لجريدة عمان:
2025-05-03@04:42:26 GMT

معنى أن تترك أثرا

تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT

معنى أن تترك أثرا

الحياة الدنيا هي مزرعة للآخرة، فما تزرعه اليوم من خير أو شر تحصده في دار الحساب والثواب، والإنسان جعله الله خليفته في هذه الأرض، وسخر له كل الخلق، وطلب منه أن يعمل لدنياه وآخرته، فقال الرسول صلى الله عليه وسلم، اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا" ولكن أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قل، وليس أجمل من أن تكون الأعمال مستمرة ومثمرة حتى بعد رحيل صاحبها، فهذا هو الأثر الذي ذكره الله عز وجل في كتابه العزيز حينما قال: "إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ" فالله تعالى عز وجل يتحدث عن يوم الحساب وكيف أنه كتب ما قدموا من أعمال سواء كانت خيرا أو شر، وما تركوه من هذه الأعمال من بعد وفاتهم وهي ما عبر عنه المولى عز وجل ب"آثارهم".

ولوأتينا إلى الأعمال التي تبقى مستمرة بعد وفاة الإنسان، ويصله ثوابها حتى وهو في قبره فإنها تنحصر في أمور ثلاثة لخصها لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث الشريف: "إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له" فأول هذه الأمور هي الصدقة الجارية، وتسمى الوقف، ويعرفه الفقهاء بأنه حبس الأصل وتسبيل المنفعة، فالواقف يحبس الأصل سواء كان هذا الأصل عقارا أو مزرعة أو أرضا أو أي ملك تتوفر له صفة الأصل، ويسبل فائدتها أو منفعتها إلى من أوقف عليهم هذا الأصل، فلك أن تتخيل الأجر والثواب الذي يصل الواقف وهو قد انقطع عمله، وبقي أثره الطيب في ذلك الوقف، ولو تأملنا المزارع والأوقاف وما تحتويها من أشجار وثمار تدر على صاحبها أجرا عظيما متصلا، فكل نخلة من غراسه، يأكل منها الطير عندما يقع عليها، ومن ثم يأكل الإنسان رطبها وتمرها، ويخزنه، كما أن بعض هذا التمر الذي يكون غير صالح للاستخدام البشري، وإنما يكون غذاء للحيوانات فكل ذلك فيه أجر لصاحبها، فكرم الله عظيم، وهذا مصداق للحديث الشريف الذي يقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم فيه: " ما من رجل يزرع زرعا أو يغرس غرسا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة.

وبعض الناس يوقف أرضا لوجوه الخير والبر، فيتم استثمارها وتعميرها ويكون عائدها يخدم شريحة كبيرة من أفراد المجتمع فتبقى هذه الأرض ما بقية السماوات والأرض تدر على صاحبها الأجر والثواب.

وهناك شكل آخر من أشكال الأثر الذي يتركه صاحبه بعد وفاته، ويتصل أجره به، وهو العلم النافع الذي يتركه العالم أو طالب العلم، ويحصل به النفع، والأمثلة على ذلك كثيرة ووفيرة، حتى على المستوى المحلي، فلو نظرنا إلى العلماء الأجلاء المخلصين الذين لا تزال مجالس العلم تحيي ذكرهم بكتبهم ونتاجاتهم المعرفية، وتتشوق النفوس إلى الاطلاع على آثارهم الفكرية في مجتمعهم، فلو نظرنا إلى نتاجات الشيخ نور الدين السالمي وأثرها في الوسط التعليمي لوجدنا أنها عظيمة وجليلة ورائدة ولا يزال طلاب العلم وباحثو المعرفة والفكر والتاريخ ينهلون من معينها، على مختلف مستوياتهم العلمية والمعرفية، وأبسط مثال على ذلك تجد ان الكتاب التعليمي الذي يحمل عنوان "تلقين الصبيان ما يلزم الإنسان" هذا الكتاب على الرغم من صغر حجمه، وبساطة منهجه ومحتواه، إلا أن أثره عظيم ممتد متصل، ويرجع إليه الصغار والكبار في معرفة ما يلزم على الغنسان معرفته في الجانب التعبدي، ولو أتينا إلى أثره في الجانب التاريخي لوجدنا أو كتابه " تحفة الأعيان بسيرة أهل عمان" يعد من أهم المصادر التاريخية العمانية التي وثقة لمراحل مختلفة من التاريخ العماني، وكذلك بقية كتبه ومنظوماته الفقهية، فأثره مبارك وعظيم. ومثله كثير من علماء الأمة الذين خلفوا صنوفا مختلفة من المعرفة العلمية والدينية والإنسانية التي انتفعت بها البشرية.

