(هنا ام درمان) وإخواتها.. على أثير أغصان الزيتون أو البندقية
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
منتدى الإعلام السوداني: غرفة التحرير المشتركة
المصدر: صحيفة مداميك
تقرير: سمية المطبعجي
الخرطوم: 13 فبراير 2025 – (هنا أم درمان) صوت الوعي وتشكيل الوجدان السوداني، صوتها، الإذاعة السودانية، المنبر الإعلامي الأول الذي لعب دوراً محوريًا في السودان خلال مرحلة الكفاح الوطني ضد الاستعمار. حيث بثت العديد من البرامج الثقافية والسياسية التي أسهمت في نشر الوعي الوطني وتعزيز الحركة الوطنية ودعم المطالب السودانية نحو الاستقلال حينها، ثم معين الأدب والفن والثقافة في تلك الفترة أيضا وما بعدها في فترات لاحقة للعديد من المجتمعات داخل السودان.
نستدعي ذكرها وتاريخها المجيد والعالم يحتفل اليوم الذي يصادف الثالث عشر من فبراير باليوم العالمي للإذاعة، ويأتي هذا العام تحت شعار (الإذاعة وتغير المناخ)، بهدف تسليط الضوء على دور الإذاعة في نشر الوعي حول قضايا تغير المناخ وتعزيز الحوار المجتمعي حول الحلول المستدامة. فيما السودان منشغلاً بحرب تهدد وجوده وتغطي بالفعل على قضية المناخ الحيوية أيضا.
هنا (ميدان الإرسالية) صوت المستعمرإنطلق صوت الإذاعة السودانية من ميدان الأرسالية بالخرطوم، بالقرب من موقع جامعة الخرطوم بشارع النيل في الثاني من مايو 1940. الخبير الإعلامي وزير الإعلام الأسبق بروفيسور على محمد شمو تحدث ل (مداميك) : ” .. الإذاعة السودانية نشأت بعد 19 سنة فقط من نشأة أول إذاعة في العالم على نظام دولي في 15 أكتوبر 1920 ، وهي إذاعة KDKA في فلادلفيا بالولايات المتحدة ..” . نشأت في فترة الاستعمار البريطاني بغرض خدمة أهدافه إبان الحرب العالمية الثانية وكانت تمول من وزارة الخارجية البريطانية . وكان البث يقتصر على ساعتين يوميًا لنقل الأخبار والتوجيهات إلى المواطنين، ببث الأخبار الرسمية والبيانات الحكومية التي تهدف لدعم المجهود الحربي في ونشر الدعاية البريطانية ضد دول المحور ، والسيطرة على تدفق المعلومات والتوجيه الإعلامي ومنع انتشار الأفكار الوطنية التي قد تدعو للاستقلال، وتوجيه المجتمع السوداني وفق سياسة المستعمر ومنع تأثير الإذاعات الأخرى.
(هنا ام درمان)(هنا أم درمان) إسم إختلف معه الزمان والمكان مبنى ومعنى عقب إنتقال الإذاعة السودانية إلى مدينة أم درمان العاصمة الوطنية في العام 1945، لتلعب دوراً ريادياً وتصبح رمزًا للإعلام الوطني الذي يعكس الهوية السودانية ويعبر عن صوت الحركة الوطنية. فبدأت الإذاعة السودانية في الانفكاك من الأهداف الاستعمارية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية ، وتحديدًا بعد عام 1951 عندما بدأ ظهور الوعي الوطني في التنامي نتيجة لتطور الحركات السياسية والمطالبة بالاستقلال، التي كانت تحظى بدعم شعبي كبير. فكانت الإذاعة السودانية إحدى الأدوات الرئيسية التي استخدمتها الحركة الوطنية لدعم تلك المطالب. فقامت بتغطية الأنشطة السياسية للحركات السودانية ودعوات الوحدة مع الجنوب والاهتمام بابراز الهوية الوطنية فكانت الوسيلة الرئيسية لبث الأنباء الخاصة بالاستقلال، ما زاد من شعبيتها وتأييدها بين الناس. فكانت برامج “صوت الأمة”، “الحركة الوطنية” ، “الآراء الحرة” ، “شباب السودان” و “دور الفن في المقاومة” الذي كان يُبث في إطار تعزيز الوعي الوطني من خلال التراث الثقافي والفن كأدوات مقاومة ضد الاستعمار وناقش أغاني الكفاح ضد المستعمر، التي ساعدت في رفع الروح المعنوية للمواطنين وتوحيدهم حول قضية الاستقلال .
