عبد الله علي إبراهيم

(29 نوفمبر 2022)
(هذه محاولة باكرة مني لتنبيه قوى الحرية والتغيير (قحت) على أنهم بصدد ارتكاب خطأ بحق أنفسهم والثورة في مساعيهم لعقد تسوية مع العسكريين بعد انقلابهم على الحكومة الانتقالية في 25 أكتوبر 2021. فقحت في تقديري كانت في حال ضعف مرموق خلوا به من كل شوكة يلجمون به إجراءات تلك التسوية ويشكمون منتوجها.

وكل تحليل لاندلاع هذه الحرب لا يأخذ ب"ميزان القوى" الذي وصفته وقت انعقاد الاتفاق الإطاري سيكون خبط عشواء).
في السياسة كما في الحرب تقع مرحلة وسطى في المواجهة بين الخصمين والتسوية. ومن ذلك أن يحرز طرف نصراً على الخصم ولا يقوى مع ذلك على مواصلة المعركة لاجتثاثه. فتعقب ذلك المرحلة الوسطي التي يعزز كل طرف مواقعه: يقوي المنتصر من أسباب قوته ويعيد المهزوم ترتيب صفه. يريد كل منهما أن يأتي للتسوية التي لا مهرب منها وقد رجح ميزان القوة لصالحه ليحظى بأفضل شروط التسوية.
هذا السيناريو الحربي هو ما يجري بين قوى الحرية والتغيير والعسكريين منذ انقلاب 21 أكتوبر 2021. فقد تمكن العسكريون من الحاق هزيمة كبيرة بقوى الحرية والتغيير جردتها من سلطان الدولة. ولم يتمكن الانقلابيون مع ذلك من إنجاز شيء مرموق يرمي بالحرية والتغيير في سلة المهملات. وبدا الانقلاب كحمار وقف في عقبة. ومع ذلك كان الانقلابيون هم الأنشط في تعزيز صفوفهم بينما تصدع صف الحرية والتغيير تصدعاً معروفاً. وعليه جاءت أطرافها التي قبلت التسوية “يد وراء ويد قدام” في معنى الخلو من الشوكة. وهذا مؤشر كبير أن التسوية إن لم تكن بصماً على وثيقة استسلام على شروط الانقلابيين الغالبين فهي بصم على شيء دون ذلك بقليل.
وهذه كلمة في بيان مزالق التسوية القائمة مشاوراتها هذه الأيام.
جاء على لسان ياسر، المفاوض عن المجلس المركزي للحرية والتغيير، عرض للتسوية في مؤتمر صحفي عقده المركزي في 16 نوفمبر فقال إنها ستنفذ على مرحلتين. فالمرحلة الأولى هي التراضي عند إطار مبادئ لإنهاء الانقلاب وقيام حكومة مدنية. أما المرحلة الثانية فهي لتطوير الاتفاق في سياسات للتنفيذ.
وجاء على رأس المبادئ في الاتفاق الإطاري تكوين جيش مهني بعيد عن السياسة يمتنع عن الاستثمار الاقتصادي في غير الصناعة الحربية وتحت إشراف وزارة المالية. ومنها إصلاح الشرطة والمخابرات علاوة على استقلالية الأجهزة العدلية. وشملت هذه المبادئ أيضاً إصلاح الاقتصاد ووقف تدهوره الذي يعاني السودانيون منه بإطلاق عملية شاملة للغاية. كما اتفقت الأطراف على مبدأ العدالة والعدالة الانتقالية. وستقوم بمقتضى التسوية حكومة مدنية ومجلس تشريعي ومجلس وزراء مدني لاستكمال الفترة الانتقالية.
وستكون المرحلة التالية هي تطوير الاتفاق الإطاري بمشاركة الجماهير أصحاب المصلحة في التغيير حول أربع قضايا وهي 1) العدالة والعدالة الانتقالية لشهداء نظام الإنقاذ، وخلال الثورة، وفيما بعد انقلاب أكتوبر 2021 2) قيام جيش مهني موحد تندمج فيه قوات الدعم السريع في القوات المسلحة 3) إصلاح اتفاق جوبا للسلام (أكتوبر 2020) وتنفيذه مع الأطراف الموقعة عليه 4) تفكيك نظام الثلاثين من يونيو وسيادة حكم القانون وكفالة الحقوق الأساسية.
بدا للمراقب أن المجلس المركزي ربما طلب من التسوية قوق ما يأذن به ميزان القوة كما هو قائم اليوم. فلم يأت للتسوية مع العسكريين من موقع قوة معززاً بقوى الثورة في الشارع كما في أغسطس 2019. فلم يجرده الانقلاب من كل سلطان، ويلغى كل قرارات حكومته الانتقالية، ويتخلص من طاقم كادره في الدولة فحسب، بل أغرى أيضاً خصومه من النظام القديم به فاستعادوا أكثر أراضيهم التي فقدوها بعد الثورة. بل ويحدق شارعهم المضاد الذي أطلقوه بقوة ببعثة الأمم المتحدة بالخرطوم، التي هي طرف في التسوية، لوقف التسوية. ووصف هؤلاء الخصوم التسوية بأنها ثنائية استبعدت قوى مؤثرة في الأمة لتعيد إنتاج دولة الحرية والتغيير “البغيضة”. وقالوا إنها لن تمر جاءت سلماً أو من فوق دبابة.
