"تقدم"، المتحوّرة من "قحت"، بمثابة الجسم المدني الحاضن لإرث ثورة ديسمبر المجيدة، وهي تحالف حزبي مهني سياسي ثوري، جمع لون طيف لا بأس به من فسيفساء المجتمع السوداني، وتوج شرعيته بدخول الدكتور عبد الله حمدوك رئيساً لحكومة الانتقال، الرجل الذي حظي بشبه اجماع من روّاد التغيير وغالب الشعب، الذي وجد فيه مصداقية الطرح وشفافية الممارسة، فظل كاريزما مؤثرة ومقبولة الى حد ما، من عموم قوى الحراك المدني، حتى انقلب الشق العسكري على حكومته، وبعدها تم فرض واقع مأساوي أدى لنشوب الحرب، التي غيّرت الموازين وقسّمت الناس لمصطفين مع فلول النظام البائد من منطلقات جهوية وأيدلوجية، وبالمقابل انبرت المجتمعات المهمشة لمناصرة قوات الدعم السريع، التي رأت فيها وجهاً منصفاً لاسترداد حقوقها، وهذا الانقسام لم يكن بعيداً عن تحالف "تقدم"، فلقد هتف بعض مناصروها (الجنجويد ينحل)، داخل قاعات المؤتمر التأسيسي، فانبرى احد التقدميين الدائن بالولاء للدعم السريع بصد الهتاف، وحدثت جلبة بالمكان تدخل على إثرها الحكماء، وذات المؤشر الدال على الانقسام سمعناه بلندن، حينما ذهب الدكتور حمدوك لاجتماع "شتم هاوس"، فارتفعت الأصوات المطالبة بحل قوات الدعم السريع، التي يراها المهمشون اليد التي لا بديل عنها في كسر بندقية الظالمين، لم يصمد تحالف "تقدم" لأنه حمل بذور فنائه منذ انطلاقته الأولى، فقد صمت بعض الراكزين فيه عن البوح بمناصرتهم لجيش الإخوان، وكذلك فعل بعض من يوالون قوات الدعم السريع، فالحرب وان طالت ايامها لابد وأن تكشف عن السبب العميق لاندلاعها، وجاء ذلك بعد دخول الجيش الاخواني مدينة ود مدني بعد انسحاب غريمه، ففرح وجدي صالح رائد التفكيك، وابتهج خالد سلك أمين سر حزب المؤتمر السوداني.
لقد تأخّر السياسيون كثيراً عن إعلان موقفهم من الحرب، وهذا بدوره كبل الحراك المدني، فتلبس قادة "تقدم" الحالة الرمادية المختبئة خلف شعار "لا للحرب"، ما مكّن طرفيها من الاستحواذ على المشهدين السياسي والعسكري، إذ أنه لم يكن الشعار الرافض للحرب بذلك القدر من المبدئية، فجل الذين رفعوه تواروا خجلاً عن كشف مواقفهم الحقيقية، تجاه المؤسستين العسكريتين المتصارعتين، وهذا المسلك هو تكرار لما سبق من تماطل للقوى المدنية، ممثلة في الأحزاب الثلاثة الكبيرة، في خمسينيات وستينيات القرن المنصرم، فالمماطلة السياسية ارهقت جسد الدولة لما يقارب السبعين عاما، وما آلت إليه البلاد من حرب شاملة جاء بسبب إدمان هذه النخبة الثلاثية القديمة المتجددة للترف الفكري، والتراكم الكمي والنوعي المستمر للخيبات الوطنية أفرز الصدام المسلح، كحتمية تاريخية لا فكاك عنها، وسحباً على ذلك انقسمت "تقدم" بين مجموعتين، إحداها كفرت بالدولة القديمة وأعلنت سعيها للتأسيس الجديد، والأخرى رفضت هدم القديم وإعادة التأسيس والترميم، فتحججت بالهيكلة والإصلاح والحفاظ على الرمزية القديمة لمؤسسة الدولة، الأمر الذي كفرت به المجموعة الأولى كفراً بواحاً لا توبة ولا أوبة فيه، وأمسى ضرورياً اعلان المفاصلة والتسريح بالإحسان، مهما كان الثمن، حتى ولو أدى ذلك إلى المجازفة بوحدة التراب، هكذا يقول لسان حال الكافرين بعبادة الصنم القديم، فلم يعد في العمر بقية وللصبر حدود، خاصة وأن وجه الحرب الجهوي الصارخ أخذ في المثول رغم تفاؤل الرومانسيين، فمن قبل، حينما تخاصم الاخوان جهوياً في مفاصلتهم الشهيرة، كانوا يلوحون بأيديهم أن لا أمل في مواصلة المسير مع من لا يتمتع بالنية الصادقة في الإمساك بالمعروف.
