“حركة المقاطعة” .. سلاح سلمي في مواجهة الاحتلال الصهيوني
تاريخ النشر: 13th, February 2025 GMT
في أعقاب الهجمات الوحشية والجرائم المروّعة التي يرتكبها الكيان الصهيوني في قطاع غزة، تصاعدت وتيرة الضغوط الشعبية والدولية لمقاطعة منتجات هذا الكيان، وقد برزت حركة مقاطعة المنتجات الصهيونية المعروفة باسم “BDS” (المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات) كأداةٍ فاعلة لممارسة الضغط الاقتصادي والسياسي على تل أبيب، بُغية إجبارها على وقف سياسات الاحتلال وانتهاكات حقوق الإنسان، الأمر الذي أثار قلقاً عميقاً في أوساط الصهاينة.
وفي هذا السياق، كشفت صحيفة “غلوبس” العبرية في تقريرٍ نشرته يوم الاثنين المنصرم، أن “إسرائيل تتذيل القائمة في مؤشر العلامات التجارية الوطنية، في ظاهرةٍ تُعدّ نادرة الحدوث، حيث يسود شعورٌ عارمٌ بالنفور والكراهية تجاه المنتجات التي تحمل وسم “صُنع في إسرائيل”.
وتجدر الإشارة إلى أن تصنيف مؤشر العلامات التجارية الوطنية، الذي أُجري في شهري يوليو وأغسطس 2024، استند إلى استطلاعٍ شامل شمل أربعين ألف مشارك من عشرين دولة، ويقوم هذا المؤشر بتصنيف خمسين دولة وفقاً لستة معايير رئيسية تُحدّد قوة علامتها التجارية، وهي: الأداء السياسي ونظم الحوكمة، والمنظومة الثقافية، والنسيج المجتمعي، والقدرة التصديرية، وجاذبية الاستثمار والهجرة، والمقومات السياحية.
كشفت الدراسات البحثية المُستفيضة في هذا المضمار، عن موقفٍ حاسمٍ لـ “جيل Z”، حيث يتجلّى رفضهم القاطع للكيان الصهيوني، مانحين إياه أدنى درجات التقييم في شتّى المعايير المُعتمَدة، وقد أماط تقرير الصحيفة العبرية اللثام عن ارتباط “إسرائيل” الوثيق بحالة الاضطراب العالمي، حيث باتت تُصنَّف ضمن القوى المُزعزِعة للاستقرار، بدلاً من كونها عنصراً داعماً للتوازن الدولي.
وفي هذا المنحى، أدلى “موتي شيرف”، المؤسِّس والرئيس التنفيذي لمؤسسة “Brands Israel” المُتخصِّصة في تسويق الصورة الصهيونية عالمياً، بتصريحاتٍ لافتة قائلاً: “تشهد العلامة التجارية الإسرائيلية منعطفاً خطيراً غير مسبوق منذ اندلاع المواجهات”.
وأردف شيرف، مُسلِّطاً الضوء على تآكل الشرعية الإسرائيلية في المحافل الدولية وانحسار نفوذها على الساحة العالمية: “لقد آن الأوان للإقرار بإخفاق المنظومة الدبلوماسية التقليدية، والشروع في تبنّي نماذج إبداعية مُبتكَرة لإعادة تشكيل الصورة الذهنية الإسرائيلية”.
ما هي حركة المقاطعة؟
برزت حركة المقاطعة العالمية (BDS)، التي تجلَّت انطلاقتها عام 2005 بمبادرةٍ فلسطينية خالصة، مجدداً في صدارة المشهد العالمي إبَّان الحرب المستعرة على غزة، وقد نجحت هذه الحركة، مستندةً إلى دعمٍ شعبي ومؤسساتي متصاعد، في نسج شبكة ضغوط محكمة حول الكيان الصهيوني، تمتد من المجال الاقتصادي إلى الأبعاد السياسية والثقافية، مُحدِثةً تحولاتٍ جوهرية في مسار سياساته، وها هي ثمار هذه الحملة تتجلى بوضوح بعد ستة عشر شهراً من العدوان على غزة، حيث بات رئيس الوزراء الصهيوني بنيامين نتنياهو يتجرع مرارة الضغوط المتصاعدة.
