القطار الثاني : قصة قصيرة 1964م
نشرت بواسطة الأستاذة أمال عباس في مجلة صوت المرأة فيما بعد .
من مجموعتي القصصية الأولى( إليكم أعود وفي كفي القمر) .

خريف.. بلا مطر دائماً هكذا، منذ أن أصبح نبت الصغار هذا، يجري، ويلعب.. لم تستجب السماء لأغنيتهم -يا مطيرا.. صُبِّي لينا- قال أحد عواجيز القرية، وهو من القلائل الذين رأوا ذلك العالم المجهول خلف ثنية الجبل، التي يظهر منها، ويختفي فيها، القطار، قال ذلك العجوز.

. إن الله غاضب، لأن الناس هناك لا يطيعون أُولي الأمر منهم!! .
***
لا غيوم تحجب أشعة الشمس، فانعكست متوهجة حمراء، على الأرض الحجر، من بعيد يلمع شريط السكة حديد، لا أحد يستطيع الاقتراب منه، حتماً ستملأ خياشيمه، رائحة شواء منبعثة، من أطرافه المحترقة، احتمى الصغار بشجرة حراز -بعد الليالي العاصفة، تجمع فتيات القرية وقودها المتكسر- أطفال هذه القرية، خطف الفقر والجوع، براءة الطفولة من على وجوههم. على أجسادهم الهزيلة، ربما أسمال بالية، أو لاأسمال البتة، أقدامهم عارية شققتها صخور الجبل الحادة .
هذا النهار، يشعرون أن انتظارهم قد طال أمَّده.. رغم أن -جاد الرب- قال لهم أنه متأكد، أن هذا موعده.
***
أهوووو.. جا..جا: يصرخ بها جاد الرب “مُش قلت ليكم؟”، يتوقف الصغار عن الحركة، يصيخون السمع.. هم لا يثقون في الصدى كثيراً.. ولكن تأكدوا، إنه هو.. القطار، حين انطلقت صافرته، الثانية.. طويلة، مدوية. قفز كل منهم قفزتين في الهواء.. صرخ بعضهم طرباً.. ورقص البعض الآخر، كل على طريقته. جروا، وجهتهم، شريط السكة حديد. أصغرهم طفل عارٍ، يتعثر في حفرة، يقع.. يصرخ باكياً، يتوقف الآخرون.. يرفعونه، يمازحونه.. يحاولون إضحاكه، ينسى.. يضحك معهم.. يواصلون ركضهم، طفل آخر.. تشوى قدميه الرمضاء الحارقة.. يصرخ مستغيثاً، يتوقف أكبرهم، يحمله على ظهره.. وإن بدا ساخطاً، فهو أبداً لم يحوج الكبار، لأن يحملوه يوماً ما. أولاد الزمن!!، رددها هكذا، وهو يواصل الركض.. القطار يقترب.. قطار بلا دخان. أكبرهم عاصر عهدين: قاطرات الدخان، ثم هذه الملونة!! .. وبلا دخان . هكذا يردد أمامهم، وهو يدق صدره.. مقلداً الكبار.. اعتزازاً .
***
عجلات القطار، تلتهم الشريط التهاماً في سرعة.. بل في قسوة.. الأيدي.. الصغيرة، تمتد.. تتعالى صيحاتهم، يخنقها ضجيج عجلات القطار، وهدير عرباته، وأيدٍ خشنة.. وأيدٍ ناعمة، تخرج من نوافذ القطار.. يتساقط الخبز وبعض بقايا أكل.. و.. والقطار يبتعد، يتوارى خلف الجبل.. والأيدي الصغيرة ما زالت تلتقط نصيبها من على الأرض القذرة بفعل بصاق الركاب.. ونفاياتهم .
***
شجرة الحراز.. وعيدان القمح اليابس التي تهتز تبعاً لاتجاه الريح.. الصغار: يحمل كل منهم نصيبه في يده.. الأفواه الجائعة تمضغ، بلهفة. أصغرهم.. تبحلق عيناه في شيء.. أحمر، لزج، يسيل بين يديه، ينظر إليه، في خوف. وفي رغبة جارفة، يشمه!! .. ولكن لم يجد له رائحة يعرفها من قبل، وإن تكن هنالك رائحة.. ببطء، وبطرف متردد من لسانه.. يتذوقه.. تتملكه النشوة، والدهشة، معاً.. يتقافز فرحاً.. طعمه حلو، طعمه لذيذ.. يخفيه بكلتا يديه.. يجري، وجهته بيوت القرية المندسة في حياء، وربما في وجل، تحت سفح الجبل. من بعيد جاءتهم صيحاته الجذلى.. عاوز أوَرِّيها أمي!!، ضحكات الآخرين.. تلاحقه.. إنها تجربته الأولى، وإن.. لن تكون الأخيرة. قبل أن يتوارى عن أنظارهم. تتوقف ضحكاتهم.. ترتسم علامات الدهشة، يتبادلون نظرات الشك والارتياب، وقبل أن تنطق شفاههم.. ومن خلف ثنية الجبل البعيدة، يظهر لهم القطار.. الثاني، لم ينتظروا، ليفكروا كثيراً. حينما رأوا بأم أعينهم، بياض العربات التي تركت الجبل خلفها.. بعضهم أخذ يلتهم بسرعة ما بقي معه، وآخرون دسوا ما في أياديهم داخل فجوة في قلب شجرة الحراز المجاورة، صنعوها خصيصاً لمثل هذه الطوارئ.. وأسرعوا وجهتهم شريط السكة حديد .
***
من خلف زجاج النافذة بحجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخرة، توقف.. تبحلق عيناه في الصغار انتابته قشعريرة.. أحس بألم مر في الحلق.. توجع منه القلب، دمعت منه العين.. كانوا أيضاً صغاراً.. شفتاه ترددان، وبدون إرادته.. وكأنه رجع الصدى، لتلك الأيام البعيدة.. حينما كانوا هم أيضا صغار.. أعطونا نأكل، أعطونا نأكل، ولكن لا أحد يسمعهم.. الجرس يرن.. الجرس يرن ثانية، يعيده إلى الحجرة الصغيرة، الملحقة بعربة الصالون.. ورحلة الصيف.. وذلك الكبير. والجرس يرن، يقف أمامهم، ولا أحد يلتفت إليه. و.. ذلك الكبير يلوح بكلتا يديه للصغار.. تطول وقفته.. ولا أحد يلتفت إليه.. والكبير لا يزال يلوح بيديه، للصغار، والقطار يبتعد.. القطار الثاني، يبتعد…حينها يلتفت إليه أحدهم “أحضر كوب ليمون مثلج بسرعة”.. وبعدها لا أحد يلتفت إليه.. وقبل أن يتقهقر راجعاً إلى حجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخر، سمع الكبير يسأل أحدهم.. ماذا ستكتب عنهم؟؟.. رد الآخر.. "حتى الصغار يخرجون لاستقبالنا!!"، وبسمة على شفاه الآخرين.. وعلى القلب أحسّ ثقل، ذلك الجبل.. دخل حجرة الخدمات، الملحقة بعربة الصالون الفاخر ومن خلف النافذة، رأى أشباح الصغار تختفي رويداً، رويداً.. والقطار الثاني، يزيد من سرعته.. وصوت الصغار يأتيه من عميق ماضيه السحيق.. أعطونا نأكل.. أعطونا نأكل.. ولا أحد يسمعهم، فقد ابتعدوا.. كثيراً .