تتشكل الإذاعات بتشكل الأنظمةبوجه عام ظلت الإذاعة القومية والإذاعات التي نشأت بعدها متأثرة بشكل مباشر بالأنظمة السياسية الحاكمة، فكانت بين التطور النسبي وبين الحد من الحرية والتأثير. فعلى الرغم من تقديمها لمحتوى ثقافي وتعليمي محدود وعدم تعبيرها عن تطلعات الشعب السوداني في فترة الاستعمار، إلا أنها ساهمت في تعزيز الوعي السياسي بين السودانيين. اما فترة الحكم الوطني الأول عقب الاستقلال فقد أصبحت الإذاعة القومية منصة وطنية لتعزيز الاستقلال والأجندة الوطنية، وتوسع البث ليشمل لغات محلية متعددة واتسعت مساحة المحتوى الثقافي والادبي والموسيقي. وفي العهد العسكري الأول تحت نظام إبراهيم عبود (1958- 1964) رغم تحديث البنية التحتية وزيادة ساعات البث، إلا انها تعرضت لقيود صارمة فيما يتعلق بحرية التعبير وأصبحت أداة لنشر سياسات النظام . وفي فترة الديمقراطية الثانية (1964- 1969) والثالثة (1985- 1989) شهدت إنفتاحاً وتنوعاً للبرامج السياسية والاجتماعية وتميزت بحرية التعبير ، ولكن ضعف التمويل أثر على قدرتها على التوسع والتطور التقني. وكانت في عهد الرئيس نميري أداة لنشر فكر النظام والترويج لحزبه الواحد (الاتحاد الاشتراكي السوداني)، ومع ذلك شهد اطلاق اذاعات إقليمية . كذلك كان الحال في عهد النقاذ (1989- 2019).
الخبير الإعلامي وزير الإعلام الأسبق بروفيسور على شمو قال لـ(مداميك) : ” .. كان الراديو دوماً محتكرأ من قبل الدولة ولكن حدثت ضغوط عالمية لإنهاء ذلك الاحتكار ، وفي العام 2005 شكلت الحكومة السودانية لجنة لذلك برئاستي مع الدكتور الراحل الطيب حاج عطية واخرين .. اللجنة أوصت برفع الاحتكار وتكوين إذاعات حرة فظهرت إذاعات FM مملوكة لشركات وأفراد ومؤسسات بلغ عددها لأكثر من 40 إذاعة ولم يكن لهيئة البث القدرة على مراقبة المحتوى…”.
على الرغم من أنشاء الإذاعات المتخصصة والولائية وانتشار محطات FM ، التي انتشرت بالعشرات في العاصمة والولايات ، وظهور اذاعات متخصصة اتاحت الوصول المحلي السريع فاضحت اكثر قربا من الجماهير والتفاعل معهم ومع قضاياهم باللهجات المحلية ومساهمتها في ابراز مواهب شابة، مع ذلك اشارت بعض التقييمات الي ان تلك الإذاعات في غالبها لم تستغل بالصورة المثلى في تناول القضايا الجادة والتحقيقات والبرامج التحليلية المتعمقة . وظل ضعف التمويل دوما العقبة الكؤود الذي يعيق مسيرة تطورها، فضلا عن التدخلات السياسية التي تحد من حرية التعبير . بروف شمو قال حول ذلك : ” .. على الرغم من التصديق للإذاعات الخاصة ولكنها كانت محكومة بعدم إدخال المحتوى السياسي في المحتوى ، ولكن المواضيع لم تكن ذات قيمة بمستوى متدني .. وتمول تجارياً عبر الإعلانات بواسطة ملاكها ..”.