وتتمحور الأهداف السامية لهذه الحركة حول ثالوثٍ نضالي متكامل: تحرير الأراضي الفلسطينية من براثن الاحتلال – بما فيها الضفة الغربية والقدس الشرقية – وكسر أغلال الحصار المفروض على غزة، ووضع حدٍ نهائي لسياسات التمييز العنصري ضد أبناء فلسطين في الأراضي المحتلة، وصولاً إلى تحقيق حلم العودة المقدس إلى الديار الأصلية، استناداً إلى قرار الأمم المتحدة رقم 194.
تنظر حكومة نتنياهو إلى حركة المقاطعة بعين القلق الاستراتيجي، ما دفعها إلى شنّ حملة شرسة لمواجهتها، مستنجدةً بحلفائها في واشنطن وعواصم أوروبا للتصدي لهذا المدّ المناهض للصهيونية، وعلى الرغم من المساعي الأمريكية والأوروبية لتقويض تأثير المقاطعة عبر سنّ تشريعات مضادة، إلا أن زخم الاحتجاجات الشعبية والمقاطعة التلقائية يواصل تصاعده، في مسارٍ حتمي يجد فيه الكيان الصهيوني نفسه محاصراً بتداعياته المتلاحقة.
التداعيات متعددة الأبعاد لحملات المقاطعة على الكيان الصهيوني
في خضم المشهد الاقتصادي العالمي المعاصر، تبرز التأثيرات العميقة للمقاطعة الدولية كظاهرة لا يمكن تجاهل تداعياتها على الاقتصادات المحلية، ولم يكن الكيان الصهيوني بمنأى عن هذه التداعيات.
فقد شهدت المؤسسات الاقتصادية الصهيونية تراجعاً ملحوظاً في حضورها بالأسواق العالمية، نتيجة تصاعد وتيرة حملات المقاطعة الدولية لمنتجاتها، وقد طالت هذه الحملات، بصورة جوهرية، القطاعات الحيوية الثلاثة: الزراعية والتكنولوجية والعسكرية، الأمر الذي دفع العديد من المؤسسات الاقتصادية الكبرى إلى إعادة تموضع عملياتها خارج الأراضي المحتلة، أو السعي الحثيث نحو أسواق بديلة، ما ألقى بظلال قاتمة على المشهد الاقتصادي في تل أبيب.
ويُشكّل نزيف رؤوس الأموال أحد أبرز التجليات السلبية لهذه المقاطعة، حيث عزفت كبريات صناديق الاستثمار والمؤسسات المصرفية والشركات العالمية، تحت وطأة الضغط الجماهيري المتنامي، عن ضخّ استثماراتها في المؤسسات الصهيونية، أو تلك المتورطة في أنشطة استيطانية غير مشروعة في الضفة الغربية المحتلة، ولعل في انسحاب عمالقة الصناعة العالمية مثل “فيوليا” و”أورانج” و”جي فور إس” من السوق الصهيوني، خير دليل على عمق تأثير هذه المقاطعة.
وفي سياق متصل، أفضت المقاطعة إلى تضخم غير مسبوق في تكاليف التأمين والشحن والتمويل للمؤسسات الصهيونية، ما انعكس سلباً على معدلات النمو الاقتصادي، وأدى إلى تدهور القيمة السوقية لأسهم العديد من الشركات الصهيونية، وتجد المؤسسات المتضررة من المقاطعة نفسها مضطرةً للبحث عن أسواق بديلة، والتي غالباً ما تتّسم بهامش ربحي أقل، وقد أفضى هذا المشهد إلى تباطؤ ملحوظ في وتيرة النمو الاقتصادي في قطاعات عديدة، ولا سيما تلك التي تعتمد بشكل رئيسي على التجارة الدولية.