omeralhiwaig441@gmail.com  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: لا أحد

إقرأ أيضاً:

100 ناشر مصري يشاركون في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر

يستعد الناشرون المصريون للمشاركة في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر في دورته الـ27 التي تنطلق غدا، وتستمر حتى 16 نوفمبر 2024، بقصر المعارض «سافكس» بالجزائر العاصمة.

وقال محمود خلف، رئيس لجنة المعارض باتحاد الناشرين المصريين، لـ «الوطن»، إن ما يزيد على 100 ناشر مصري يشاركون في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر، مؤكدا أهمية معرض الجزائر كحدث ثقافي دولي.

تسهيل استخراج تأشيرات المصريين المشاركين بالصالون

وتابع: نسقت لجنة العلاقات العامة مع السفارة الجزائرية بالقاهرة؛ لتسهيل استخراج تأشيرات الناشرين المصريين المشاركين في الصالون، وبالفعل وصلت الكتب إلى الجزائر، وكذلك الناشرين المصريين المشاركين.

وتنظم وزارة الثقافة الجزائرية الطبعة السابعة والعشرين لصالون الجزائر الدولي للكتاب الذي يقام تحت رعاية رئيس الجزائر عبد المجيد تبون، تحت شعار «نقرأ لننتصر» بقصر المعارض، الصنوبر البحري (سافكس)، وتحل قطر ضيف شرف الدورة.

وكانت إدارة المعرض أعلنت مشاركة ما يزيد على 1000 دار نشر من 40 دولة في الطبعة الـ27 لصالون الجزائر الدولي للكتاب المرتقب تنظيمه في الفترة من 6- 16 نوفمبر.

مقالات مشابهة

  • رانيا البيايضة بين اللوحة والناظر بقلم حسين الاسدي
  • “الحويج” يؤكد على عمق العلاقات بين الشعبين الليبي والسوري
  • تصيب الكبار و الصغار| كل ما تود معرفته عن الإكزيما
  • “الحويج” يستقبل وفد الجالية السورية 
  • بعد سنوات من التهميش.. إطلاق أشغال توسعة طريق الوحدة التاريخي (صور)
  • إيلام الفيلية.. آكواريوم حوض سمك طبيعي في قلب الجبل
  • رد ربع مليون جنيه تحولت إليه بالخطأ.. الأزهري يمنح خطيبًا بالأوقاف لقب الإمام المثالي
  • ترامواي.. برنامج خاص خلال الصالون الدولي للكتاب
  • 100 ناشر مصري يشاركون في الصالون الدولي للكتاب بالجزائر
  • ماسك طبيعي للشعر الجاف والمنفوش لإعادة الحياة إليه