ارتبطت الإذاعة منذ حقبة الخمسينات والستينات بالجمهور والتفاعل معه عبر رسائل البريد، فكانت تلك البرامج اكثرها نجاحا وارتباطاً وجدانياً بالمستمعين، فاسهمت في تطوير الأغنية السودانية وتنظيم ونقل الحفلات الحية . كما إهتمت بقضايا الاسرة والناس ومشاكلهم الاجتماعية والشخصية فكان براامج مع (الناس) و (مشكلة الأسبوع) و(زاوية المستمعين) . وواكبت الإذاعة السودانية (هنا ام درمان) التقنية الرقمية منذ بداية الألفية واستفادت من البرمجيات الحديثة في التشغيل والإنتاج فمكنت الجمهور من الاستماع اليها في جميع بقاع العالم، عبر الهواتف المحمولة وأجهزة ال MP3 واصبح لها مواقع الكترونية خاصة . ومؤخراً أحدثت التطورات الرقمية في البث الرقمي و وسائل التواصل الاجتماعي تحولات كبيرة في الإعلام السوداني، بما في ذلك الإذاعات. ووفرت وسائل التواصل الاجتماعي منصات مثلت فرصًا للإذاعات للنشر والتفاعل المباشر مع الجمهور، وانتشرت إذاعات تبث من الخارج مستهدفة مناقشة وعكس قضايا تهم الناس بمحتوى متنوع متعمق التحليلات في استقلالية تامة. فلم يعد احتكار المعلومة والتحكم في نشرها مجدياً، ومع ذلك ظلت معظم الإذاعات السودانية تحت إمرة السلطات ولم تستطع التكيف مع مجريات التقدم التكنولوجي ليمضي جمهورها في التساقط خاصة من شريحة الشباب . وقد وفر البث عبر الانترنت وإتاحة التطبيقات مثل بودكاست وتيك توك وصفحات الفيسبوك، منصات رقمية لصناعة محتوى اكثر جاذبية نافس بعضها تلك الإذاعات .
بين أبواق الدعاية والخروج عن الخدمةشكلت الحرب الدائرة في السودان منذ ابريل 2023 نتائج كارثية على وسائل الإعلام السودانية وأدت الى تراجع دورها في المجتمع، حيث تم استهدافها وخرج معظمها عن الخدمة . وتعرضت الإذاعة السودانية للاقتحام والسيطرة من قبل قوات الدعم السريع وتوقفت عن البث تماماً لفترة طويلة. وأدى كذلك انقطاع التيار الكهربائي وشبكات الاتصالات الى انقطاع البث الإذاعي في أجزاء واسعة من البلاد التي تعرضت محطات البث فيها الى التخريب والتدمير . الإذاعة القومية التي استطاعت البث من خارج الخرطوم وغيرها من الإذاعات الولائية والخاصة ، أصبحت منصات دعائية لأطراف النزاع لتصبح الإذاعات المحلية بشكل خاص أداة من أدوات الصراع، مما افقدها المصداقية لدى الجمهور الذي فضل اللجؤ الى منصات التواصل الاجتماعي، مثل البث الحي على الصفحات الخاصة والمحطات الاذاعية عبر الانترنت وسيلة لجأ إليها العديد من الإعلاميين والناشطين، كمصادر بديلة، والتي لم تخل معظمها من استغلالها في الابتزاز السياسي، الأمر الذي يضع أمر المصداقية على المحك في ظل الصراع الماثل .
تجارب على أثير السلام والبندقيةولا يذكر دور الإذاعات في تأجيج الصراعات وتحقيق وبناء السلام، إلا وتذكر التجربة الرواندية في الحرب الأهلية عام 1994 والتي استخدمت فيها إذاعة (ميل كولين) كأداة للتحريض والعنف ضد أقلية التوتسي، بتوظيفها في إثارة الكراهية وتوجيه دعوات صريحة لإبادة التوتسي ، لتتسبب في إبادة جماعية وصفت بأنها الأفظع في التاريخ حتى ذلك الوقت. وحوكم الإعلاميين المسؤلين عن تلك الإذاعة بتهمة التحريض على الإبادة الجماعية. كذلك تسببت الإذاعات القومية في حرب يوغسلافيا السابقة في نشر أخبار ملفقة وكاذبة أدت الى حرب أهلية دامية .
وفي المقابل كان لراديو (الحقيقة والمصالحة) بعد إنتهاء الحرب في سيراليون دوراً أساسياً في نشر رسائل السلام والتسامح، بتقديمه برامج حوارية بين الضحايا والمقاتلين السابقين وتسليط الضؤ على القصص الإنسانية حول المصالحة، مما ساعد على إبراء الجراح وبناء الثقة داخل المجتمع ونزع فتيل التوترات.
