لجريدة عمان:
2025-03-15@21:30:08 GMT

الحـق بين الطـبـيعـة والـدولـة

تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT

يعرف دارسو الفـلسفة السياسيـة الحديثة أن انـتـقالها من استخـدام مفهـوم الحـق الطـبيـعي إلى استخـدام مفهوم الحـق المـدني تَـساوَقَ مع عمليـة الانـتـقال من فرضيـة حالة الطـبيـعة (= مجتمع اللادولة) إلى التـنظير لفـكرة المجتمع السياسي (= الـدولـة)؛ إذْ يـقـترن معْـنَيَـا الحـق ذيناك مع حالتـيْـن من الاجتـماع الإنساني مختلـفـتيـن وجوهـًا من الاخـتلاف في السـمات: وإنْ تـفاوتت نِسبُ ذلك الاختلاف ومقاديـرُه من فـيلسوف لآخَـر.

مع ذلك، لا يـذهب فلاسفـة السياسة المحـدثون جميعًا إلى المقابَـلة والمفاصَـلة التـقاطبـيـة بين الحـقـيْن أو، قـل، بين طـبيـعتـيْ الحـق في الحالتـيْـن؛ إذْ مال أكـثرهم إلى افـتـراض قـدْرٍ مـا من المشابَهَـة والتجانـس بين الحـق الذي تسمح بـه حالةُ الطـبيـعة والحـق الذي يُـخـوله المجتمع السياسي. ولقد كـان وراء هـذه المماهاة بينهما - خاصةً عند جون لوك وجان جاك روسو- حرصٌ على بيان أوّلـيـّةِ ما هـو طبـيـعي وحاجـةِ أيِ نظامٍ اجتماعي إلى البناء عليه. ومعنى ذلك، أيضـاً، أن الدولة عند هـذيـن الفـيلسوفين - كما عند إيـمانويـل كَـنْت وقبلـه سپـيـنـوزا- مجرد وسيلـة لإنـفاذ ما هـو خيِـر ونافـع؛ ما هـو قائـمٌ، ابـتـداءً، في الوجود الطـبيـعي. ولذلك وقع الإلحاح كثيراً على فـكرة الطـبيـعة الخيـرة للإنسان، في كتابات فـلاسفة العـقـد الاجتماعي، والتي لم يشـذ عنها سوى هوبس الذي ظل - مثـل ميكياڤـيلـلي قـبله - حريصاً على التـشديد على أثـرِ الغـرائـزيِ والحيوانيِ في السلوك الإنساني.

على أن المشابهة بين الحـق الطـبيـعي والحـق المـدني، عند فلاسفة العـقـد الاجتماعي أُولاء، تأتي من أن الحـق المـدني ليس شيئاً آخـر سوى الحـق الطـبيـعي نـفسه بعد أن أحاطـتْـهُ الـدولـة بضمانات الحماية. هـاهنا، من غير التـبـاس، تبـريرٌ فـلسفي للـدولـة ولحاجة الاجتماع الإنساني إليها. وعلـتُـه أن الحـق الطـبيـعي، وإنْ كان من منتوجات الوجود الطـبيـعي ومسـلماته وممـا يسلـم به العـقـل ويدعو إليه، ليس مضمونًا ولا مـأمونـًا في نطاق حالة الطـبيـعة، نظرًا إلى انعدام وجود وازع (= سـلطة) يَـزَعُ الناس بعـضَهم عن البعض، أي إلى انعدام وجود قوانين زجريـة رادعة تضع حـدًّا للانتهاكات وللعدوان على الحقوق، بل هـو - على العـكس من ذلك - حـقٌ قابلٌ للانتهاك في كـل حيـنٍ من الناس أنفـسِـهم الذين يدفعهم التـنازُعُ عليه إلى الانقـضاض عليه، في الوقـت عيـنِـه، ومنْـعِ الواحـد منهم من التـمتـع بـه.

هذا ما سـوغ، عنـدهم، مبـدأ الـدولـة بما هـو السبيـل إلى إعادة إخضاع الإرادات المتـنازعـة، المُـفضيـة إلى الاصطراع والتـقاتُـل، لإرادةٍ واحدة جامعة هي التي سيطلق عليها جـان جاك روسو، في ما بـعـد، اسـم الإرادة العـامـة: الإرادة المجـسَـدة في الـدولـة والقـانون.

الخوف على تبديد الحـق الطـبيـعي، إذن، هو الميكـانيـزم الـدافـع إلى إيجـاد ما يحمي ذلك الحـق؛ أي الـدافع نحو الخروج من الاجتماع الطـبيـعي وتأسيس الاجتماع السياسي.