ليس أدل على الضعف الذي جاء به المركزي للتسوية من اعتزال أحد أميز مفرداته وهو حزب البعث له حتى خلال مساعيه لعقدها مع العسكريين. ومعلوم اعتزال المركزي من جماعات من تلك التي كانت في قوى الحرية والتغيير حتى مساومة أغسطس 2019 مع العسكريين. وطال الاعتزال وأسفر عن عدائية له سافرة.
كانت قوى الحرية والتغيير قد دخلت مفاوضات مساومة أغسطس 2019 من فوق غزارة شباب المقاومة واستماتتهم كما تقدم. وهؤلاء الشباب الآن ليسوا خارج المركزي وحسب، بل في خصومة معه أيضاً. فلم تعد لجان المقاومة تعترف حتى بالمركزي ككيان سياسي. وأخذت تتعاطى معه، متى نشأ الظرف، عن طريق مكوناته فرادى. وضعفُ المركزي مما عبر عنه أحد ممثلي المقاومة بقوله إن ميزان القوة تغير بعد انسحابهم منه منذ أغسطس 2019 احتجاجاً على التسوية الماضية. وأضاف أن المركزي لم يعد قويا بما يعني أنه صار جنرالات بلا جيش.
وتستعصم المقاومة حيال العسكريين بلاءاتها الثلاث: لا تفاوض لا شراكة لا مساومة. وتدعو لإسقاط الانقلاب بعمل مدني بواسطة تظاهراتهم المليونية، والإضراب السياسي، والعصيان المدني. وسأل راشد نبأ، الإعلامي النابه ب S 24، أحدهم عن عدم اهتمامهم خلال مقاومتهم بقضايا شاغلة للناس مثل الاقتصاد، والجريمة، والصراعات القبلية، وانفلات النيابة والشرطة في مواجهتهم. فكان رد عضو المقاومة أن الانقلاب هو السبب من وراء كل ما ذكر. وأنهم قائمون بعزيمة لإنهاكه حتى يصل لنقطة لا يكون بعدها قادراً على القمع لأنه لم يعد يقوى على تكلفته.
أما البعث الذي اعتزل مساعي المركزي للتسوية فقال إنها مفخخة والقصد منها شق جبهة الثورة دون أن تتمكن من بناء جبهة عريضة لمقاومة الانقلاب. وقال باستحالة أي تسوية مع الانقلابيين الذين اعاقوا الانتقال الديمقراطي، وغدروا بالوثيقة الدستورية (2019). ولم يسفروا منذ انقلابهم في أكتوبر 2021 إلا عن العداء منقطع النظير للثورة. والبعث متفق مع المقاومة في آلية التصعيد. وأكد مع ذلك حرصه على وحدة المركزي وسيبقى فيه لا يؤرقه الخلاف حول التسوية ليغادر ساحته.
وخلافاً للبعث الذي يرى في التسوية خطأ سياسياً كبيراً نجد الحزب الشيوعي يحمل التسوية محمل خيانة أخرى من الحرية والتغيير للثورة سبقوا إليها بقبولهم تسوية 2019. فقال إن المركزي يعتقد أن إنهاء الانقلاب سيتم لا بالعمل الجماهيري، بل بإنهاء التناقض الثانوي بينه وبين العسكريين في شراكة جديدة مفاتيحها بيد العسكريين. وهي شراكة وصفوها دائماً ب”شراكة الدم”. فليس ما نتحدث عنه تسوية، بل مؤامرة.
جاء المركزي للتفاوض، وهي ساحة صراع للقوى، مجرداً من القوة كما رأينا من اعتزال حتى جيشه السياسي، وهي لجان المقاومة، له. ولما خلا وفاضه من الشوكة احتاج لوازع الوطنية وندائها الذي لا يقاوم. فذكر ياسر الحيثيات التي أملت عليهم التفاوض مع العسكريين للتسوية. فالبلد، في قوله، خربت فتوقفت الخدمات الصحية التعليمية وغيرها علاوة على هشاشة الوطن واحتقاناته القبلية والمناطقية. ناهيك عن تعدد الجيوش. ففينا جيشان بميزانيتين منفصلتين ولكل علاقاته الخارجية المستقلة. وقال إن التفاوض مع العسكريين ليس منحة منهم، بل فرصة من صنع نضال الشعب ضد الانقلاب ولإقامة سلطة ديمقراطية. كما حفزهم للتفاوض ما رأوه من سباق النظام القديم للعودة للحكم. وعليه اختاروا قطع الطريق عليه بالمفاوضات مع العسكريين. ولا يستهين ياسر بالمصاعب التي تكتنف التسوية ولكن حلها عنده سيكون في وجودهم في السلطة وبواسطته.
وربما كان هذا التعويل على العسكريين في المساهمة في حل مشكلة من صنعهم، كما في رأي المركزي نفسه، ما استنكره الكاتب المخضرم كمال الجزولي. فقال إنه استمع لمؤتمر المركزي عن التسوية ولم ير كيف لمثله أن يطمئن لسداد تسوية لم يدخر لها قوة مع خصم لم يدخر من جانبه طاقة لهلهلته من كل الوجوه. فلن يقع له هذا الاطمئنان للمركزي إلا إذا كانت لديه” طريقته الخاصَّة في تقليم مخالب هؤلاء الانقلابيِّين، وخلع أنيابهم”. فإما هذه الطريقة الخفية وإما أن تكون التسوية هي قداس لاستسلام المركزي للعسكريين.