وفي كولمبيا استخدمت الإذاعات المحلية والدولية أثناء مفاوضات السلام بين الحكومة والمتمردين من جماعة FARC ، لنشر رسائل تدعو المقاتلين لالقاء السلاح والانضمام للمجتمع ، ونشر قصص الناجين من الحرب والتوعية بأهمية السلام وإعادة الإندماج ، لتساعد في تحقيق سلام بعد صراع دام أكثر من 50 عاماً.
الإذاعة ، الوسيلة الإعلامية الأكثر تأثيرا في السودان حتى الآن رغم انتشار وتوسع الاعلام البديل، إذ توفر تغطية واسعة للمناطق والمجتمعات الريفية في المناطق النائية في ظل ضعف البنية التحتية للاتصالات والتوترات السياسية والأمنية والصراعات في معظم تلك المناطق، تظل سلاحاً ذو حدين يجب توظيفه بحكمة ومسؤولية.
SilenceKills #الصمت_يقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضع_في_السودان_لايحتمل_التأجيل #StandWithSudan #ساندوا_السودان #SudanMediaForum
الوسومالاستقلال الخرطوم السودان المستعمر اليوم العالمي للإذاعة منتدى الإعلام السوداني هنا أمدرمانالمصدر: صحيفة التغيير السودانية
كلمات دلالية: الاستقلال الخرطوم السودان المستعمر اليوم العالمي للإذاعة منتدى الإعلام السوداني هنا أمدرمان الإذاعة السودانیة الإعلام السودانی الحرکة الوطنیة فی السودان فی نشر
إقرأ أيضاً:
الذاكرة السودانية: أحمد عبد الرحمن .. شتلة محنة مثال
أحمد عبد الرحمن .. شتلة محنة مثال
محمد الشيخ حسين
ارتبط الراحل أحمد عبد الرحمن محمد بحركة الإسلام السياسي في السودان منذ كانت جنيناً لم ير النور أو أملاً يلوح في الأفق، حين طلب طلاب سودانيون في مصر من مؤسس جماعة الاخوان المسلمين الإمام حسن البنا فى العام 1943، نشر الفكرة في السودان.
وبالفعل بعث البنا وفداً من جماعته إلى السودان برئاسة الطالب السودانى جمال الدين السنهوري، بهدف دراسة الوضع وفق تصور فحواه أن (جماعة الإخوان المسلمين أول دعوة تجديدية شاملة في التاريخ المعاصر). ومنذ ذلك الوقت وحتى لحظة انتقال روحه الطاهرة إلى باريها في القاهرة في اليوم العاشر من شهر فبراير 2025، ظل أحمد عبد الرحمن وفياً للفكرة التي آمن بها وللحركة التي ارتبط بها وللمبادئ التي عمل من أجلها.
بربر الخلوة
تقع مدينة بربر على ضفة نهر النيل الشرقية، وهي مدينة قديمة جداً، يعود تاريخها إلي العصر المروي. وكانت في عهد السلطنة الزرقاء معبراً لقوافل الحجيج من وإلى الأراضي المقدسة بالحجاز. واشتهرت حسب شهادة الرحالة السويسري يوهان بوركهارت الذي زارها عام 1813 بكثرة الخلاوي، حيث كان الكثير من الأسر في بربر يرسلون أبناءهم إليها لحفظ القرآن الكريم وتلقي دروس الفقه. وقد عرفت بربر نهضة تعليمية منذ القرن السادس عشر الميلادي، وكانت مقصد طلبة العلم من مختلف أرجاء السودان.
وينتمي إليها عدد كبير من علماء ومشاهير أهل السودان الذين ولدوا في بربر المدينة وشغلوا مناصب ومراكز متقدمة في الدولة والمجتمع، كان من بينهم أحمد عبد الرحمن.
عندما نرحل مع أحمد عبد الرحمن محمد إلى أقصى نقطة في الذاكرة، نعلم أنه ولد في بربر في العام 1933، من والد ينتمي إلى العبابدة من آل غندور الذين يقيمون في كوم أمبو في صعيد مصر، لكن الطقس السياسي الذي عاش فيه والده عبد الرحمن محمد أجبره على إخفاء هذا الجانب من النسب.
أما والدته سعدية محمد إبراهيم موسى، فهي من أسرة عريقة جدا من الركابية، وتنحدر من آل موسى الذين جاء ذكرهم في قصيدة التمساح لحاج الماحي حين قال (يا الزرق أولاد حاج موسى يالكمل ما فيكم دوسة. البلد الكانت محروسة حجر العوم والناس محبوسة).
