ذات ليلة كان الملك فاروق ملك مصر والسودان مدعوًا إلى حفل غنائي بهيج ولكنه حين حضر إلى الحفل صُدم الحاضرون من حالة الملك فقد كان عابس الوجه ضائق الصدر وحين بدأ الحفل أخذت المطربة الشهرية تصدح بصوت عذب واصفة حبيبها بأنه جاء إليها يمشى سعيدًا فرحًا كأنه ملك.
استمع الملك إلى كلماتها فشَرد ذهنه لبُرهة يتأمل معانيها ثم عبس وجهه وزاد ضيقه وتحدث إلى من جواره قائلًا: لماذا يظن الناس أن الملك لا بد أن يكون سعيدًا فرحًا دائمًا؟! أوليس هو بشرًا أولًا وأخيرًا وأنه يعيش في الحياة الدنيا وبالتالي فهو يسعد ويحزن مثل غيره من بنى البشر وهو كذلك له نصيبه من الأتراح كما له حظه من الأفراح فلا سعادة كاملة ولا راحة دائمة في الحياة الدنيا حتى ولو كنت مالكًا من ملوكها.
نعم لقد أصاب الملك كبد الحقيقة بهذه الكلمات فالحياة الدنيا ناقصة لا كمال لها ولذلك نُعِتت بالدنيا ولكن أين هي العليا إذن؟ إن الحياة العليا -إن جازت التسمية- هي مختلفة كل الاختلاف مختلفة شكلًا ومضمونًا وإجمالًا وتفصيلًا وإني لأدعوك أخي الكريم لتشاركني لحظات من التأمل في هذه الحياة لنقارن بنذر يسير بينها وبين الحياة الدنيا فهيا معي.
1) السعادة: في الحياة الدنيا السعادة لا تدوم فإنها إن مكثت برهة من الزمن تغيب أزمانًا وغالبًا الأحزان والمنغصات تفوق المسرات، فالهَمٌّ أشكال وألوان وكلٌ لديه ما يبكيه وها هو عملاق الأدب عباس العقاد يصف أحوال الناس في الدنيا قائلًا:
ورب المال في تعبٍ
وفي تعبٍ من افتقرا
وذو الأولاد مهموم
وطالبهم قد انفطرا
ويشقى المرء منهزما
ولا يرتاح منتصرا
أما الحياة التي نقصدها فلا نَصَب ولا شقاء فيها بل سعادة دائمة بلا زوال أو انقطاع بل هناك ما هو أكثر من السعادة وهو رضوان الله عز وجل الذي يحل بأهل هذه الحياة فتبلغ السعادة مداها ويبلغ السرور منتهاه.
2) الطعام: الطعام الطيب في الحياة الدنيا كثير إلا أن الإنسان له حدود فيما يمكن أن يتناوله من الطعام وذلك على قدر استيعاب معدته وكذلك على قدرته المالية للشراء، ولكي ينعم الإنسان بطعامه يجب أن يمر الطعام على جسده وصحته مرورًا حميدًا وأخيرًا هو يحتاج إلى الذهاب إلى الغائط للتخلص من فضلات هذا الطعام مهما كان هذا الطعام طيبًا شهيًا! أما في الحياة التي نقصدها فأطايب الطعام لا حصر لها ولا حدود والكمية التي يمكن أن يتناولها الإنسان أيضًا لا حدود لها كما أنه لن يحتاج إلى أن يذهب إلى الغائط فليس هناك فضلات ولكن فقط ينضح جسده برائحة المسك! (تستحق التأمل).