على أن الانـتـقال من الأول إلى الثاني يفرض آليـةً سلسة تسمح بإمكانه وتـفـتح الباب أمام تصيـير الحـق الطـبيـعي حـقًـا مـدنيـًّا. سمـى فـلاسفـةُ السياسـة هذه الآلية بعمليـة نـقـل أو تحـويل Transfert لذلك الحـق إلى جهـةٍ تـتـعـهـده بالحمايـة، تـتـمثـل في جسـمٍ سياسي يعبـر عن الجماعـة ويـتـألف منها. على أن النـقـل ذاك لا يكون تخـلـيًا من النـاس عن حقوقـهم تلك وتحـويلها جميعها إلى ذلك الجسم السياسي المؤتَـمَـن عـليها، وإنـما يقع ذلك بـقـدرٍ مـن الرضا والطـوعيـة والإرادة من قِـبَـل مَـن يقـومون بتحويلـه، لعـلمهم بأنـهم لا يـقْـوَوْن على حماية حقوقهم بأنـفسهـم منـفـردين. إن عجـزهم عن الاحتـفاظ بتلك الحقوق الطـبيـعيـة في مَـأْمـنٍ لها مـن كـل تـهـديـدٍ أو خـطر هـو، بالـذات، ما يجـعـل من ذلك النـقـل فعـلاً إراديـًّا حـرًّا وطوعـيـًا لا يـأتـيـه أحـدٌ منهم بالإرغـام. بهذا المعنى يكون نـقْـلاً أو تحـويلاً وليس تخـلـياً أو تـفريطاً. بـل وُجِـدَ من فـلاسفـة العـقـد الاجتماعي مَـنِ اعتـبر ذلك النـقـل تـنازُلاً من الناس لأنفسـهـم، في حـقيقـة أمـره، وإنْ بَـدَا وكـأنـه تنـازُلٌ منهم للمجتمع السياسي.

لا خـلاف، في الفـلسفـة السياسيـة، على حاجة الجماعة الاجتماعيـة الطـبيـعيـة إلى تنازل أفـرادها عن حقـوقٍ لا يملكون الحفاظَ عليها لجسـمٍ (سياسي) وحـده يستطيـع حمايـتها؛ فعلى ذلك يجتمع قـولُ فـلاسفـة السياسة المحدَثـين، الخلافُ بينهم إنما هـو، حصـراً، على مَـن يكـون ذلك الذي يـقع التـنازل له: أَهـو الحاكـم الفـرد أم المجلس (البرلمان)؟ أي بمعنى مَـن عسـاهُ يكون ذلك الذي يجسـد الـدولـةَ والسيادة: الحاكـم أو مـمـثـلو الشـعب؟ ومع أنـه من البـيـن أن السـؤال هذا مضـطربٌ وغيرُ مطابِـق لعمـليـة الانـتـقال من الجماعة الطـبيـعيـة إلى الجماعة السياسيـة؛ بل على الرغـم من أن تناقـضًا صارخًـا يعـتـوره (إذْ كيف يجوز السؤال عن النـصاب الذي تُـنْـقَـل إليه الحقـوق - فـردًا أو مؤسـسة - فيـما الـدولـةُ نفسُـها، في منـطق السـؤال، لم تَـقُـم بعد!)؛ إلا أن الجـدلَ الفلسفي حـولَه ترجَـم حالةَ انـقـسامٍ انشـطاري، داخـل فـلسفة السـياسة، بين ذاهـبٍ إلى التـسويغ للـدولـة ولسلطـةٍ مطلـقـةٍ فيها لوجود الحاجة الماسـة إلى ذلك، وذاهـبٍ إلى تقـيـيد سلطانها وكـبح جِـماح من يتـقـلـد مسؤوليـة إدارتها، بـل إخضاع تلك السـلطـة لمراقبـةٍ صارمة تحُـول دون صـيـرورتها متسـلطة.

خلف الـدفاع عن فـكرة السلطة القـويـة الفـرديـة هـاجـسٌ يـبـرِره: الخـوف على السِـلْم مـن الحرب الداخليـة المفـتوحـة في الجماعة الطـبيـعيـة.