قطع أحمد عبد الرحمن رحلة تعليمة عبر أربع مدن مختلفة، فأتاح له ذلك معايشة نماذج مختلفة من الناس، والتعرف على أنماط متعددة من العادات والتقاليد، والوقوف على ألوان متباينة من القيم والمثل. دخل الخلوة طفلا صغيرا، ثم التحق بكُتاب بربر التي حظي فيها بأساتذة أجلاء يهتمون بالطلاب والتدريس منهم: أحمد الأمين الغبشاوي، محي الدين راشد، والناظر عبد الواحد إبراهيم.
طبيعة عمل والد أحمد عبد الرحمن في سكك حديد السودان جعلته كثير التنقل بين المحطات والسندات. ولذا انتقل أحمد عبد الرحمن مع خاله الدكتور إبراهيم الصاوي إبراهيم موسي المحامي إلى أم درمان، حيث درس الصف الثاني بمدرسة العباسية.
بدايات الوعي السياسي
رغم أن السكن في حي بيت المال في أمدرمان كانت نقلة كبيرة جدا في حياة أحمد عبد الرحمن الاجتماعية، إلا أنها لم تستمر طويلا، إذ سرعان ما نقل خاله إلى مدرسة مدني الوسطى التي تعرف فيها على طلاب آخرين كان أبرز هؤلاء الطلاب الرئيس الراحل جعفر محمد نميري، وسبب العلاقة أن الأستاذ الصائم خال أحمد كان المشرف الرياضي على النشاط.
وفيما تمثلت نقلة أم درمان في حياة أحمد عبد الرحمن في توفير الرعاية الصحية والكشف الشهري الصحي على الطلاب والاهتمام الكبير بالتعليم، والتعرف على مجتمع العاصمة، قادته نقلة مدني إلى الاهتمام بالرياضة والشغف بالسباحة والتنس.
غير أن مدني شهدت بداية الوعي السياسي لأحمد عبد الرحمن، ببروز اهتمام الطلاب بالعمل الوطني، حيث شاهد وشارك وهو في سن صغيرة في النشاط الأولى لمؤتمر الخريجين. وكان نجم تلك الأحداث التي وقعت في العام 1942، بلا منازع هو الأستاذ أحمد خير المحامي
ويتذكر أحمد عبد الرحمن، أنهم كانوا يقومون بحفظ وترديد الأناشيد مثل (إلى العلا).
وفي مدني تعرف على عدد كبير من الناشطين في تلك الفترة السابقة لتكوين الأحزاب السياسية، منهم: أحمد خير، مصطفى الصاوي، إبراهيم الكاشف، وعبد الحميد يوسف.
العودة لبربر
كانت لمدينة مدني حيوية خاصة في حياة أحمد عبد الرحمن، فقد كان يتم إرسالهم كطلبة لحصاد القطن، وكان يجد متعة ولذة في الذهاب للحواشات والجلوس وسط المزراعين. لكن هذه الحيوية لم تستمر طويلا، إذ اضطر في أخر سنة من المرحلة الأولية للرجوع لبربر، لأن خاله الصايم كان قد هرب إلى القاهرة لدراسة القانون، لأن المستعمر كان لا يسمح بدراسته، و هنا يجدر الذكر أن الدكتور إبراهيم الصاوي إبراهيم موسي، هو أول من عمل بالمحاماة في السودان. وقد دخل أحمد عبد الرحمن ضمن أول دفعة قبلت بمدرسة بربر الوسطى، وكان ناظر المدرسة الأستاذ هاشم الكمالي الذي خصه بمعاملة خاصة بعد برقية خاله لناظر المدرسة حتى يهتم بتعليمه.
وكانت الجمعية الأدبية ذات طابع سياسي، لأن تفاعل الطلاب كان كبيراً مع قضايا الحركة الوطنية، خاصة بعد تعيين شيخ الدين جبريل مديرا لمدرسة بربر خلفاً لهاشم الكمالي.
قضى أربع سنوات في بربر الوسطى، ولوحظ وسط الأساتذة والطلاب أن الوعي السياسي لأحمد عبد الرحمن كان أكثر من زملائه الذين كان بينهم المرحوم أحمد عبد الرحمن الشيخ، السفير عبد الماجد الأحمدي، والسفير حسن المصباح.
