الكتابة بالحياكة.. كيف نخيط النصوص
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
آخر تحديث: 13 فبراير 2025 - 11:28 صعز الدين بوركة الدخول في عالم الخطّاط عادل السوداني يحتاجُ إلى تذوقٍ فنيٍ من نوعٍ خاصٍّ، كونه يجمع بين أذواق فنيَّة مختلفة في لوحة واحدة، فهو لا يجمع فقط بين فنٍ عربيٍ وآخر غربي، بل هناك تلاقحٌ ثقافيٌّ في أعماله بين ثقافات مختلفة.لنبدأ القول مجازفين بأن “الكتابة خياطة، والخياطة كتابة”، وما بين حركة القلم على الورق وحركة الإبرة في القماش، يتشكل نسيج العالم، الذي نحن من صلبه أيضا، عالمٌ ينهض من هشاشة المادة وارتعاش اليد.
ليس القلم مجرد أداة، ولا الورق مجرد سطح، بل هما امتدادان لحالة من التوتر المستمر، كوترٍ مشدود بين ما يُقال وما يُخفى، ما يعلن عنه وما يُكتب بين السطور، أو ما يُخاط بين ثنايا ثوب مرقع بتفاصيل غامضة هندستها. حين تنغرز الإبرة في عين القماش، فإنها تُحدث تمزقًا قبل أن تترك غرزتها، وهكذا الكلمات، تمزق الصمت ثم تحاول جاهدة أن ترقعه بحبر سواد المعنى المتناثر هنا وهناك، أما القارئ النبِه فلا فرق بينه وبين ذواق شراء الألبسة الفاخرة، كل منهما يبحث عن شيطان التفاصيل. نكتب لأننا نخاف الفراغ، نخاف ذلك البياض الذي يشبه النسيج الذي لم تُفض وحدته قط. كل كلمة هي محاولة لترويض البياض، لإعادة تشكيله وفق رغباتنا أو أوهامنا. لكن هل يُمكن ترويضه حقًا؟ هل النص هو ما نُنتجه، أم هو ما يَنفلت منا؟ الكتابة فعل مزدوج؛ هي بناءٌ وهدم، هي محاولةٌ لرسم حدودٍ لما لا يمكن حدّه. نحن نخيط الكلمات كما نخيط الأحلام، نحاول أن نصنع من هشاشة الخيوط شكلًا يقاوم الزمن، لكننا نعلم في أعماقنا أن كل غُرزنا مؤقتة، وأن النسيج، مهما بدا متماسكًا، يحمل داخله بذور تمزقه.النص، في جوهره، ليس كيانًا مستقرًا. إنه امتدادٌ حي، نسيجٌ ينبض بتوتره الخاص.غير أنه نسيج غير مكتمل، دائم التمدد والتقاطع.أو مثلما يخبرنا دريدا؛ الكتابة ليست بناءً بقدر ما هي تشتيت. الكتابة ليست مجرد وسيلة لنقل الأفكار، بل هي حوارٌ بين ما هو كائن وما يمكن أن يكون، بين المرئي والمخفي، بين الثابت والمنفلت. كل جملة هي درزة، وكل كلمة هي غرزٌ في عين الذاكرة. لكن، كما أن الإبرة تُخفي بقدر ما تُظهر، كذلك الكلمات، تحمل معناها وتُخفيه في آنٍ معًا.نحن لا نحوك نصوصًا لنستر بها ذواتنا فقط، بل لنكشف هشاشة هذه الذات، لنقف عند حدودها المهترئة. كل كلمة هي درزة في قماش يتهالك، وكل جملة هي محاولة لإبقاء هذا التهالك في حالة جمال. النص لا يُقرأ بعدّه كلا متماسكا، بل يُعاش كمجموعة خيوط منفلتة، كل خيط يشير إلى احتمالاته الخاصة، إلى طريقته الخاصة في الهرب من قبضة الكاتب. ومنه فإن النصوص ليست مجرد كلمات متراصة ومتقابلة ومتناغمة، بل هي أرواح تتنفس داخل حدود اللغة. كل نص هو كائن حي، ينبض بتوتره الخاص، يرفض الاستكانة ليد الكاتب أو لعين القارئ، مثلما يستعصي على مهندس الألبسة الفخمة تصميم لباس جديد، وحياكة شكل بديل واختراق عين ذوق ثابت.ليست الكلمات أدوات تُستخدم لبناء نص مثلما يفعل النساجون مع رقع الثوب، بل هي كائنات لها إرادة، لها حياة مستقلة، لها تاريخها الجينيالوجي وجذورها الضاربة في أعماق التحولات الجيولوجية والمناخية الصعبة، كل كلمة هي تاريخ معجمي مستقل بذاته. لهذا فحين نكتب، فإننا لا نُسيطر على الكلمات بقدر ما نُفاوضها، نُحاول أن نجعلها تُمثلنا، لكنها دائمًا ما تُفلت منا، تُصبح شيئًا آخر، تُصبح نصًا يحمل احتمالاته الخاصة، مساراته التي لم نكن نتوقعها.