الحـق بين الطـبـيعـة والـدولـة
تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT
يعرف دارسو الفـلسفة السياسيـة الحديثة أن انـتـقالها من استخـدام مفهـوم الحـق الطـبيـعي إلى استخـدام مفهوم الحـق المـدني تَـساوَقَ مع عمليـة الانـتـقال من فرضيـة حالة الطـبيـعة (= مجتمع اللادولة) إلى التـنظير لفـكرة المجتمع السياسي (= الـدولـة)؛ إذْ يـقـترن معْـنَيَـا الحـق ذيناك مع حالتـيْـن من الاجتـماع الإنساني مختلـفـتيـن وجوهـًا من الاخـتلاف في السـمات: وإنْ تـفاوتت نِسبُ ذلك الاختلاف ومقاديـرُه من فـيلسوف لآخَـر.
مع ذلك، لا يـذهب فلاسفـة السياسة المحـدثون جميعًا إلى المقابَـلة والمفاصَـلة التـقاطبـيـة بين الحـقـيْن أو، قـل، بين طـبيـعتـيْ الحـق في الحالتـيْـن؛ إذْ مال أكـثرهم إلى افـتـراض قـدْرٍ مـا من المشابَهَـة والتجانـس بين الحـق الذي تسمح بـه حالةُ الطـبيـعة والحـق الذي يُـخـوله المجتمع السياسي. ولقد كـان وراء هـذه المماهاة بينهما - خاصةً عند جون لوك وجان جاك روسو- حرصٌ على بيان أوّلـيـّةِ ما هـو طبـيـعي وحاجـةِ أيِ نظامٍ اجتماعي إلى البناء عليه. ومعنى ذلك، أيضـاً، أن الدولة عند هـذيـن الفـيلسوفين - كما عند إيـمانويـل كَـنْت وقبلـه سپـيـنـوزا- مجرد وسيلـة لإنـفاذ ما هـو خيِـر ونافـع؛ ما هـو قائـمٌ، ابـتـداءً، في الوجود الطـبيـعي. ولذلك وقع الإلحاح كثيراً على فـكرة الطـبيـعة الخيـرة للإنسان، في كتابات فـلاسفة العـقـد الاجتماعي، والتي لم يشـذ عنها سوى هوبس الذي ظل - مثـل ميكياڤـيلـلي قـبله - حريصاً على التـشديد على أثـرِ الغـرائـزيِ والحيوانيِ في السلوك الإنساني.
على أن المشابهة بين الحـق الطـبيـعي والحـق المـدني، عند فلاسفة العـقـد الاجتماعي أُولاء، تأتي من أن الحـق المـدني ليس شيئاً آخـر سوى الحـق الطـبيـعي نـفسه بعد أن أحاطـتْـهُ الـدولـة بضمانات الحماية. هـاهنا، من غير التـبـاس، تبـريرٌ فـلسفي للـدولـة ولحاجة الاجتماع الإنساني إليها. وعلـتُـه أن الحـق الطـبيـعي، وإنْ كان من منتوجات الوجود الطـبيـعي ومسـلماته وممـا يسلـم به العـقـل ويدعو إليه، ليس مضمونًا ولا مـأمونـًا في نطاق حالة الطـبيـعة، نظرًا إلى انعدام وجود وازع (= سـلطة) يَـزَعُ الناس بعـضَهم عن البعض، أي إلى انعدام وجود قوانين زجريـة رادعة تضع حـدًّا للانتهاكات وللعدوان على الحقوق، بل هـو - على العـكس من ذلك - حـقٌ قابلٌ للانتهاك في كـل حيـنٍ من الناس أنفـسِـهم الذين يدفعهم التـنازُعُ عليه إلى الانقـضاض عليه، في الوقـت عيـنِـه، ومنْـعِ الواحـد منهم من التـمتـع بـه.
هذا ما سـوغ، عنـدهم، مبـدأ الـدولـة بما هـو السبيـل إلى إعادة إخضاع الإرادات المتـنازعـة، المُـفضيـة إلى الاصطراع والتـقاتُـل، لإرادةٍ واحدة جامعة هي التي سيطلق عليها جـان جاك روسو، في ما بـعـد، اسـم الإرادة العـامـة: الإرادة المجـسَـدة في الـدولـة والقـانون.
الخوف على تبديد الحـق الطـبيـعي، إذن، هو الميكـانيـزم الـدافـع إلى إيجـاد ما يحمي ذلك الحـق؛ أي الـدافع نحو الخروج من الاجتماع الطـبيـعي وتأسيس الاجتماع السياسي.