شتلة محنة
عاد أحمد عبد الرحمن لأم درمان في عام 1949م حين قبل بمدرسة أم درمان الأهلية الثانوية. وكان يسكن مع جده ببيت المال جوار سوق الشجرة. وبعد أن غادر جده إلى شندي التي جاء منها. انتقل أحمد عبد الرحمن للإقامة مع عمه (بحي المظاهر) وكان حياً جديداً و كانت مدرسة أم درمان الأهلية ذات نشاط سياسي كبير في ذلك الوقت.
كانت مدرسة أم درمان الأهلية تعج بالنشاط السياسي بحكم أنها كانت مركزا لاتحاد الطلاب ووقتها كان يوجد المؤتمر الطلابي وكانت واجهة يسيطر عليها اليسار، إلى أن طرحت الحركة الإسلامية موضوع إنشاء الاتحاد العام للطلاب السودانيين الذي سحب به البساط من اليسار وتعرى تماما. وكان أحمد عبد الرحمن وزملاؤه قد انضموا للاتحاد العام للطلاب السودانيين باعتبارهم إسلاميين في العام 1951.
وكانت هذه بداية لخلية تشكلت بقناعة من القيادات، وكانت الأدبيات تأتي من مصر وتأثرت بكتب حسن البنا، ومحمد قطب، فيما كانت الجمعية الدينية هي المظلة التي تشتغل بها الحركة الإسلامية.
مواجهات كبيرة
دخل أحمد عبد الرحمن جامعة الخرطوم في منتصف الخمسينيات، وتميزت تلك الفترة بمواجهات كبيرة جداً لحركة الإخوان في مصر، وكان هناك موقف مؤيد من الحركة الإسلامية في السودان، فيما كانت الجمعية التأسيسية الأولى متجاوبة مع الأحداث في السودان، وهذا أثر في الاستقلال.
أما تأثير تلك الأحداث في مصر على استقلال السودان فتفسيره عند أحمد عبد الرحمن أن (الرأي العام السوداني أصبح ماعندو شهية للعلاقة مع مصر).
يضاف إلى ذلك التفسير أن الصراع كان محتدما جدا مع الحزب الشيوعي الذي وقف ضد اتفاقية 1953 التي مهدت لاستقلال السودان باعتبار أن هذا ليس هو الطريق، والطريق في رأيهم هو العمل السياسي مع مصر، بجانب التشكيك الشديد في منبر جامعة الخرطوم
الشاهد عند أحمد عبد الرحمن أن طلاب الحركة الإسلامية لعبوا دوراً في التهدئة باعتبار أن الصراع مع اليسار لا يوصل لنتيجة، وبدا هناك رشد وسط الطلاب قاده المرحوم دفع الله الحاج يوسف رئيس الاتحاد آنذاك. وبادرت قيادات من الحركة الإسلامية واليسار بتهدئة الأحوال.
ملامح السيرة
تخرج الراحل احمد عبد الرحمن في جامعة الخرطوم ويحمل درجة الماجستير في العلوم الإدارية من دولة هولندا. وبدأ حياته العملية ضابطاً إدارياً، وكان من مؤسسي معهد الإدارة العامة في السعودية. وعندما تقدم باستقالته من العمل في معهد الإدارة حرر خطاباً يعتبر نموذجاً في الوطنية حين برر الاستقالة لتلبية نداء الوطن والعمل في إطار المصالحة الوطنية في العام 1978. هذه الرسالة أوردها الشيخ عبد المحسن عبد العزيز التويجري المستشار في الديوان الملكي السعودي في كتابه القيم (رسائل خفت عليها من الضياع).
كان أحمد عبد الرحمن مقررا للجنة المصالحة الوطنية والتعويضات وعضو مجلس الشعب ووزير الشؤون الداخلية ووزير الرعاية الإجتماعية في عهد الرئيس جعفر نميري، ثم أصبح رئيسا للجنة الحكم الإتحادي بالمجلس الإنتقالي للمجلس الوطني.
وشغل الشيخ أحمد عبد الرحمن منصب الأمين العام لمجلس الصداقة الشعبية ثم رئيسا لمجلس إدارة جامعة السودان العالمية ورئيسا للجنة القومية للتوعية بمخاطر التبغ.