ibrahima@missouri.edu  

المصدر: سودانايل

كلمات دلالية: قوى الحریة والتغییر الاتفاق الإطاری مع العسکریین أکتوبر 2021 أغسطس 2019 فقال إن مع ذلک

إقرأ أيضاً:

ترامب يخول القادة العسكريين في الشرق الأوسط بتوجيه الضربات بلا إذن منه

بغداد اليوم - متابعة

أفادت وسائل إعلام، اليوم الأحد (16 آذار 2025)، أن الرئيس الامريكي دونالد ترامب فوض القادة العسكريين الأمريكيين في الشرق الأوسط بتوجيه ضربات عسكرية بلا إذن من البيت الأبيض.

وقالت صحيفة "بوليتيكو" الأمريكية بأن ترامب أعلن يوم أمس السبت أن الطائرات الحربية الأمريكية شنت جولة جديدة من الضربات الجوية ضد أهداف متعددة في اليمن التي تسيطر عليها "جماعة الحوثيين"، مضيفة أنه "سمح لقادته بتنفيذ الضربات "بلا رادع"، ودون الرجوع للبيت الأبيض".

وكتب ترامب على موقعه الاجتماعي "Truth Social" أن الضربات تهدف إلى تدمير ما سماه "قواعد متطرفين" وقادتهم ودفاعاتهم الصاروخية"، كما تهدف إلى "حماية السفن والطائرات والأصول البحرية الأمريكية، واستعادة حرية الملاحة".

ووفقا للصحيفة، تأتي هذه الضربات بعد أن قام البيت الأبيض بتخفيف القيود التي كانت مفروضة في عهد الرئيس الأمريكي السابق جو بايدن على القادة العسكريين فيما يتعلق بتنفيذ الضربات الجوية على أهداف المتشددين.

ونقلت عن مسؤول أمريكي طلب عدم الكشف عن هويته، أن الزيادة في الضربات التي شهدتها الصومال في الأسابيع الأخيرة والتي استهدفت مقاتلي حركة "الشباب"، بالإضافة إلى الضربات في سوريا ضد قادة تنظيم "داعش"، هي نتيجة لهذه السياسة الجديدة.

وأضاف المسؤول أنه "ستكون هناك المزيد من الضربات في المنطقة مع ظهور فرص جديدة للجيش لاستهداف قادة المتشددين".

مقالات مشابهة

  • البنك المركزي يكشف أسماء البنوك التي قررت نقل مقارها إلى عدن تفادياً للعقوبات الأمريكية!
  • البنك المركزي يعلن أسماء البنوك التي وافقت على نقل مقراتها من صنعاء إلى عدن
  • طوني فرنجية في ذكرى كمال جنبلاط: ألف تحيّة لوليد جنبلاط الذي يلعب اليوم دور صمّام الأمان
  • ترامب يخول القادة العسكريين في الشرق الأوسط بتوجيه الضربات بلا إذن منه
  • رئيس الجمهورية في ذكرى استشهاد كمال جنبلاط: قضى شهيدا في سبيل الحرية والتحرر من السجن الكبير
  • بري: كمال جنبلاط خاض معركة الحرية والمقاومة ضدّ إسرائيل
  • ساحة سعد الله الجابري تهتف للحرية.. نشطاء حلب يحيون ذكرى الثورة بمظاهرة حاشدة
  • تقرير أمريكي: إدارة ترامب تواجه نفس الخيار الذي أربك بايدن بشأن إنهاء تهديد الحوثيين بالبحر الأحمر (ترجمة خاصة)
  • عاجل . البنك المركزي اليمني يكشف عن نقل مراكز البنوك التي كانت بصنعاء الى إلى عدن. ضربة موجعة للمليشيا الحوثية
  • أمير طعيمة: أضع ضوابط خاصة لاختيار الأعمال التي أشارك فيها .. فيديو