صحة القول في الزمان المريض: و”سجمانين” كرتي
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
من أرشيف “ومع ذلك”
هذه كلمة أخرى عن كيف احتاجت معارضة الإنقاذ إلى “تزوير” عبارة عن على كرتي قيل أنها صدرت منه في واشنطن لكي تحسن مقاومة. وقد يستهتر كثيرون بعنايتي بالتدقيق في تداول عبارة الخصم في السياسة. ولكن السياسة هي لغة في خاتمة المطاف ومن ابتذلها ليسجل نقطة ضد خصمه انفلتت وارتدت إلى صدره. فالسياسي من أرقته “صحة القول في الزمان المريض”.
اتصل فيّ من اثق بشهادته وقال إنه حضر لقاء الوزير كرتي ببعض جالية واشنطون ولم يسمعه يصف السيدين الميرغني والمهدي بأنهم “سجمانين”. وكان معه من شهد اللقاء واستفزه التبليغ السيء وظل يبحث عن تسجيل للكلمة ليزداد يقيناً من براءة كرتي من شينة “سجمانين”. وليس أياً من الرجلين من صف الإنقاذ. وإذا صنفتهما فهم في عداد المعارضين. وانصرفت عن الأمر حتى حرك ساكنه ما تواتر عن التحريف الذي جرى لحديث الوزير كمال عبيد الإذاعي. وهو ما ألقيت الضوء على حيثياته أمس. وانزعجت لهذه التغذية الفاسدة للحوار الوطني في هذا الوقت الفاصل من تاريخ الوطن. فيكفي أن “تقوقل” الشبكة الدولية ب “كرتي سجمانين” أو “حقنة عبيد” لتقف بنفسك على الطاقة السلبية التي اندلقت فزادتنا ضغثاً على إبالة.
تحدثت إلى محرر نيوميديانايل التي أذاعت الخبر أول مرة. فوجدتها أخذته ممن قال إنه حضر اللقاء. وراجع المحرر قبلي الحسن أحمد الحسن، الصحفي بإذاعة سوا بواشنطن، الذي قال إنه نقل ندوة كرتي ولم يسمعه يصف السيدين ب”السجمانين”. وبحث عن التسجيل ليبعثه لمحرر “نيوميديانايل”: الكمدة بالرمدة. ولم يحصل عليه بالنظر إلى تقنية في التسجيل وصفها لي لا يبقى منها شيء بعد إذاعة المادة. وهكذا بلغنا من الأمر وضعاً يسميه الأمريكان “أنا قلت، أنت قلت” فلا سبيل لقطع شك الخبر ببينة التسجيل. وقلت لمحرر الوسيط مع ذلك أنه ربما كان أحسن صنعاً لو تطرق إليه الشك حين حوى التبليغ على كلمة “نابية” مثل “سجمانين”. فهي مما لا يجري على اللسان السياسي في العلن عادة. وأكد لي الحسن أنه أعد النشرة ولم ترد الكلمة في حديث الوزير. وقال لي أكتب ذلك على مسئوليتي.
يكتنف سوء الظن سياسيّ هذه الفترة في بلدنا. و”الفترة” في العربية هي زمن عسر ومشقة وهول. وما كنا نريد لوسائط الإعلام أن “تخترع” عبارات لسياسيين لا يحسنون التعبير أصلاً. لقد “تورت” عبارة بدرية سليمان “تصعيب الاستفتاء” عجاجاً كثيراً. وكذلك تعجج المناخ السياسي بقول مسؤول شمالي في لجنة الاستفتاء عن تأجيل الاستفتاء. وزادت الطين بلة تصريحات رئيس لجنة الاستفتاء عن تهرب الأعضاء الجنوبيين عن اجتماعات لجنته. ناهيك عن أقوال لقوش ونافع والعشرة الكرام. فلسنا ناقصين في مادة سوء الظن حتى تتبرع وسائط الإعلام باختلاقات بحسن نية أو سواها.
أكثر ما حيرني أنه لا كمال ولا كرتي اكترث حتى لتبرئة أنفسهما من سوء النقل الذي سمم الأجواء السياسية. أو الاعتذار بمسؤولية عن اعتلال قولهما في الزمان المريض. فلم يتحرك الإعلام الوزاري ولا إعلام سفارة واشنطن ولا إعلام الخارجية ولا صحافة المؤتمر الوطني وأشباهها لتنقية الأجواء السياسية التي تلبدت بفعل عبارات وزارية محرفة. بدا لي أننا أصبحنا عندهم “ما هميه” كما يقول السودانيون. فقد تكاثرت “العلقات” عليهم وفاتت ولم يموتوا. لقد اندبغ جلدهم بالحكم فلم يعودوا مسائلين أو حتى سائلين. وللسخرية أصبح أمثالي من المعارضين من يرد عنهم غائلة سوء النقل. وقيل (على بؤس المثل) السعيد من خدمه أولاد العرب، أو من هم في معارضته على خط مستقيم.
أرجو ألا يمر سوء النقل الذي أخذ سياستنا في جناحه الضال طوال الأسابيع الماضية وأفسدها ونحن قبايل استفتاء. أرجو أن يراجع مجلس الوزراء أداء الدولة الإعلامي والقيادي الضعيف الذي أدخلنا في متاهة من التنابذ بأخبار جزافية. وأرجو أن يأخذ اتحاد الصحفيين الأمر بجدية لمعرفة من أين يتسرب سوء النقل إلى صحافتنا. فلو لم يفعل لجاءنا “أبوالكجمجم” وورانا أياهو.
