتو) كقوة عسكرية تحافظ على أمن المشروع الغربي ومصالحه وتفعِّل مبدأ الدفاع المشترك بين الدول الأعضاء، وبقيت الولايات المتحدة القائد والمتزعم لهذا الحلف، حتى جاء ترامب الذي يسعى للتخلي عنه منذ فترة ولايته الأولى، وهو يكرر فكرة أن أعضاء الناتو "إذا لم يدفعوا، فلن ندافع عنهم". كما ذكر أنه ليس متأكدا من أن الدول الأعضاء يمكن أن تدافع عن أمريكا إذا ما تعرضت لأي هجوم، وهدَّد بالانسحاب إذا لم تنفق 2 في المئة من ناتجها المحلي الإجمالي على التسلح.
وفي الوقت الذي كانت الولايات المتحدة هي المحرض والداعم الرئيسي لأوكرانيا في تحركها باتجاه أوروبا وحربها مع روسيا، شاهد العالم بصدمة كيف تعامل ترامب مع الرئيس الأوكراني وحاول فرض اتفاقية عليه بخصوص المعادن في أوكرانيا دون أن يقدم لها مقابلا لحفظ أمنها. مثل هذا التصرف أفقد أمريكا المصداقية والثقة في نفوس الحلفاء، ولم تعد في ذات المكانة كحليف موثوق يمكن الاعتماد عليه في الصراع والتدافع العالمي، مما أثار كثيرا من القلق في الحالة التايوانية في توجهها نحو الغرب وإعادة رسم ملامح علاقتها مع الصين.
حتى في الشرق الأوسط بدأت ملامح التخلي عن أقرب الحلفاء واضحة باستثناء إسرائيل، إذ تم إيقاف المساعدات المالية عن الأردن والتي تقدر بـ1.7 مليار دولار سنويا، ومارس ضغطا على الأردن ومصر من أجل استقبال اللاجئين من غزة، كما رفض الخطة العربية بخصوص إعادة إعمار غزة وإنهاء الحرب، مما يضع المنطقة العربية كلها على فوهة بركان ويهدد استقرار بعض الأنظمة الحليفة له.
ولم ينتهِ الأمر عند ذلك تجاه الحلفاء، بل ذهب إلى فرض ضرائب على معظم الدول الحليفة للولايات المتحدة الأمريكية، مما دفع اليابان وكوريا الجنوبية -أقرب حلفاء أمريكا- للذهاب إلى الصين للقيام بردٍّ مشتركٍ على رسوم ترامب الأخيرة.
قدوم ترامب وإدارة أكبر دولة بهذه الصورة كشركة ربحية واستثمار يحقق الثراء السريع، صغَّر كثيرا من دورها العالمي، وجعل منها حالة سياسية غير ثابتة ستخلط كل أوراق الاستقرار النسبي الذي شهدته دول العالم بعد الحرب العالمية الثانية.