ولكن، ماذا عن الخياطة بوصفها فعل صناعة حياة؟ألا تكشف الخياطة، في جوهرها، عن محاولة الإنسان لترميم ما ينهار باستمرار؟ كيليطو ربما سيبتسم هنا، وسيقول إن الخياطة فعلُ نسيان. نحن نخيط لنعيد بناء ذاكرة ممزقة، لنُخفي ثقوب الواقع بثقوبٍ أخرى.الكاتب، مثل الخياط، يُخفي فشله بالدرزات، يجعل من الهزيمة لوحةً مرئية، ومن التمزق نغمةً موسيقية.النصوص ليست إلا محاولات فاشلة لكتابة نصوص أخرى، تمامًا كما أن الخياطة ليست إلا استعادة عبثية لقماشة لا يمكن أن تكتمل أبدًا. يكاد يدفع بلانشو، إن أخذنا الأمر جهة عبقريته النقدية وفطنته الأدبية، الخياطة إلى فضاء الاختفاء.الكتابة، بالنسبة له، ليست خلقًا بل محو. كل كلمة هي نزعٌ للمعنى، كل نص هو تقويضٌ لصاحبه. الكاتب لا يصنع النسيج، بل يضيع فيه.وكلما خاط جملة جديدة، كان كمن ينسج شراكًا ليوقع نفسه فيها. النصوص هي قبور مفتوحة؛ كل كتابة هي موت مؤجل. أما في الكتابة، فنحن لسنا صنّاعًا فقط، بل نحن أيضًا صُنّاع أنفسنا. النصوص لا تُعبر عنا فقط، بل تُعيد تشكيلنا، مثلما يفعل الثوب الجديد بهيئة الجسد أمام المرآة، حيث يرى الجسد نفسه وقد اكتسى نسيجا جديدا يحمسه للظهور.فتصير كل جملة نكتبها درزة في قماش الذات، لكنها أيضًا تمزق في صلب هذا القماش، إننا نخيط بالثقب ونكتب بالتمزيق. ومن ثم فإن الكتابة ليست فقط وسيلة للتعبير عن الهوية، بل هي وسيلة لخلقها، لإعادة تعريفها. نحن نصوغ أنفسنا بالكلمات، لكننا أيضًا نكتشف أن هذه الذات التي نكتبها ليست كما كنا نتصورها. الكلمات تكشف هشاشتنا، تكشف تناقضاتنا، تجعلنا نرى أنفسنا في ضوء لم نكن نجرؤ على مواجهته.نرتدي كلماتنا بقدر ما نرتدي ألبستنا التي تؤثث دولابا أفقيا مغروسا في جدار.الكتابة ليست نسيجًا نرتديه لنحتمي من برودة العالم، بل هي الكساء الذي يجعلنا نواجه هذا العالم دون أقنعة. كيف لا وقد أصبحت الكتابة أشبه بجسد يشفّ عن كل ما يختبئ تحت سطحه؟ هل يمكننا فصل الكتابة عن الجسد؟ الكاتب كخيّاط يحفر في جلد الكلمات، يدمي يديه وهو يحاول إمساك الشكل، ولكنه دائمًا ما ينتهي إلى مسخٍ، إلى شيءٍ غير مكتمل، شيءٍ يخون توقعاته.الكتابة، إذن، ليست مجرد فعلٍ فردي، بل هي أيضًا فعلٌ مشترك. النصوص تحمل داخلها القارئ، ذلك الآخر الذي سيعيد تشكيلها، الذي سيُدخل فيها حياته الخاصة، مشاعره، أحكامه.النصوص ليست ملكًا لأحد، بل هي مساحات مفتوحة للحوار، للتوتر، للانفتاح. حين نكتب، فإننا نخلق عالَمًا يُمكن للقارئ أن يعيش فيه، لكنه ليس عالمنا وحده. النصوص، مثل الأقمشة، تتغير مع كل يد تلمسها، مع كل عين تقرأها. لكن ماذا عن الزمن؟ الكتابة هي أيضًا فعل زمني، هي محاولة لتثبيت ما لا يمكن تثبيته، لترويض ما يهرب دائمًا. الزمن، كالقماش، ينزلق من بين أيدينا، لكن الكلمات تحاول أن تقبض عليه، أن تُخلده.كل نص هو شهادة على لحظة، لكنه أيضًا محاولة للهروب من هذه اللحظة، للانفلات منها نحو شيء أكبر. النصوص ليست فقط نتاج الزمن، بل هي أيضًا طريقة لمقاومته، لمواجهته.لكنها، في النهاية، تبقى جزءًا من هذا الزمن، تبلى معه، تتغير، تفقد معناها أو تكتسب معاني جديدة.ليست الكتابة، إذن، فعلًا بسيطًا أو ميكانيكيًا، بل هي تجربة وجودية، طريقة للعيش داخل اللغة، داخل الهشاشة، داخل التوتر. حين نكتب، فإننا نحاول أن نصنع من الكلمات بيتًا، مأوى، لكن هذا البيت دائمًا ما يكون هشًا، دائمًا ما يكون معرضًا للانهيار.