على أن الانـتـقال من الأول إلى الثاني يفرض آليـةً سلسة تسمح بإمكانه وتـفـتح الباب أمام تصيـير الحـق الطـبيـعي حـقًـا مـدنيـًّا. سمـى فـلاسفـةُ السياسـة هذه الآلية بعمليـة نـقـل أو تحـويل Transfert لذلك الحـق إلى جهـةٍ تـتـعـهـده بالحمايـة، تـتـمثـل في جسـمٍ سياسي يعبـر عن الجماعـة ويـتـألف منها. على أن النـقـل ذاك لا يكون تخـلـيًا من النـاس عن حقوقـهم تلك وتحـويلها جميعها إلى ذلك الجسم السياسي المؤتَـمَـن عـليها، وإنـما يقع ذلك بـقـدرٍ مـن الرضا والطـوعيـة والإرادة من قِـبَـل مَـن يقـومون بتحويلـه، لعـلمهم بأنـهم لا يـقْـوَوْن على حماية حقوقهم بأنـفسهـم منـفـردين. إن عجـزهم عن الاحتـفاظ بتلك الحقوق الطـبيـعيـة في مَـأْمـنٍ لها مـن كـل تـهـديـدٍ أو خـطر هـو، بالـذات، ما يجـعـل من ذلك النـقـل فعـلاً إراديـًّا حـرًّا وطوعـيـًا لا يـأتـيـه أحـدٌ منهم بالإرغـام. بهذا المعنى يكون نـقْـلاً أو تحـويلاً وليس تخـلـياً أو تـفريطاً. بـل وُجِـدَ من فـلاسفـة العـقـد الاجتماعي مَـنِ اعتـبر ذلك النـقـل تـنازُلاً من الناس لأنفسـهـم، في حـقيقـة أمـره، وإنْ بَـدَا وكـأنـه تنـازُلٌ منهم للمجتمع السياسي.
لا خـلاف، في الفـلسفـة السياسيـة، على حاجة الجماعة الاجتماعيـة الطـبيـعيـة إلى تنازل أفـرادها عن حقـوقٍ لا يملكون الحفاظَ عليها لجسـمٍ (سياسي) وحـده يستطيـع حمايـتها؛ فعلى ذلك يجتمع قـولُ فـلاسفـة السياسة المحدَثـين، الخلافُ بينهم إنما هـو، حصـراً، على مَـن يكـون ذلك الذي يـقع التـنازل له: أَهـو الحاكـم الفـرد أم المجلس (البرلمان)؟ أي بمعنى مَـن عسـاهُ يكون ذلك الذي يجسـد الـدولـةَ والسيادة: الحاكـم أو مـمـثـلو الشـعب؟ ومع أنـه من البـيـن أن السـؤال هذا مضـطربٌ وغيرُ مطابِـق لعمـليـة الانـتـقال من الجماعة الطـبيـعيـة إلى الجماعة السياسيـة؛ بل على الرغـم من أن تناقـضًا صارخًـا يعـتـوره (إذْ كيف يجوز السؤال عن النـصاب الذي تُـنْـقَـل إليه الحقـوق - فـردًا أو مؤسـسة - فيـما الـدولـةُ نفسُـها، في منـطق السـؤال، لم تَـقُـم بعد!)؛ إلا أن الجـدلَ الفلسفي حـولَه ترجَـم حالةَ انـقـسامٍ انشـطاري، داخـل فـلسفة السـياسة، بين ذاهـبٍ إلى التـسويغ للـدولـة ولسلطـةٍ مطلـقـةٍ فيها لوجود الحاجة الماسـة إلى ذلك، وذاهـبٍ إلى تقـيـيد سلطانها وكـبح جِـماح من يتـقـلـد مسؤوليـة إدارتها، بـل إخضاع تلك السـلطـة لمراقبـةٍ صارمة تحُـول دون صـيـرورتها متسـلطة.
خلف الـدفاع عن فـكرة السلطة القـويـة الفـرديـة هـاجـسٌ يـبـرِره: الخـوف على السِـلْم مـن الحرب الداخليـة المفـتوحـة في الجماعة الطـبيـعيـة.
وهكذا، تقـضي الحاجـةُ إلى الأمـن بوجوب قيـام سلطـة رادعة من غير شروطٍ عليها من أجـل أن تضـع حـداً لحالة الطـبيـعة، بحسـبانـها حالةَ حـربٍ عامـة دائـبة (تـوماس هـوبس)؛ فيما يكـمن هاجـسٌ آخر خلف فـكرة تـقـيـيـد تسـلـطيـة الـدولـة: حماية الحقـوق الطـبيـعيـة (جـون لوك). تـقضي هـذه الحماية بانـفـصال المجتمع السياسي، انـفـصالاً كـلـيـاً، عـن المجتمع الطـبيـعي والقطْع مع ما كان سـيـئًا فيه خاصـةً العـنف. هكـذا نظـر دعاة المـوقـف الثاني إلى النـظام الفـردي بوصفه استمرارًا لحالة الطـبيـعة يتـوجـب القـطع معـه لكي تـتكـون الـدولـة ويستـتـب لـها الأمــر.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: ما هـو
إقرأ أيضاً:
الحق يقال في أول مقابلة مع هاكان فيدان
بقلم : هادي جلو مرعي ..