اذا كانت سلطة بورتسودان الاخوانية غير الشرعية قد استمالت اليسار الجهوي لصفها، وغازلت بني عمومتها وانفرجت اساريرها، فإنّ الأوان قد آن لكي يكاشف الساسة الصفويون شعوبهم بالحقيقة الراسخة، وهي استحالة المضي معاً على ذات الدرب القديم، ووجوب الإقرار والاعتراف بما حاق بالأجيال من عنت ومشقة وضياع، وراء الركض من أجل تحقيق المشروع الرومانسي الجميل المتخيل، فحقن الدماء أولى من الإصرار على عبادة البقرة المقدسة غير الحلوب، وليس صحيحاً ما يروج له الماسحون على قشور الجروح الوارمة، من أن الانقسام ظاهرة صحية وخصيصة ديمقراطية، ليس الأمر كذلك، إنّ الانقسام المتوالي حول المبادئ الأساسية، لهو مهدد وطني ماثل وملحوظ يجب الانتباه له، فلا يمكن بأي حال أن يكون الانقسام المفضي للانفصال بالأمر المستسهل وطنياً، بل هو انعكاس لأزمة مستحكمة ومرض قديم متجذر، لن يشفى منه الجميع الا بمواجهة انفسهم، فالرؤية المركزية المتحوصلة حول نفسها فصلت جنوب السودان، وها هي تجير كسب الثوار لتصب عصيره المعتق في ماعون القتلة والمجرمين، من بقايا النظام البائد في بورتسودان، فالانحياز العرقي والانعطاف الجهوي اليوم هو الموجّه لبوصلة السياسة والدائر لشئون الحكم، لكن الناس يغالبون هذه الحقيقة بالنكران، رغم أنها تطل بوجهها الصارخ بين الفينة والأخرى، فهل كتب على السودانيين أن يصارعوا طواحين هواء وهم الوحدة الكاذبة البائن في التطورات الأخيرة؟.
إسماعيل عبد الله
ismeel1@hotmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
هًلْ تَصْمُد حُكوَمتا بُورتسُودان ونِيروْبي أمَام تَنَاقُضاتِهما الدَاخِليَّة القَاهِرة؟
Will the Port Sudan and Nairobi Governments Survive
Their Devastating Internal Contradictions?
بروفيسور/ مكي مدني الشبلي
المدير التنفيذي – مركز مأمون بحيري، الخرطوم
????تُعد التناقضات الداخلية داخل أي تحالف سياسي أو عسكري عامل ضعف جوهري بسبب تحورها إلى صراعات على السلطة، وانشقاقات عميقة تؤدي لفقدان القدرة على اتخاذ قرارات موحدة. ويشهد السودان الذي يعاني من الحرب المستعرة معاناة حكومتي بورتسودان ونيروبي من هذه التناقضات، مما يجعل استدامة تماسكهما محفوفاً بالشك والريبة.
????حكومة تحالف بورتسودان تعاني من تناقض داخلي رئيسي تؤججه نزعة كلا مكونيه العسكري والإسلامي الغريزية للانفراد بالسلطة، مما يرجح صدامهما الوشيك. ويؤكد ذلك ردة فعل الإسلاميين الهوجاء ضد الفريق أول البرهان عندما انتقد المؤتمر الوطني في فبراير الماضي. وذلك فضلاً عن بروز تيارات داخل الجيش قوامها بعض القيادات الوسيطة وصغار الضباط غير الراضين عن تحالف الجيش مع الإسلاميين الذي يقود للصدام مع المجتمع الدولي واستمرار العزلة والمقاطعة التي أقعدت السودان لخمسة وثلاثين سنة. ولذا تفضل هذه التيارات تعجيل التفاوض مع الدعم السريع لوقف الحرب، بينما الإسلاميون يرفضون هذا التيار الذي يقود لتسوية لا تضمن لهم مكاناً مرموقاً في السلطة.