وعلاوةً على التأثيرات الاقتصادية الملموسة، فقد أسهمت حركة المقاطعة في تعميق الوعي العالمي إزاء السياسات الاستعمارية للكيان الصهيوني، ويُشكّل منع مشاركة الكيان في المحافل الدولية، من مسابقات رياضية ومعارض علمية وفعاليات ثقافية، جزءاً لا يتجزأ من حملة المقاطعة الشاملة، والتي ألحقت ضرراً بالغاً بصورة تل أبيب على الساحة الدولية، ولعل في ردود الفعل الشعبية الحاشدة في هولندا وفرنسا ضد الفرق الرياضية الصهيونية، خير شاهد على ذلك، وهي ظاهرة مرشحة للتكرار في المستقبل المنظور.
وفي السياق ذاته، فإن انسحاب الشركات الدولية المرموقة وتراجع العائدات المالية، يُنذر بانعكاس مسار الهجرة إلى الأراضي المحتلة، وقد كشفت وسائل الإعلام العبرية مؤخراً عن انخفاض حاد في معدلات الهجرة الخارجية، بنسبة 31% منذ اندلاع العدوان على غزة، في حين يتطلع عشرات الآلاف من المستوطنين إلى الهجرة نحو بلدان أخرى، ويُشكّل هذا التحول الديموغرافي هاجساً مؤرقاً لقادة تل أبيب، الذين يسعون جاهدين، عبر شتى السبل، لخلق عوامل جذب داخلية لاستقطاب يهود العالم إلى الأراضي المحتلة.
وعلى الرغم من أن المقاطعة لم تصل بعد إلى مستوى شلّ الاقتصاد الصهيوني بالكامل، إلا أن تأثيراتها أدت إلى تباطؤ ملحوظ في النمو الاقتصادي، وستفضي على المدى البعيد إلى انحسار الاستثمارات الأجنبية، وتعميق العزلة الدولية، ومع استمرار الجرائم الوحشية في غزة، يُتوقع أن تتسع رقعة حركات المقاطعة، مع عزوف المزيد من الشركات عن التعاون مع تل أبيب، وفي حال استمرار هذا المنحى، قد تواجه حكومة نتنياهو أزمات اقتصادية وسياسية أكثر حدةً، ما سينعكس حتماً على سياساتها تجاه فلسطين.
new_alwghtArabicAlwaght
المصدر: يمانيون
كلمات دلالية: الکیان الصهیونی الأراضی المحتلة حرکة المقاطعة تل أبیب على غزة
إقرأ أيضاً:
دعوى السودان ضد الإمارات أمام محكمة العدل الدولية: كسر الصمت أم مواجهة سياسية؟
في تحول لافت في مشهد النزاعات الإقليمية، رفعت الحكومة السودانية دعوى قضائية أمام محكمة العدل الدولية في مارس 2025 ضد دولة الإمارات العربية المتحدة، متهمةً إياها بانتهاك اتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية لعام 1948.
وتستند السودان في هذه الدعوى إلى اتهامات بتقديم الإمارات دعمًا عسكريًا وماليًا لقوات الدعم السريع، المتهمة بارتكاب فظائع واسعة النطاق ذات طابع عرقي في دارفور، ولا سيما ضد قبيلة المساليت.
الدعوى التي وُصفت بأنها جريئة وصادمة في السياق العربي، تجاوزت البعد القانوني لتفتح أبوابًا من الجدل حول الأدوار الإقليمية، والتدخلات الخارجية، وحدود المسؤولية الدولية. فهل هي خطوة قانونية ناجعة أم ورقة ضغط سياسي في معركة أوسع؟
مشروعية الدعوى وحدودها القانونية
السودان استند في دعواه إلى المادة التاسعة من اتفاقية الإبادة الجماعية، التي تمنح محكمة العدل الدولية اختصاصًا للنظر في النزاعات المتعلقة بتفسير أو تطبيق الاتفاقية. غير أن الإمارات، منذ انضمامها إلى الاتفاقية، أبدت تحفظًا واضحًا على هذه المادة، ما يعني أنها لا تقبل اختصاص المحكمة تلقائيًا.