تابعت المقابلة التي أجراها الزميل عدنان الطائي لحساب قناة utv وهي المقابلة الأولى من نوعها التي تجريها شبكة تلفزة عراقية مع وزير الخارجية التركي السيد هاكان فيدان، وهو أمر لافت حيث بقيت وسائل الإعلام العراقية، ولفترة ليست بالقليلة تروج لنوع من التزاحم غير الملائم في ملفات عدة، ويظهر تركيا كعدو محتمل للعراق بالرغم من اللقاءات المستمرة والتفاهمات السياسية، وإتفاقيات بلغت في زيارة واحدة قام بها الرئيس التركي رجب طيب أوردوغان الى بغداد 27 إتفاقية تخص المياه والزراعة والإسكان والإعمار والأمن ومكافحة الإرهاب، وتبادل تجاري كبير جدا، وحدود مشتركة، وعلاقات تاريخية نتيجة لتجاور لاينقطع، وثقافة مشتركة على المستويات الدينية والعرقية، ووجود أقليات على جانبي الحدود، حيث رفض الوزير الإشارات التي ترسلها بعض الجهات العراقية الى الجمهور بأن هناك حالة عداء تركية تجاه العراق. الزميل عدنان الطائي، وهو مقدم برامج عمل في قنوات فضائية عدة، وإستقر به المقام في قناة utv التي أسست قبل سنوات قليلة، ولكنها تفوقت على قنوات أخرى، وزاحمت بعضها على الريادة أدار الحوار مع رئيس الدبلوماسية التركية بعناية فائقة، وسأله في جملة محاور تتعلق بطبيعة الأوضاع على الحدود، والتحول الكبير في سوريا، ونوع العلاقة مع العراق، وهواجس الأمن والإرهاب، والتعاون المشترك في ملف الإقتصاد والمياه، ووجود الأقليات، والمخاوف التي عبرت عنها بغداد بعد زوال نظام الأسد، ووصول قوى قريبة الى تركيا الى السلطة، مع حجم التزاحم بين قوميات وطوائف سورية عدة، وقلق الحكومة العراقية من تطورات الأحداث خاصة وإن النظام الذي أطيح به كان حليفا لإيران والعراق، ورأي السيد فيدان بالحكومة العراقية، وعلاقة أنقرة بالقوى السياسية الفاعلة، خاصة القوى والأحزاب السنية والشيعية، والعلاقة المتطورة مع الحزب الديمقراطي الكردستاني، ورئيس الحكومة العراقية محمد شياع السوداني، ورئيس الحزب الديمقراطي الكردستاني مسعود البرزاني الذي وصفه بأنه يقوم بدور إيجابي، والخطوات التي يتبعها الرئيسان في مجال السياسة والأمن والعلاقات الخارجية، والخدمات التي تقدمها الحكومة العراقية في مجال البنية التحتية. واضح تماما تركيز وزير الخارجية التركي في حديثه ل utv على اهمية التعاون في مجال الأمن، مع إشاراته المتكررة للتهديد الذي يشكله حزب العمال التركي، ودعوة رئيسه عبدالله أوجلان لوقف العمليات العسكرية والإنخراط في عملية سلام دائمة، والتعاون الذي يبديه السوداني والبرزاني في مجال حل المشاكل الأمنية، ونظرة الرئيس أوردوغان الى الطوائف والقوميات في العراق، وهي نظرة متقدمة تنم عن حرص على تجاوز الخلافات، مع إنتباهة لضرورة أن لايكون هناك صدام مسلح يتسبب في مشاكل عميقة، منوها الى العلاقة التاريخية مع إيران بوصفها حليفا موثوقا في بعض الملفات، ومنافسا في ملفات أخرى مع الحرص على إبقاء قنوات إتصال مباشرة بين طهران وأنقرة، وإن تركيا قد أبلغت الرئيس السوري الجديد بأهمية العمل على جمع السوريين بكل مكوناتهم، وعدم التفريق بينهم، وإنهاء أي هاجس خوف من هذه الطائفة، أو تلك القومية لتكون سوريا مكانا آمنا للجميع.