ويعتبر الشيخ أحمد عبد الرحمن رجل دولة من الطراز الأول وسياسياً بارعاً يجتمع عنده الخصوم وتلتئم بحكمته الجروح والشروخ ويرقد علي مستودع هائل من أرصدة العمل السياسي والوطني والمجتمعي.
الخبرة السياسية
خبرة أحمد عبد الرحمن السياسية تجعله يبتعد عن المناخات التي صاحبت حدوث المفاصلة بين الإسلاميين، و تقوده هذه الخبرة إلى الاستناج أن الانشقاقات التي حدثت في الأحزاب السودانية قد نالت منها، وأدى ذلك من زمن بعيد إلى شخصنة السلطة والركوض خلفها دون استصحاب برامج تقنع الشعب الذي يتوق للحكمة في إدارة شأنه.
وشهادة أحمد عبد الرحمن عن المفاصلة بين الإسلاميين لا تقلل من الأثر السلبي للخلافات، ولكنه يعتقد أن الخلافات عادية جداً. فإذا كان صحابة الرسول صلى الله عليه وسلم، لم ينجوا من الخلافات، فمن الطبيعي أن يحدث ذلك في الحركة الإسلامية، لكنه على يقين أنها فتنة سلطة ولا توجد خلافات موضوعية على أساس قضايا فكرية. ويصل إلى أن خلافات الإسلاميين تجاوزت المألوف، لأن الأحزاب والطوائف في السودان كلها اختلفت، ولكنها لم تكن بالحدة التي شهدها انشقاق الحركة الإسلامية. ويبدي أسفا فحواه أن الخلاف كان طابعه خلافاً شخصياً.
تصور الحركة الإسلاميَّة للشريعة الإسلامية أنها (منهج حياة)، لكن قناعة أحمد عبد الرحمن أن الحركة الإسلامية لم تأت بالشريعة للشعب السوداني بل وجدتها متجذرة فيه.
اللقاء التاريخي
من خفايا خبرة أحمد عبد الرحمن السياسية ذلك اللقاء التاريخي في منزله بين الدكتور حسن الترابي والأستاذ علي عثمان محمد طه، وقد تم هذا اللقاء قبل وفاة الدكتور الترابي بفترة قليلة.
وللحقيقة والتاريخ يقول أحمد عبد الرحمن إن (الترابي كان كالعادة متجلياً جداً في ذاك الاجتماع ولم يقف عند محطة الماضي كثيراً ولذلك تركز حديثه حول المستقبل والمهددات وحول وحدة السودان). وأضاف الترابي أنه (يخشى وهم أحياء أو أموات أن يتشظى السودان، بل وسيكون أفظع من الصومال إن لم نتدارك ذلك، لأن القبائل جميعها في السودان عربية وغيرها توفر لها السلاح وتوافرت فرص تدريب من بؤر الصراع التي من حولها، ولذلك لابد من أن يكون الأمن هو في مقدمة الأولويات).
ويتفق أحمد عبد الرحمن تماما مع حديث الترابي. ويضيف إليه أن (مكمن تخوفه ايضاً هو على الحركة الإسلامية والتي هي مواجهة الآن سواء كان في الشعبي أو الوطني وبالتالي ليست لديها أي خيار سوى لم الشمل حتى تستطيع أن تواصل المسيرة، وتمنى الترابي في حديثه أن يأتي من يحقق هذه الغاية.
وحديثه كأنما هو قد استشعر بأنه مفارق لهذه الحياة، وهو يعتقد أن هذه هي اللبنة الأولى في الإصلاح وجمع الصف الإسلامي الحركي بشقيه لتأتي الخطوة الثانية والتي هي أهل القبلة والثالثة الوطن كله).
يأتي رحيل الأستاذ أحمد عبد الرحمن محمد المر متزامنا مع عبثية الزمن السياسي السوداني، حيث تعلو المصالح الذاتية للأشخاص فوق كل الاعتبارات، وأيضا فوق كل القوانين. وهكذا تفتقد بلادنا الحكماء والنبلاء وأسياد الكلمة النجيضة. ألف رحمة ونور تنزل على قبره وأحسن الله العزاء لأسرته الصغيرة والكبيرة والممتدة ولأصاقائه ومحبيه وعارفي فضله.
إنضم لقناة النيلين على واتساب