ورغم أن هذا التحفظ يمثل عقبة قانونية كبرى، إلا أن السودان قد يراهن على مبدأ “القواعد الآمرة” في القانون الدولي، والتي تنص على أن بعض الانتهاكات، كالإبادة الجماعية، لا يمكن التهرب من مساءلتها بتحفظات شكلية.
لكن الاحتمال الأكبر، استنادًا إلى السوابق القضائية، هو أن ترفض المحكمة الدعوى من حيث الاختصاص، كما فعلت سابقًا في قضايا مشابهة (مثل قضية يوغوسلافيا). ومع ذلك، فإن الأثر القانوني ليس كل شيء.
الرسائل السياسية والدلالات الرمزية
ترسل هذه الدعوى رسائل متعددة تتجاوز النصوص القانونية:
أولًا، هي محاولة جريئة لتحميل دولة إقليمية مسؤولية مباشرة عن جرائم ارتُكبت عبر وكلاء محليين، وهي سابقة نادرة في العلاقات العربية. ثانيًا، تمثل الدعوى توثيقًا رسميًا لسردية جديدة حول الحرب في السودان، وتعيد تشكيل فهم المجتمع الدولي لما يحدث في دارفور بوصفه ليس نزاعًا داخليًا فقط، بل نزاعًا مدعومًا خارجيًا. ثالثًا، تُوظَّف الدعوى كأداة لإعادة تدويل الأزمة السودانية، وإعادة التوازن في الخطاب الدبلوماسي، بعد أشهر من هيمنة قوات الدعم السريع على الأرض إعلاميًا ودبلوماسيًا.ضربة لصورة الإمارات ونفوذها الإقليمي
اللافت أن الدعوى، حتى وإن لم تُقبل، قد تُحدث أثرا ملموسا في صورة الإمارات على أكثر من صعيد:
فهي تزعزع سردية “القوة الناعمة” التي روّجت لها الإمارات خلال العقد الأخير، عبر مشاريع التسامح والحوار والتنمية. كما تفتح الباب أمام ملاحقة قانونية أو رمزية لدورها في ملفات أخرى كاليمن وليبيا، خاصة أن الكثير من المنظمات الحقوقية سبق وأن وثّقت تدخلات مباشرة أو غير مباشرة في تلك البلدان. وقد تُسهم هذه الدعوى في كبح سياسة التمدد في “الفراغات الأمنية”، حيث دأبت أبو ظبي على استغلال هشاشة الدولة لبناء تحالفات مع قوى محلية مسلحة.وربما يكون الأثر الأخطر هو ما تحمله الدعوى من إشارات لدول أخرى في الإقليم، بأن زمن الحصانة المطلقة في التدخلات الخارجية قد يشارف على النهاية، وأن القانون الدولي لم يعد محايدًا في وجه الجرائم الجماعية متى توفرت الإرادة السياسية لمواجهتها.
خاتمة
في النهاية، قد لا تفضي دعوى السودان إلى إدانة مباشرة للإمارات، وقد تُرفض لأسباب إجرائية، لكنها نجحت فعليًا في فتح نقاش واسع حول الأدوار الإقليمية في الحروب الأهلية، وأعادت تسليط الضوء على الفظائع المرتكبة في دارفور، وعلى التحالفات التي سهّلت حدوثها.
إنها دعوى تضع القانون في مواجهة السياسة، وتضع الحضور الإماراتي في إفريقيا أمام مرآة لا تعكس فقط المصالح، بل أيضًا التبعات.