***

تصدير

المدينة انعكاس على الأرض  للمجتمع بأكمله،
بثقافته ومؤسساته وأخلاقه وأسسه الاقتصادية
 وروابطه الاجتماعية.
 هنري لوفافر

***


"حكايات" للكاتب الصّحفي التونسي المنصف العجرودي هو الكتاب الجديد الصادر عن دار الفردوس للنشر والتوزيع في طبعته الأولى، موفى كانون ثاني / يناير من العام الحالي 2025، كتاب من القطع المتوسط يقع في 212 صفحة، "أبنية أوراق، سمّاها صاحبها "حكايات" فيها الكثير من ذات نفس الكاتب مربّيا، صحفيّا وإخباريّا وإنسانا" في علاقته الإشكالية بالمكان والإنسان، هنا والآن بإحدى مدن تونس التاريخية العريقة مدينة باجة (شمال غربي تونس) ذات رمضان 1445/2024.



***

النسيج العمراني وتقاطع الدوال:

النسيج العمراني لأيّة مدينة تاريخية ليس فقط معالم معمارية وإنّما هو أيضا علامة زمنية ومجمّع للذاكرة ونقطة تقاطع بين ثقل التاريخ وأعباء الحاضر بل هو عيّنة أنموذجية لتقاطع الدوال والمداليل بين الماضي والحاضر، وقيامها على المفارقات.

حكاية هذا النسيج العمراني لا تروي فقط الالتقاء المسلكي الممكن بين الحيّز العتيق من المدينة والحيّز الحديث والعصري منها، وإنّما بين الحيّز السكني والحيّز الرّوحي والحيّز الإداري والحيّز التجاري، بكل ما في هذه الأحيزة من مرافق وأماكن، ممّا يجعل من هذا النسيج، بما هو فضاء معماري واجتماعي، علامة هيكلية ومرجع استدلال على توزيع المجال وعنصرا أساسيا في تكوينه بل نقطة تكثيف للزّمن بما هو نواة تختزن ذاكرة المجموعة وتختزلها، تتداخل فيها عدة أزمنة: ماضيا وحاضرا، ونقطة تواصل بين أجيالها وتعبير عن المشترك بينها.

وهو بهذا المعنى يعبّر بامتياز عن مفهوم التراث الثقافي غير المادي بالمدلول الذي حددته له اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي اللامادي المصادق عليها بتاريخ 20 جوان 2007، وهو مفهوم يصرّ على الجانب المعيشي وعلى التعبيرات الثقافية المختلفة للمجموعات والأفراد وعلى الممارسات التي لها دور مهمّ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن ثمّة فهو لا يعبّر فقط عن النشاط الارتجاعي للذاكرة بقدر ما يعبّر عنها وعن إيقاع الحياة وخطّ سير الإنسان وحركة المجتمع ومفارقات الحاضر: الآن وهنا، وهذا ما نلمسه في المتن- الفرد والمتن- الجمع لهذه "الحكايات" التي راوح فيها مدوّنها الأستاذ المنصف العجرودي، على قدر من التوازن ملحوظ، بين بساطة الأشياء اليومية وارتجاعات الذاكرة في سياق زمني هو الشهر الفضيل: رمضان 1445/2024، وفي إطار مكاني هو بالأساس مدينة باجة، إحدى مدن تونس العريقة، مراوحة لئن بدت في ظاهرها نتاجا لفيض خاطر منفلت من أي قيد منطقي وتداعيات أشبه ما تكون بشجون الحديث فإنها قد خضعت على وجه الحقيقة لمنطق داخلي محكم النظام صارم الدقة تقاطع فيه ثقل التاريخ مع أعباء الحاضر.