???? وتتفاقم التناقضات الرئيسية في تحالف بورتسودان عند تسليط الضوء على مكوناته الأخرى التي تتآلف مرحلياً لتحقيق مكاسب ذاتية. ويشمل ذلك الحركات المسلحة الموقعة على اتفاق سلام جوبا التي لم تتخلَ عن حيادها في الحرب بين الجيش والدعم السريع إلا بعد دنو عام على اندلاعها، مما يؤكد طغيان المصلحة الذاتية في موقفها من التحالف مع الجيش. حيث تحالفت هذه الحركات مع الجيش مؤخراً للحفاظ على امتيازاتها عن طريق تقاسم السلطة، رغم عدم توافقها مع الإسلاميين الذين قتلوا مئات الآلاف من مواطنيهم أثناء حكم الإنقاذ. ولا يخفى أن عدداً من مكونات هذه الحركات قد انضم مسبقاً للدعم السريع في إطار تحالف نيروبي.
????وتتواصل هيمنة الاعتبارات المصلحية في تحالف بورتسودان في تأرجح ولاء قوات درع السودان بين طرفي الحرب الجيش والدعم السريع وفقاً لما تقتضيه المصلحة الذاتية، الأمر الذي ينذر بصدام محتمل حال تعارض مصالح هذه القوات مع مصالح المكونات الأخرى في تحالف بورتسودان الهش.
???? أما كيانات شرق السودان التي لعبت دوراً جوهريا في تهيئة البيئة السياسية والاقتصادية لانقلاب أكتوبر 2021 وإعادة الإسلاميين لواجهة السلطة، فضلاً عن استضافتها لتحالف بورتسودان، فإن زعماءها يشعرون بهضم حصتهم من النفوذ السياسي والاقتصادي مما قد يدفعهم للتمرد على هذا التحالف وسلبه حتى من الاستضافة الجغرافية. كما أن بعض الإدارات الأهلية في شرق السودان تدعم الجيش لأسباب قبلية رغم الخلافات حول توزيع المناصب والموارد، مما قد يؤدي إلى انسلاخ هذا المكون المهم في تحالف بورتسودان.
????ونظراً لتفاقم التناقضات الجوهرية بين مكونات تحالف بورتسودان فقد لجأ داعموه لاستغلال الإدارة الأهلية كأداة سياسية وقبلية لدعم التحالف الهش. بيد أن مكونات هذه الإدارة الأهلية تعاني هي الأخرى من تمايز الولاءات، فبعض هذه الزعامات القبلية تدعم الجيش، وبعضها يدعم الحركات المسلحة، بينما زعامات أخرى تتحالف مع الإسلاميين، إلى جانب الزعامات التي تدعم كيانات شرق السودان وقوات درع السودان. وبالتالي أصبح استقطاب الإدارة الاهلية عاملاً لتأجيج التناقضات الجوهرية داخل تحالف بورتسودان، بدلاً عن احتوائها.
????أما بالنسبة لحكومة تحالف نيروبي، فهي بدورها تكابد عبئاً ثقيلاً من التناقضات الجوهرية الداخلية التي تهدد تماسكها واستدامتها. فالدعم السريع الذي يمثل محور تحالف نيروبي يعاني من الاختراق المزدوج المتمثل في العسكريين المقاتلين المتفلتين، والاختراق السياسي المتمثل في الولاء القديم للإسلاميين لدى العديد من قياداته. كما أن استطالة الحرب قد أفرزت قيادات ميدانية طامحة في تقاسم السلطة والثروة مع عائلة قائد الدعم السريع المهيمنة. أما من حيث التكوين القبلي للدعم السريع، فعلى الرغم من تكوين معظم قواته من قبائل عربية دارفورية، لكن برزت نذر انقسامات بين الرزيقات والمحاميد والماهرية وغيرها، مما روَّع بعض ضباط الدعم السريع من التضحية بهم في أي تسوية مستقبلية لصالح قيادات قبلية عليا.
????ومن ناحية أخرى، فإن التناقضات الجوهرية بين الدعم السريع والحركة الشعبية لتحرير السودان - الشمال (الحلو) تطغى عليها الاعتبارات الأيديولوجية فالحركة الشعبية (الحلو) تتبنى مشروع علماني وفيدرالي، بينما الدعم السريع ليس لديه موقف واضح من هذه القضايا المحورية، حيث أن قواته تضم إسلاميين سابقين رغم خطابها المناهض لهم، مما يثير احتمالات الصدام الأيديولوجي في هذا التحالف. أما من الناحية العسكرية، فقد يسعى الدعم السريع لبسط نفوذه العسكري على أكبر مساحة جغرافية لتحالف نيروبي، بينما الحركة الشعبية تريد حكماً ذاتياً حقيقياً في جبال النوبة والنيل الأزرق. وتنذر هذه التناقضات الأيديولوجية والعسكرية الجوهرية بصدام مرجح بين الدعم السريع والحركة الشعبية.