عبد الله علي إبراهيم
إنضم لقناة النيلين على واتسابالمصدر: موقع النيلين
كلمات دلالية: سوء النقل
إقرأ أيضاً:
الدُّب … الذي بكته السماء !
مناظير الخميس 1 مايو، 2025
زهير السراج
manazzeer@yahoo.com
* في مساء حزين غابت فيه شمس العام الماضي، صعدت روح صديقي العزيز (عزالدين علي عبدالله)، المعروف بين أصدقائه بـ"عزالدين الدب"، إلى بارئها، وعلى وجهه نفس الابتسامة التي رافقته في الحياة، كأنما كانت تعانق الموت وترحب به، فبكته السماء قبل أن يبكيه البشر، وسالت دموعها فوق مقابر عين شمس في القاهرة، حيث وُري جثمانه الثرى بعد رحلة صمود طويلة، لا يملك من يعرفها إلا أن ينحني احتراماً أمام عظمة هذا الإنسان الفريد.
* لم يكن "الدب" مجرد لقب طريف أطلقه عليه الأصدقاء في صباه بسبب امتلاء جسمه، بل صار مع الأيام رمزاً لقلب كبير يسع الدنيا، وروح مرحة، وجَنان صلب لا تهزه العواصف. ورغم إصابته بالفشل الكلوي لأكثر من عشر سنوات واعتماده على الغسيل المنتظم، لم يكن أحد يصدق أنه مريض، فقد كان صحيح البدن، قوي النفس، عالي الضحكة، حاضر النكتة، سيّال الفكرة، متوقد الذهن.
* عرفته كما عرفه غيري إنسانا مثقفا ومحدثا لبقاً، مجلسه لا يُمل، وحديثه لا يُنسى، وتحليله السياسي والاجتماعي لا يشق له غبار. كان موسوعة متحركة، لا تسأله عن شأن في السودان أو في العالم إلا وتنهال عليك منه الدهشة والإفادة. ولم يكن هذا لشغفه بالسياسة فقط، بل كان عاشقاً للفن والشعر والغناء، يحفظ القصائد والأبيات والأغاني ومَن قالها ولحّنها وغنّاها وتاريخها، وكأنما خُلق ليكون ذاكرة حية لكل شيء جميل.
* عشق الفروسية ونادي الفروسية وسبق الخيل، وكان يحفظ عن ظهر قلب اسماء الفرسان والخيل وصفاتهم وحركاتهم وسكناتهم، وظل طيلة الخمسين عاما الاخيرة من حياته التي لم يغب فيها يوما واحدا عن ميدان السبق مع رفيقه وصديقه (ماجد حجوج) من أعمدة النادي والمؤثرين والمستشارين الذين يؤخذ برأيهم، ومحبوبا من الجميع.
* كان بيت أسرته في حي بانت شرق بأم درمان ندوة يومية يقصدها الناس من كل فج، ينهلون من علمه ويضحكون من قلبهم لطرائفه التي لا تنتهي، وحكاياته التي تتفجر دفئاً وإنسانية، كما لو أنه خُلق من طينة خاصة لا تعرف غير البهجة، رغم معاناته الطويلة مع المرض.
* ثم جاء يوم 15 أبريل، يوم الفجيعة الكبرى، وانفجر جحيم الحرب اللعينة في السودان، وسقطت القذائف على المدن والناس، وأظلمت الحياة، وانعدم الأمان وانهارت المستشفيات، وانقطع الدواء، وتوقفت جلسات الغسيل، فصار عزالدين يخاطر بحياته بحثاً عن مركز يعمل، ينتقل على عربات الكارو بين الدانات والقذائق وزخات الرصاص، ورغم كل ذلك لم تغب ابتسامته، ولم يفقد شجاعته.
* نزح إلى كسلا، ثم بورتسودان، الى ان قادته الأقدار إلى القاهرة، حيث احتضنه أصدقاؤه الأوفياء الدكتور مجدي المرضي، وشقيقه ناصر المرضي، والدكتور صالح خلف الله، وفتحوا له قلوبهم وبيوتهم ووقفوا بجانبه حتى آخر لحظة من حياته، جزاهم الله خير الجزاء، وجعل ما فعلوه في ميزان حسناتهم.
* لكن القلب الذي صمد كثيراً، أنهكته أيام السودان، وضربات الحرب، وعدم انتظام الغسيل وصعوبة الحياة تحت نيران المدافع، فلم يحتمل، واختار الرحيل في صمت هادئ، بابتسامته البهية التي كانت عنواناً له في الحياة، كأنه يقول لنا وداعاً دون نحيب.
* نعزي أنفسنا وأسرته المكلومة، وشقيقاته العزيزات د. سامية، د. سلوى، وسميرة، وأصدقاءه الذين كانوا له عوناً وسنداً، ونبكيه بقدر ما أحببناه، ونترحم عليه بقدر ما أدهشنا بعظمة صبره وروعته وبهاء روحه. إنّا لله وإنّا إليه راجعون.