الحكايات ووجه المدينة المتعدّد:

لسنا مع  ساحة "البرادعية" أو"سوق العطارين" أو"سوق القماش" أو "سوق النحاس" أو " سوق اللفّة" أو " سوق الجرابة " أو"باب الجنايز"، أو"الجامع الأعظم العتيق"، أو"زاوية الخضّارين"، أو "بطحاء تحت التوتة" أو" باب السبعة" أو "باب العين" أو " باب المدينة" أو " القصبة"، أو ساحة 14 جانفي 2011 أو حتى مقبرة سيدي صالح الزلاوي الإسلامية، أو ملعب البشير بن كوسة لكرة السلّة، أو "دار بيّة" وموقع "هنشير الفوّار" أو "دار خيرة" وداخل "باب العين" و"حومة سيدي سيقان" و"حومة تحت السّور"،،، إزاء أماكن مادّية بقدر ما نحن إزاء أماكن رمزيّة، لا تقول بقدر ما تقول، تشفّ ولا تصف، لا تنطق بقدر ما تشي، لا تهتمّ بالمعنى بقدر ما تهتم بما وراء المعنى، حتى يكون "أبلغ في المعنى وآنق للسمع والبصر وأدعى لشعاب الحديث"، وهذا لعمري واحد من أبرز مقاصد القول في هذه الحكايات.

هذا المكان الجمع لا يحدّث في العمق فقط عن حاضر مدينة، وإنّما يحدّث عن واقع وطن، ويخبر بأزمة جهات وفئات، مكان جمع هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدُها المعماري والعمراني والاجتماعي عمقَ المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزّاخر وبين مشهد الحاضر الرديء والمتصدّع.وما ينطبق على المكان في يوميات المنصف العجرودي ينطبق على "البُرتريه" الذي رسمه للإنسان أو من سمّاهم "وجوها من المدينة" من عمّار فرحات(1911-1987) الفنّان التشكيلي ذائع الصيت، إلى الصنائعي البارع ولد المرساوي، إلى الحرفي حمدة الصدّار، إلى عبد الرحمان المالكي الرسّام ،،، حتى أنك لتخال نفسك في "المدينة" وربضيها في تجوال بين المعالم والمواقع الأثرية والتاريخية نعم ولكن أيضا بين معالم بشرية قُدّت من لحم ودم، هي صور منك إليك أو بالأحرى مرايا للذات، مرايا عاكسة متعددة  الزوايا والأبعاد والدلالات.

الأماكن وباقي الأصل:

لسنا مع المكان الجمع أو "وجه المدينة المتعدد" في هذه "الحكايات" مثلما هو شأننا مع المكان الفرد فيها إزاء فضاء تكمن قيمته في أهميته المرجعية بقدر ما تكمن في أهميته الإحالية، لسنا إزاء مكان محايد أو أخرس بالنسبة إلى أي زائر للمدينة فما بالك بالمقيم فيها، وإنّما نحن إزاء نقاط استقطاب وتوزيع تستمدّ قيمة وجودها من ترسخها في اللاشعور الجمعي وارتباطها بجذور المجموعة الحضارية، وعمق المفارقة بينها وبين ممارسة المجموعة اليوم، هنا والآن، لحياتها.

على أنّ هذه الأماكن جميعها، على تعدّدها وتنوّعها وتوزّعها في الزّمان بين ما هو مرتبط بما نحنّ إليه وننحو، وما نهفو إلى تحقيقه ونصبو، تعكس اليوم حجم الانتهاكات التي لحقت بها في مستوى المشهد المعماري، ومن العجيب أنّ عمليات الانتهاك هذه لا تحرّك إزاءها ساكنا، وفي مستوى المنظومة القيمية والسلوكية بما تشهده من تحولات عاصفة وانقلاب حاد، حيث تشهد منذ عقد وبضع عقد من الزمن موجة من الفقدان المتنامي لملامح هويّة ثقافية وحضارية، على قلقها، تأبى الاستسلام وكأنها تقول:

"السّور يبقى سُور ولو تبقى  مِنّو شُرّافة"، ولذلك لا يألو الكاتب جهدا في تقصّي ما يسمّيه" باقي الأصل" أو ما بقي من الأصل فيما هو مقدّس وما هو دنيوي، فيما هو روحي وفيما هو زمني، في الطقوس والشعائر والعبادات، وفي العادات والتقاليد والاحتفالات؟

العتاب

هذا المكان الجمع لا يحدّث في العمق فقط عن حاضر مدينة، وإنّما يحدّث عن واقع وطن، ويخبر بأزمة جهات وفئات، مكان جمع هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدُها المعماري والعمراني والاجتماعي عمقَ المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزّاخر وبين مشهد الحاضر الرديء والمتصدّع.

مكان يزخر بمشاهد الحياة اليومية، مشاهد نجد الكاتب منشدا إليها انشدادا طريفا، ملاحظا لها بعين الصحفي تارة، وبعين الباحث الأنتروبولوجي طورا آخر، مرائي كثيرا ما ينزاح فيها من التاريخ إلى الذاكرة، ومن اليومي إلى اللحظة الزمنية الهاربة، وهي مشاهد ثرية بحكم تنوّع أصناف الناس المارّين به وتنوع اهتماماتهم وهواجسهم وتطلعاتهم ومظهرهم وحركاتهم وتعابير أجسادهم وملامح وجوههم وتفاعلهم مع المكان وتفاعلهم في ما بينهم.

حركة الإنسان المارّ عبر دروب المدينة وأزقتها، عبر مؤسّساتها ومُنشآتها، عبر أسواقها وحوانيتها،،،  بتعابير له وتقاطيع تروي تناقضات واسعة بين إيقاع بطيء لحياة رتيبة، مُملة، وجنائزية، ترشح بالبؤس والفوضى والبطالة والعطالة والفقر، في مدينة عائمة فوق ثروات مائية وفلاحية تُحسب لها، وإيقاع زمن سريع تجري أيامه كالطوفان يجرف معه بريق الحياة من وجوه الناس ويقضي على أصالة المكان الذي ينتمون إليه.

الأماكن في يوميّات كاتبنا الرمضانية أو ما اصطلح على تسميته بالحكايات، وأراها أجناسيا في البعض إلى المقالات أدعى وإليها أقرب وإلى التدوينات في البعض الآخر أميل وبها ألصق، أماكن أنموذجية، تعكس مفارقة بين ثقل الماضي وبين أعباء الحاضر وآمال المستقبل، وبقدر ما تعطي هذه الأماكن اليوم صورة سلبيّة لزائر المدينة وللمُقيم فيها: هي صورة التشويش والفوضى وانعدام الترتيب، تعطي بالمقابل صورة "الترتيب" في "الأعمال" و"النظام" في العابر والسّاكن و"السلطان" ممّا يتركنا أمام تلك الجدلية الأزلية الأبدية: جدلية المُراقبة والمُعاقبة، جدلية الوازع والرّادع، فإنّ تاريخها بشكل خاص يُعاتبنا ويسألنا ماذا فعلتم بهذا الإرث التاريخي الكبير وبهذه الذاكرة الخصبة تثمينا وتثميرا وإدماجا في الدورة الاقتصادية ودفعا لعجلة التنمية.

وقبل كل هذا وذاك يبقى سؤال مفتاح أين مستقبل هذا المكان فردا كان أو جمعا، من راهنه؟ وأين هو من ذاكرته؟

وهو سؤال نطرحه على المشهد العام للوطن: أين حاضر هذا الوطن من مستقبله؟  أين حاضر هذا الوطن من ذاكرته؟

يقول الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، ونحن نتمثّل بقوله:

"كم أتعبتني بلادٌ أهلُها ارتحلوا          ****            مازلت أكتبها شعرا وتمحوني"

هذه أبنية أوراق، يدفع لنا بها المنصف العجرودي، فيها الكثير من ذات نفس الكاتب مربّيا، إخباريّا وإنسانا، هي بذرة أولى إلا أنّها بالتأكيد واعدة بقرابين أُخَر.

*جامعة تونس

المصدر: عربي21

كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب التونسي الكتاب تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة والحی ز بقدر ما وإن ما

إقرأ أيضاً:

العائدون من الغيبوبة.. حكايات حقيقية تعكس قصة مسلسل شهادة معاملة أطفال في الواقع

في عالم ملئ بالحكايات التي تشبه الأساطير، يضع مسلسل شهادة معاملة أطفال المشاهد أمام واقع أليم ولكن بتناول كوميدي، وذلك عندما يجسد محمد هنيدي دور محامٍ دخل في غيبوبة لمدة 20 عامًا، ليستفيق ويجد العالم تغير من حوله، وتتصاعد أحداث المسلسل في إطار كوميدي.. فهل حدثت حوادث مشابهة لأشخاص في الواقع من قبل؟

هل حدثت واقعة غيبوبة محمد هنيدي في شهادة معاملة أطفال في الواقع؟

لم يحاكي مسلسل شهادة معاملة أطفال الذي سيعرض ضمن مسلسلات رمضان 2025 قصة حقيقية في حد ذاتها، لكنه يتناول جزءا من واقع أليم حدث مع عدد من الأشخاص حول العالم، ففي 2019 تعرض شاب من جنوب أفريقيا إلى غيبوبة، بعدما تم تشخيصه بالإصابة بسحابة في المخ مما تسبب في تدهور حالته الصحية، لتبدأ الأعراض بعدم القدرة على الحركة ثم فقدان النطق ثم العجز عن تحريك عينيه.

دخل الشاب الذي يدعى مارتن في غيبوبة لمدة 12 عامًا، لكن الغريب في الأمر أنه استفاق وقال إنه كان يشعر بمن حوله وكانت تراوده العديد من الأفكار، لكنه غير قادر على منح من حوله أي إشارة على ذلك، بحسب صحيفة «ديلي ستار».

سيدة تستفيق من غيبوبة بعد 17 عامًا

لم يكن مارتن الوحيد الذي دخل في غيبوبة طويلة واستفاق منها فاقدًا الزمن وتطوراته، لكنها قصة حدثت أيضًا لسيدة إماراتية، دخلت في غيبوبة بعد تعرضها لحادث بسيارتها، عقب اصطدامها بحافلة مدرسة، لتذهب إلى المستشفى وتدخل في غيبوبة، وظلت لسنوات وفقد الأطباء الأمل في استيقاظها، لكن نجلها أصر على استكمال رحلة علاجها مستعينا بالدولة، بعد ملاحظة تحسن حالتها إثر خضوعها لعلاج متعدد الاختصاصات وفقًا لحالتها، بحسب موقع «the national».

مقالات مشابهة

  • باليوم العالمي للإذاعة.. راديو شفق صوتٌ يتجاوز حدود المكان
  • العائدون من الغيبوبة.. حكايات حقيقية تعكس قصة مسلسل شهادة معاملة أطفال في الواقع
  • المدينة المنورة: أول مدينة صديقة للتوحد في الشرق الأوسط
  • اعتماد المدينة كأول مدينة صديقة للتوحد في الشرق الأوسط
  • أمير منطقة المدينة المنورة يتسلم وثيقة اعتماد المدينة المنورة أول مدينة معتمدة صديقة للتوحد في الشرق الأوسط
  • «مكتبة حكايات» تحتفل بـ«يوم التراث الإماراتي»
  • محمود حامد يكتب:  مصطفى بيومى.. الحاضر دومًا رغم الرحيل
  • مصطفي درويش الحاضر الغائب في كامل العدد3
  • هوية المكان العماني في رواية «زعفرانة» لهدى النعيمي .. التاريخ والسياسة والانتماء