????وبالنسبة للتناقضات الجوهرية داخل تحالف نيروبي المتعلقة بحزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي الأصل، فانضمام كليهما لتحالف نيروبي قد صاحبه تناقضات جوهرية داخل الحزبين بين أجنحتهما المتصارعة. فالحزبان يعانيان من انقسامات بين تيار مؤيد للتحالف مع الدعم السريع، وتيار آخر لا يرغب في التحالف مع ما يعتبرها ميليشيا متهمة بارتكاب انتهاكات جسيمة في حق الشعب السوداني. ومن ناحية أخرى، فإن كلا جناحي الحزبين المشاركين في تحالف نيروبي يكابدان أيضاً من التناقض المتعلق بالخلفية الدينية للحزبين التي لا تطيق التقارب مع الحركة الشعبية بسبب مواقفها العلمانية. وإلى جانب كل ذلك يبرز تناقض جوهري بين جناحي حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي الأصل يضرمه التنافس على موقع صداري داخل التحالف، مما يؤجج الصراع الخفي والعلني بين الحزبين، وبينهما وبين بقية المتنفذين في تحالف نيروبي.
????وفيما يتعلق بالتناقضات داخل التحالف المتعلقة بقوى الجبهة الثورية (الحركات المسلحة من دارفور والنيل الأزرق)
فيطغى عليها شمول الجبهة الثورية فصائل مسلحة لديها حسابات مختلفة مع الدعم السريع، وبعضها يخشى أن يصبح الدعم السريع القوة المهيمنة في دارفور سيما وأن الدعم السريع قد فتك بذويهم خلال حكم الانقاذ، مما يؤدي لتفضيل بعض هذه الفصائل التفاوض مع الجيش بدلاً عن الدعم السريع لضمان استمرار نفوذها وحصتها من الثروة.
???? وتتواصل أزمة التناقضات الداخلية بين مكونات تحالف نيروبي لتشمل مكون الإدارة الأهلية حيث أن بعض زعماء القبائل يدعمون الدعم السريع، بينما زعماء آخرون ترتبط مصالحهم الحقيقية بتحالف الجيش، مما حدا بالدعم السريع اللجوء للإغراء لكسب ولاءهم المُغْرِض. ومن ناحية أخرى، فإن بعض زعماء القبائل لا يثقون بالحركات المسلحة داخل تحالف نيروبي ويخشون إقدام هذه الحركات للسيطرة على مناطقهم. وذلك فضلاً عن أن بعض الإدارات الأهلية ترى أن اعتماد الدعم السريع على القوة العسكرية يهدد توازن القوى القبلية التقليدية.
???? أما بالنسبة لمكون الطرق الصوفية في تحالف نيروبي، فإن بعض شيوخها يتوجسون من خلفية تحالف الدعم السريع مع الإسلاميين مما يثير مخاوف حول توجهاته المستقبلية. كما يوجد تباين منهجي بين المكونين حول مستقبل الائتلاف. ففي حين يجنح الدعم السريع لحسم معارضيه بقوة السلاح، فإن قادة الطرق الصوفية يغلبون اللجوء للمناظرة والمساجلة السلمية. وفوق ذلك، فإن كل الطرق الصوفية المنضوية لتحالف نيروبي تخشى لجوء الحركة الشعبية لفرض أجندتها العلمانية، مما يؤدي إلى صراع ديني داخل التحالف.
????وحتى الأعضاء السابقين في مجلس السيادة المنتمين لتحالف نيروبي لا يخلو تواجدهم من تناقضات جوهرية مع الآخرين تهدد استدامة استمرارهم. فبعض هؤلاء الأعضاء التزموا سابقاً بتحقيق الحكم المدني الديمقراطي، بينما الدعم السريع والحركة الشعبية شمال لا يقدمان التزامات موثوقة حول مستقبل الحكم بلجوئهما لنهج غير شرعي في وضع الدستور وتكوين الحكومة.
???? وفي المحصلة فإن التناقضات الداخلية الجوهرية التي يكابدها تحالفا بورتسودان ونيروبي لا ترجح صمود أي من التحالفين أمامها بأدنى درجات اليقين، بل إن هذه التناقضات تثير الانتباه إلى أيهما سينهار قبل الآخر كعاقبة وازنة للتشرذم والانقسامات الداخلية الحتمية. ويكمن السبيل الوحيد لدرء هذا المآل القمطرير عن السودان البحث عن تحالف ثالث يستمد تماسكه وصموده من مسارات وقِيَم ثورة ديسمبر الشعبية.
melshibly@hotmail.com