ومن أشكال الأثر هو غرس الصلاح في الأبناء من خلال تربيتهم التربية الصالحة القائمة على مراقبة الله عز وجل، والقيام بأوامره، واجتناب نواهيه، وجعل هؤلاء الأبناء لبنة صالحة من لبنات المجتمع، وتنشئتهم التنشئة الحميدة، وجعلهم فاعلين ونافعين لأنفسهم وأهلهم ومجتمعها ووطنهم وأمتهم، فيكون نتيجة لهذه التنشئة الصالحة أنهم لم ينسو ما قام به والداهم تجاههم، فهم يدعون لهم ويقدمون القربات لله عز وجل لكي ينالوا بها الأجل والثواب الجزيل، فكان أن ذلك الدعاء الذي يدعو به الولد الصالح لأبيه يصل أجره إليه بعد وفاته.

فعلى المسلم أن يترك أثرا جميلا طيبا في حياته وبعد مماته، وأن يسعى في كل سنة حميدة، وكل خصلة من خصال الخير يحييها ويأمر بها فيكون له أجرها وأجر من عمل بها من بعده، وأن يكون شديد الحذر من أن يترك أثرا من بعده يحمل وزره ووزر من عمل به من بعده إلى يوم القيامة، وما أكثر أعمال الشر والسوء في هذا الزمن الذي تموج فيه الفتن، فيقوم بها صاحبها ويترك أثرا له فيها فتصيل عليه وبالا ونكالا، ويحتمل وزرها حتى وإن رحل عن هذه الدنيا.

ففي هذا العصر الذي انتشرت فيه التقنية، قد يصمم البعض مقطع صوت أو صورة أو مقطعا مرئيا، ويضع فيه ما لا يرضي الله عز وجل، ومما يجلب سخطه وغضبه، ويقوم هو بنشره في وسائل التواصل الاجتماعي ولا يلقي له بالا إلى أنه يتم تداوله على نظاق واسع، ويتم تخزينه في تلك الوسائل، فيقع عليه ذنبه وذنب من شاهد ورسل ذلك الأمر، وهذا يقع كثيرا، فيجب على المسلم أن يميت الباطل بالسكوت عنه وعدم تداوله، لكي لا يحتمل وزره ووزر غيره، فالرسول صلى الله عليه وسلم يقول: " من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أجورهم شيئا، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده لا ينقص ذلك من أوزارهم شيئا".

ويقول الإمام الشافعي في الأثر الذي يتركه الكاتب في أشعار الحكمة التي اشتهر بها:

وما من كاتِب ِإلا سيفنى

ويبقى الدهرُ ما كتبت يداه

فلا تكتـُب بكفِك غيرَ شيء

يسرُك َفي القيامة ِان تراه

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: صلى الله علیه وسلم من عمل من بعده من بعد عز وجل

إقرأ أيضاً:

الدُّب … الذي بكته السماء !

مناظير الخميس 1 مايو، 2025

زهير السراج

manazzeer@yahoo.com

* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.

* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.

* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.

* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.

* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.

* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.

* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.

* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.

* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.

   

مقالات مشابهة

  • يسرى نصر الله: الفنان الذي لا يستطيع مواكبة الذكاء الاصطناعي مقصر
  • فضل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة
  • معنى سيئ الأسقام وحكم التعوذ منها .. فيديو
  • السيد القائد يؤكد الوقوف إلى جانب حزب الله في أي تصعيد عدواني شامل يقدم عليه العدو الإسرائيلي
  • دفع الله الحاج.. او الرجل الذي يبحث عنه البرهان ..!!
  • من أنوار الصلاة والسلام على سيدنا محمّد صلى الله عليه وسلّم
  • دعاء لمن تعسر عليه الرزق .. احرص عليه يرزقك الله من حيث لا تحتسب
  • الدُّب … الذي بكته السماء !
  • دعاء تسهيل الأمور الصعبة وقضاء الحاجة.. احرص عليه في جوف الليل
  • حقيقة أم أسطورة.. هل يترك طعام الوحم أثرا على جسم الطفل؟