3) الشراب: الماء واللبن والخمر والعسل كلها مشروبات نحتسيها في الحياة الدنيا ولكن قد يكون الماء غير عذب وقد يفسد اللبن ويتغير طعمه والخمر حُرِم علينا في الدنيا والعسل قد يكون غير صافٍ، أما في الحياة التي نقصدها فهذه المشروبات تجرى في أنهار وبكميات لا حدود لها والماء عذب هنيئًا للشاربين واللبن سائغ لم يتغير طعمه والعسل مصفى والخمر لذة للشاربين فهو ليس متاحًا وحلالًا فقط ولكنه لذيذ الطعم على عكس خمر الحياة الدنيا الذي يكون غالبًا طعمه كدرًا يغبه الشارب غبًا بلا تذوق حتى يتجنب سوء طعمه ولكنه يشربه فقط من أجل أثره في تغييب العقل.
4) المَلبس: قطن أو كتان أو صوف وغيرها من المنسوجات هي ملبسنا في الحياة الدنيا ومهما طال عمرها فهي تبلى ويخبو زهوها وكذلك مهما بلغت زينتها فهي محدودة مؤقتة أما الحياة التي نقصدها فالملبوسات خضرٌ من سندس وإستبرق محلاة بالياقوت واللؤلؤ والمرجان، تُرى كيف سنبدو في هذه الملابس؟
5) متعة الجسد: في الحياة الدنيا يحل للمسلم أربع زوجات فقط وحتى إن كان غير ملتزم بمنهج الله ويقع في كبيرة الزنا والعياذ بالله فإنه محدود أيضًا بقدراته الجسدية كما أنه ليست كل نساء الدنيا جميلات أما في الحياة التي نقصدها فالمتعة لا نهاية لها والصحة موفورة والجمال بلا حدود فهن حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون دائمًا أبكارًا عربًا أترابًا لا حصر لعددهن.
6) الملل والسأم: من غرائب صفات الحياة الدنيا أن الإنسان كلما أفرط في تلبية رغباته الحسية زاد مَلله وفاض سأَمه وملأ الضجر حياته فيكرهها بكل ما فيها وتصغر في عينيه ويشعر بدونيتها وحقارتها أما في الحياة التي نقصدها فلا سأم فيها ولا ملل فأهلها لا ينزفون أي لا يسأمون فالمتع يتبعها متع أكبر وألذ دون رتابة أو ملل فالنفس طيبة والرضوان يملأ الجنبات.
7) النهاية: مهما عشت في الحياة الدنيا فإنك ميت لا محالة ومفارق هذه الدنيا ونعيمها فالموت كأسٌ كل الناس شاربه طال العمر أو قصر فالنهاية قادمة بلا أدنى شك، أما في الحياة التي نقصدها فالموت قد مات حيث يؤتى به في صورة كبش فيذبح إعلانًا عن الخلود الدائم فلا موت ولا فراق أنت إذن منعمٌ خالدٌ في النعيم فهو لن يتركك ولن تتركه فالله أكبر، قد مات الموت والحمد لله قد قُتل السأم.
8) الثمن: في الحياة الدنيا كل شيء له ثمن فلكي تحظى بأي متعة لا بد أن تكون جاهزًا للدفع من كدك وشقائك وقد يكد الإنسان ويشقى ولا يحصل على متع الدنيا وقد يسعى ويشقى لسنوات حتى ينال طيب العيش وفي أغلب الأحيان يفوق الثمن المدفوع المنفعة المتحصلة أما الحياة التي نقصدها فللمتعة والنعيم فيها ثمنٌ أيضًا ولكن المنفعة المتحصلة أعلى بمراحل لا نهائية ولا تقارن بالثمن وهذا الثمن يدفع في الحياة الدنيا فقط وهو بضع عقود تحياها تمشى فيها على السراط المستقيم فتحظى بالنعيم الأبدي فضلًا عن حياة طيبة تحياها في الحياة الدنيا أيضا.
تلك إذن كانت بعض تفاصيل هذه الحياة فهل راقت لك هذه الحياة؟ أما ماذا أنت فاعلٌ بنفسك؟!
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: فی الحیاة الدنیا هذه الحیاة لا حدود
إقرأ أيضاً: