حكايات يومية أو أزمة مدينة بين ثقل التاريخ وأعباء الحاضر.. كتاب جديد
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
***
تصدير
المدينة انعكاس على الأرض للمجتمع بأكمله،
بثقافته ومؤسساته وأخلاقه وأسسه الاقتصادية
وروابطه الاجتماعية.
هنري لوفافر
***
"حكايات" للكاتب الصّحفي التونسي المنصف العجرودي هو الكتاب الجديد الصادر عن دار الفردوس للنشر والتوزيع في طبعته الأولى، موفى كانون ثاني / يناير من العام الحالي 2025، كتاب من القطع المتوسط يقع في 212 صفحة، "أبنية أوراق، سمّاها صاحبها "حكايات" فيها الكثير من ذات نفس الكاتب مربّيا، صحفيّا وإخباريّا وإنسانا" في علاقته الإشكالية بالمكان والإنسان، هنا والآن بإحدى مدن تونس التاريخية العريقة مدينة باجة (شمال غربي تونس) ذات رمضان 1445/2024.
***
النسيج العمراني وتقاطع الدوال:
النسيج العمراني لأيّة مدينة تاريخية ليس فقط معالم معمارية وإنّما هو أيضا علامة زمنية ومجمّع للذاكرة ونقطة تقاطع بين ثقل التاريخ وأعباء الحاضر بل هو عيّنة أنموذجية لتقاطع الدوال والمداليل بين الماضي والحاضر، وقيامها على المفارقات.
حكاية هذا النسيج العمراني لا تروي فقط الالتقاء المسلكي الممكن بين الحيّز العتيق من المدينة والحيّز الحديث والعصري منها، وإنّما بين الحيّز السكني والحيّز الرّوحي والحيّز الإداري والحيّز التجاري، بكل ما في هذه الأحيزة من مرافق وأماكن، ممّا يجعل من هذا النسيج، بما هو فضاء معماري واجتماعي، علامة هيكلية ومرجع استدلال على توزيع المجال وعنصرا أساسيا في تكوينه بل نقطة تكثيف للزّمن بما هو نواة تختزن ذاكرة المجموعة وتختزلها، تتداخل فيها عدة أزمنة: ماضيا وحاضرا، ونقطة تواصل بين أجيالها وتعبير عن المشترك بينها.
وهو بهذا المعنى يعبّر بامتياز عن مفهوم التراث الثقافي غير المادي بالمدلول الذي حددته له اتفاقية اليونسكو لصون التراث الثقافي اللامادي المصادق عليها بتاريخ 20 جوان 2007، وهو مفهوم يصرّ على الجانب المعيشي وعلى التعبيرات الثقافية المختلفة للمجموعات والأفراد وعلى الممارسات التي لها دور مهمّ في الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، ومن ثمّة فهو لا يعبّر فقط عن النشاط الارتجاعي للذاكرة بقدر ما يعبّر عنها وعن إيقاع الحياة وخطّ سير الإنسان وحركة المجتمع ومفارقات الحاضر: الآن وهنا، وهذا ما نلمسه في المتن- الفرد والمتن- الجمع لهذه "الحكايات" التي راوح فيها مدوّنها الأستاذ المنصف العجرودي، على قدر من التوازن ملحوظ، بين بساطة الأشياء اليومية وارتجاعات الذاكرة في سياق زمني هو الشهر الفضيل: رمضان 1445/2024، وفي إطار مكاني هو بالأساس مدينة باجة، إحدى مدن تونس العريقة، مراوحة لئن بدت في ظاهرها نتاجا لفيض خاطر منفلت من أي قيد منطقي وتداعيات أشبه ما تكون بشجون الحديث فإنها قد خضعت على وجه الحقيقة لمنطق داخلي محكم النظام صارم الدقة تقاطع فيه ثقل التاريخ مع أعباء الحاضر.
الحكايات ووجه المدينة المتعدّد:
لسنا مع ساحة "البرادعية" أو"سوق العطارين" أو"سوق القماش" أو "سوق النحاس" أو " سوق اللفّة" أو " سوق الجرابة " أو"باب الجنايز"، أو"الجامع الأعظم العتيق"، أو"زاوية الخضّارين"، أو "بطحاء تحت التوتة" أو" باب السبعة" أو "باب العين" أو " باب المدينة" أو " القصبة"، أو ساحة 14 جانفي 2011 أو حتى مقبرة سيدي صالح الزلاوي الإسلامية، أو ملعب البشير بن كوسة لكرة السلّة، أو "دار بيّة" وموقع "هنشير الفوّار" أو "دار خيرة" وداخل "باب العين" و"حومة سيدي سيقان" و"حومة تحت السّور"،،، إزاء أماكن مادّية بقدر ما نحن إزاء أماكن رمزيّة، لا تقول بقدر ما تقول، تشفّ ولا تصف، لا تنطق بقدر ما تشي، لا تهتمّ بالمعنى بقدر ما تهتم بما وراء المعنى، حتى يكون "أبلغ في المعنى وآنق للسمع والبصر وأدعى لشعاب الحديث"، وهذا لعمري واحد من أبرز مقاصد القول في هذه الحكايات.
هذا المكان الجمع لا يحدّث في العمق فقط عن حاضر مدينة، وإنّما يحدّث عن واقع وطن، ويخبر بأزمة جهات وفئات، مكان جمع هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدُها المعماري والعمراني والاجتماعي عمقَ المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزّاخر وبين مشهد الحاضر الرديء والمتصدّع.وما ينطبق على المكان في يوميات المنصف العجرودي ينطبق على "البُرتريه" الذي رسمه للإنسان أو من سمّاهم "وجوها من المدينة" من عمّار فرحات(1911-1987) الفنّان التشكيلي ذائع الصيت، إلى الصنائعي البارع ولد المرساوي، إلى الحرفي حمدة الصدّار، إلى عبد الرحمان المالكي الرسّام ،،، حتى أنك لتخال نفسك في "المدينة" وربضيها في تجوال بين المعالم والمواقع الأثرية والتاريخية نعم ولكن أيضا بين معالم بشرية قُدّت من لحم ودم، هي صور منك إليك أو بالأحرى مرايا للذات، مرايا عاكسة متعددة الزوايا والأبعاد والدلالات.
الأماكن وباقي الأصل:
لسنا مع المكان الجمع أو "وجه المدينة المتعدد" في هذه "الحكايات" مثلما هو شأننا مع المكان الفرد فيها إزاء فضاء تكمن قيمته في أهميته المرجعية بقدر ما تكمن في أهميته الإحالية، لسنا إزاء مكان محايد أو أخرس بالنسبة إلى أي زائر للمدينة فما بالك بالمقيم فيها، وإنّما نحن إزاء نقاط استقطاب وتوزيع تستمدّ قيمة وجودها من ترسخها في اللاشعور الجمعي وارتباطها بجذور المجموعة الحضارية، وعمق المفارقة بينها وبين ممارسة المجموعة اليوم، هنا والآن، لحياتها.
على أنّ هذه الأماكن جميعها، على تعدّدها وتنوّعها وتوزّعها في الزّمان بين ما هو مرتبط بما نحنّ إليه وننحو، وما نهفو إلى تحقيقه ونصبو، تعكس اليوم حجم الانتهاكات التي لحقت بها في مستوى المشهد المعماري، ومن العجيب أنّ عمليات الانتهاك هذه لا تحرّك إزاءها ساكنا، وفي مستوى المنظومة القيمية والسلوكية بما تشهده من تحولات عاصفة وانقلاب حاد، حيث تشهد منذ عقد وبضع عقد من الزمن موجة من الفقدان المتنامي لملامح هويّة ثقافية وحضارية، على قلقها، تأبى الاستسلام وكأنها تقول:
"السّور يبقى سُور ولو تبقى مِنّو شُرّافة"، ولذلك لا يألو الكاتب جهدا في تقصّي ما يسمّيه" باقي الأصل" أو ما بقي من الأصل فيما هو مقدّس وما هو دنيوي، فيما هو روحي وفيما هو زمني، في الطقوس والشعائر والعبادات، وفي العادات والتقاليد والاحتفالات؟
العتاب
هذا المكان الجمع لا يحدّث في العمق فقط عن حاضر مدينة، وإنّما يحدّث عن واقع وطن، ويخبر بأزمة جهات وفئات، مكان جمع هو عيّنة أنموذجية يختزل مشهدُها المعماري والعمراني والاجتماعي عمقَ المفارقة بين الإرث التاريخي والحضاري الزّاخر وبين مشهد الحاضر الرديء والمتصدّع.
مكان يزخر بمشاهد الحياة اليومية، مشاهد نجد الكاتب منشدا إليها انشدادا طريفا، ملاحظا لها بعين الصحفي تارة، وبعين الباحث الأنتروبولوجي طورا آخر، مرائي كثيرا ما ينزاح فيها من التاريخ إلى الذاكرة، ومن اليومي إلى اللحظة الزمنية الهاربة، وهي مشاهد ثرية بحكم تنوّع أصناف الناس المارّين به وتنوع اهتماماتهم وهواجسهم وتطلعاتهم ومظهرهم وحركاتهم وتعابير أجسادهم وملامح وجوههم وتفاعلهم مع المكان وتفاعلهم في ما بينهم.
حركة الإنسان المارّ عبر دروب المدينة وأزقتها، عبر مؤسّساتها ومُنشآتها، عبر أسواقها وحوانيتها،،، بتعابير له وتقاطيع تروي تناقضات واسعة بين إيقاع بطيء لحياة رتيبة، مُملة، وجنائزية، ترشح بالبؤس والفوضى والبطالة والعطالة والفقر، في مدينة عائمة فوق ثروات مائية وفلاحية تُحسب لها، وإيقاع زمن سريع تجري أيامه كالطوفان يجرف معه بريق الحياة من وجوه الناس ويقضي على أصالة المكان الذي ينتمون إليه.
الأماكن في يوميّات كاتبنا الرمضانية أو ما اصطلح على تسميته بالحكايات، وأراها أجناسيا في البعض إلى المقالات أدعى وإليها أقرب وإلى التدوينات في البعض الآخر أميل وبها ألصق، أماكن أنموذجية، تعكس مفارقة بين ثقل الماضي وبين أعباء الحاضر وآمال المستقبل، وبقدر ما تعطي هذه الأماكن اليوم صورة سلبيّة لزائر المدينة وللمُقيم فيها: هي صورة التشويش والفوضى وانعدام الترتيب، تعطي بالمقابل صورة "الترتيب" في "الأعمال" و"النظام" في العابر والسّاكن و"السلطان" ممّا يتركنا أمام تلك الجدلية الأزلية الأبدية: جدلية المُراقبة والمُعاقبة، جدلية الوازع والرّادع، فإنّ تاريخها بشكل خاص يُعاتبنا ويسألنا ماذا فعلتم بهذا الإرث التاريخي الكبير وبهذه الذاكرة الخصبة تثمينا وتثميرا وإدماجا في الدورة الاقتصادية ودفعا لعجلة التنمية.
وقبل كل هذا وذاك يبقى سؤال مفتاح أين مستقبل هذا المكان فردا كان أو جمعا، من راهنه؟ وأين هو من ذاكرته؟
وهو سؤال نطرحه على المشهد العام للوطن: أين حاضر هذا الوطن من مستقبله؟ أين حاضر هذا الوطن من ذاكرته؟
يقول الشاعر الفلسطيني تميم البرغوثي، ونحن نتمثّل بقوله:
"كم أتعبتني بلادٌ أهلُها ارتحلوا **** مازلت أكتبها شعرا وتمحوني"
هذه أبنية أوراق، يدفع لنا بها المنصف العجرودي، فيها الكثير من ذات نفس الكاتب مربّيا، إخباريّا وإنسانا، هي بذرة أولى إلا أنّها بالتأكيد واعدة بقرابين أُخَر.
*جامعة تونس
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي أفكار كتب تقارير كتب التونسي الكتاب تونس كتاب عرض نشر كتب كتب كتب كتب كتب كتب أفكار أفكار أفكار سياسة سياسة أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار أفكار سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة والحی ز بقدر ما وإن ما
إقرأ أيضاً:
تايمز: هكذا ينظر كتاب بريطانيون لأداء ترامب بعد 100 يوم من الحكم
أدلى 5 من كُتّاب مقالات الأعمدة في صحيفة "تايمز" البريطانية بآرائهم وتحليلاتهم حول أداء الرئيس الأميركي دونالد ترامب بعد مرور 100 يوم على ولايته الثانية.
وقالت الصحيفة في التقرير الذي يرصد أقوال أولئك الكُتاب، إن ترامب ما إن عاد مرة أخرى إلى البيت الأبيض حتى شرع على الفور بتغيير أميركا والعالم.
روجر بويزيستدعي المحرر الدبلوماسي في الصحيفة التاريخ عندما يقارن عودة ترامب إلى سدة الحكم، برجوع الإمبراطور الفرنسي نابليون بونابرت الأول من منفاه في جزيرة إلبا إلى باريس يوم 20 مارس/آذار 1815.
ويقول إن عودة نابليون تلك، والتي استمرت 100 يوم، أحدثت هزة في النظام العالمي قبل هزيمته في معركة واترلو، فيما بداية ترامب قد يكون لها تأثير أطول.
ويضيف أن هذه البداية تطرح أسئلة كبيرة، حول ما إذا كان الرئيس الأميركي ستنفَد طاقته ويفقد زخمه، وهل سينجح في ترسيخ تغييراته قبل انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في 2026، أم أن القضاء سيُحبط مخططاته؟
ويستمر بويز متسائلا عما إذا كان ترامب سيركز على شن حرب تجارية شاملة مع الصين، وهل ستتحول هذه الحرب إلى صراع عسكري؟
إيما دنكانتعتقد كاتبة العمود الأسبوعي المتخصص في الشؤون السياسية والاقتصادية والاجتماعية أن ترامب نجح في ترك بصمته في أول 100 يوم له في سدة الحكم، إذ لم يسبق لأي رئيس أميركي آخر أن أحدث -برأيها- مثل هذا القدر من الضرر بهذه السرعة.
إعلانوتقول إن الرسوم الجمركية الهائلة التي فرضها حوّلت الاقتصاد الأميركي الذي كان قويا إلى اقتصاد مهدد بالركود والتضخم على حد سواء.
كما أن استعداده لتجاهل المحاكم وتهديداته باستخدام أجهزة الدولة ضد من ينتقده يوحي بأن بلاده تتجه نحو الاستبداد، كما تزعم دنكان.
ووفقا لها، فقد يكون تخليه عن أوكرانيا لصالح التقارب مع روسيا قد قضى على التحالف الغربي، معربة عن أملها أن تكون أيامه القادمة في منصبه أقل خطورة.
دانيال فنكلشتاينيشدد كاتب العمود السياسي الأسبوعي على ضرورة أخذ ترامب على محمل الجد حرفيا، حيث لا يزال هناك ميل للنظر إليه على أنه غريب الأطوار، ويتصرف حسب أهوائه. غير أن فنكلشتاين يقول إن هذا ليس صحيحا.
ويوضح أن القرارات التي اتخذها الرئيس في أول 100 يوم له، مثل تلك المتعلقة بالتعريفات الجمركية، والميل نحو الاستبداد، وقناعته بأن أميركا تتعرض للسرقة من قبل حلفائها والخداع من شركائها التجاريين، لطالما كانت جميعها جزءا من سياساته.
ماثيو باريسمن وجهة نظر هذا الكاتب، فإن ترامب لم يسقط بعد. لكنه يستدرك قائلا إن السرعة التي صعد بها تهدد بالفعل ما يسميه علماء الصواريخ "التفكيك السريع المفاجئ"، الذي يعني السقوط عند الآخرين.
ومع بلوغه الوشيك سن الــ80 في يونيو/حزيران المقبل، يعتقد باريس صراحة أن ترامب بدأ يفقد قدرته على إدراك ما هو ممكن.
جولييت صموئيلابتدرت الكاتبة تحليلها بعبارة تدل على الاستغراب حيث قالت "يا للهول، إذا كانت هذه 100 يوم فقط، فماذا سيحدث خلال الفترة المتبقية من ولايته هذه؟".
وعن تأثير قراراته الاقتصادية على بريطانيا، ترى الكاتبة أن تداعياتها الكبرى ربما تتمثل في لفظ التجارة الحرة أنفاسها الأخيرة.
ونتيجة لتلك السياسات خسرت أسواق الأسهم ترليونات الدولارات مما اضطره إلى التوقف، على حد تعبير جولييت.