الكتابة هي محاولة للعيش داخل هذا الانهيار، لجعل التمزق جزءًا من الجمال، لجعل الفوضى شكلاً من أشكال النظام.كل كلمة نكتبها هي خيطٌ جديد يُضاف إلى نسيج الذات، لكنها أيضًا خيطٌ يُنزع من هذا النسيج. الكتابة هي فعل بناءٍ وهدم في الوقت ذاته. نحن نصوغ نصوصنا، لكنها تصوغنا أيضًا.النصوص ليست مجرد انعكاسٍ لذواتنا، بل هي مرآة تكشف لنا ما لا نعرفه عن أنفسنا. ما الذي يبقى إذن؟ النصوص، مثل الأثواب، تبلى، لكنها تترك أثرًا، تترك ذكرى. الكلمات التي نكتبها اليوم قد تُنسى، لكنها تترك خيوطًا في ذاكرة الزمن، تجعلنا نتذكر أن الكتابة ليست فقط وسيلة، بل هي غاية، هي حياة تُعاش داخل اللغة، داخل النسيج، داخل ما لا يمكن الإمساك به. وباقي القول إذن: حاك [يحكي]، خاط [يخيط] نصا، والكتابة [خياطة]، والتأليف [تخييط]، وضع القلم على الورق [درز] وتحريكه [غرز] الإبرة في عين ثوب: [text_ure].
المصدر: شبكة اخبار العراق
كلمات دلالية: النصوص لیست هی محاولة لیست مجرد دائم ا ما لا یمکن بقدر ما نسیج ا
إقرأ أيضاً:
منطقة الشرق الأوسط ليست بمنأى عن التوترات التجارية (النقد الدولي)
«أ.ف.ب»: من المتوقع أن يشهد النشاط الاقتصادي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا تسارعًا هذا العام، رغم استمرار أجواء عدم اليقين التي تؤثر على الاقتصاد العالمي، بحسب ما أفاد تقرير صادر عن صندوق النقد الدولي اليوم.
وأوضح تقرير «آفاق الاقتصاد الإقليمي: الشرق الأوسط وآسيا الوسطى» أن النمو سيتزايد في عامي 2025 و2026، ولكن بوتيرة أبطأ مما كان متوقعًا في السابق. ووفقًا للتقديرات، سيحقق اقتصاد المنطقة نموًا بنسبة 2.6% في عام 2025، و3.4% في 2026، مقابل 1.8% في عام 2024.
وأشار جهاد أزعور، مدير إدارة الشرق الأوسط وآسيا الوسطى في صندوق النقد الدولي، إلى أن الرسوم الجمركية الإضافية التي فرضتها الولايات المتحدة في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب لن تؤثر كثيرًا على المنطقة نظرًا لضعف الترابط الاقتصادي بينها وبين واشنطن، واستثناء قطاع الطاقة من هذه الرسوم.
غير أن أزعور أشار إلى أن حالة عدم اليقين العالمية تلقي بظلالها على الاستثمارات، والأسواق المالية، وأسعار النفط، مما يعمّق الاتجاه التراجعي في الأداء الاقتصادي. وفي هذا السياق، خفّض صندوق النقد توقعاته لبلدان المنطقة المصدّرة للنفط في عام 2025 بمقدار 1.7 نقطة مئوية.
وتخفي هذه التقديرات فروقات كبيرة بين الدول النفطية، حيث من المتوقع أن تحقق دول الخليج نموًا بنسبة 3%، مقابل انكماش بنسبة 1.5% في إيران والعراق. أما في الدول المتأثرة بالنزاعات كسوريا، اليمن، السودان، والأراضي الفلسطينية، فتبدو التوقعات أكثر تشاؤمًا وسط تراجع المساعدات الدولية.
وأوضح أزعور أن المساعدات الدولية انخفضت بنسبة 25% منذ 2021، ومن المرجح أن يستمر هذا التراجع، ما يشكّل خطرًا على الدول الأكثر هشاشة. ولم يشمل التقرير توقعات تخص لبنان وسوريا، حيث تعاني الأولى من تداعيات صراع مع إسرائيل وانكماش بنسبة 7.5% في 2024، في حين خرجت الثانية من حرب أهلية طويلة.
ورغم الآمال بأن تساهم مشاريع الإعمار في تحفيز الانتعاش الاقتصادي، تبقى الاحتياجات التمويلية مرتفعة. وأشار أزعور إلى اهتمام خليجي بمساعدة الدول المتضررة، لكنه شدد على أهمية إطلاق إصلاحات اقتصادية واجتماعية لاستعادة الثقة وتحقيق الاستقرار.