وهكذا، تقـضي الحاجـةُ إلى الأمـن بوجوب قيـام سلطـة رادعة من غير شروطٍ عليها من أجـل أن تضـع حـداً لحالة الطـبيـعة، بحسـبانـها حالةَ حـربٍ عامـة دائـبة (تـوماس هـوبس)؛ فيما يكـمن هاجـسٌ آخر خلف فـكرة تـقـيـيـد تسـلـطيـة الـدولـة: حماية الحقـوق الطـبيـعيـة (جـون لوك). تـقضي هـذه الحماية بانـفـصال المجتمع السياسي، انـفـصالاً كـلـيـاً، عـن المجتمع الطـبيـعي والقطْع مع ما كان سـيـئًا فيه خاصـةً العـنف. هكـذا نظـر دعاة المـوقـف الثاني إلى النـظام الفـردي بوصفه استمرارًا لحالة الطـبيـعة يتـوجـب القـطع معـه لكي تـتكـون الـدولـة ويستـتـب لـها الأمــر.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ما هـو

إقرأ أيضاً:

مصطلح الإسلام السياسي

بحث وكتابه : د. سرى العبيدي .. سفيرة الثقافة والجمال الدولي


بدأ هذا المصطلح يأخذ حيزاً واسعاً في الأوساط الإعلامية والسياسية وكأنه إحد المصطلحات السياسية التي ترتكز عليها أبواب السياسة،
فبعضهم وجدها سلعة رائجة ينتقد من خلالها فشل الأحزاب ذات الطابع الإسلامي دون تعميمها على باقي الأحزاب المشابهة لها والتي تنتمى لديانات وشرائع  أخرى وهنا لابد من تسليط الضوء على هذا المفهوم وما يختزنه من حقد كبير على الإسلام،
في بداية الأمر يجب أن نتعرف على الأشخاص الذين يستخدمون هذا المصطلح ومعرفة إمكانياتهم وسيرتهم الذاتية وتوجهاتهم الفكرية فهذا أمر لابد منه قبل أن ننتقل الى شكل المواضيع التي يتطرقون إليها وكيف يذهبون بسياق الحديث الى هذه الزاوية ليوصلوا للعالم فكرة فشل الإسلام في إدارة الأمور،
إن فشل الأحزاب ذات الطابع الديني لم يكن الإسلام سبباً في ذلك فالأحزاب الإسلامية والدينية  لايمكن أن تتخذ من القرآن الكريم والسنة النبوية منهجاً عملياً في حياتها الإدارية مع أنها تتشدق به بطريقة أو أخرى وإن تمكنت من تمرير ذلك على البسطاء والسذج من عامة المجتمع لكنها لا تستطيع أن تفعل ذلك مع أولي الألباب وجهابذة السياسة والعارفين بدهاليزها.
غير أن المثير للجدل هو تركيز أغلب المحررين والمحللين السياسيين على إستعمالها في خطاباتهم وكتاباتهم حتى باتت وكأنها مادة أساسية صح تداولها  فوصلت لأبعد نقطة في هذا العالم???? ليُتهم الإسلام بالضعف وسوء الفهم في إدارة المجتمعات والدول
وصار هذا الرأي سائداً حتى في البلدان الإسلامية ولتظهر الحاجة الملحة في الإبتعاد عن كل ما يمت للإسلام بصلة بينما نرى على الجانب الآخر عند دول العالم الغربي بأن كل ماوجدناه هناك يتقارب والى حد كبير مع المثل والقيم العليا التي إنفرد بها ديننا الإسلامي الحنيف.وكما قال أحدهم.
في دول الكفر وجدت الإسلام بلا مسلمين وفي بلاد المسلمين وجدت المسلمين بلا إسلام.
من هذا نفهم حجم التحديات التي واجهها الإسلام ومايزال يواجه الكثيرمنها،
ولكي نفسخ هذا الربط بين الأحزاب التي تبنت الخطاب الديني وبين الأديان فلابد من مغادرة هذا المصطلح بلا رجعة وأن الدين الإسلامي لايحتاج لحزب أو تكتل ليستمر في البقاء فهو باق في عقول كل البشرية التي تنادي بالعدل والمساواة وحقوق الناس وحدود الحريات حتى وإن كانت غير مسلمة..
علينا أن ندرك أن الإسلام بدأ بسيرة الرسول الأعظم محمد صلى الله وعليه وسلم وال يومنا هذا فهل كل المسلمين سياسيون؟ وهل الخطباء في المنابر سياسيون وهل أن المقاومين في جبهات القتال سياسيون ام عقيده علينا أن نميز بين الفكر السياسي والدين فلا يصح أن ندمج الدين مع السياسه
لعل الأيدلوجيات تختلف من عقل ال اخر ومن منهج ال منهج فلكل كيان له توجه أما الإسلام فنظريته ثابته بقواعد وأسس لاتقبل الشك
من هنا. جائت التشكك بالعقيده الاسلاميه ودمجها بمصطلحات استفادة منها بعض النفوس المريضه لدمج السياسه بالدين فلكل يعرف أن السياسه يلعبها صانعي المصالح تصب احيانا. في مصلحتهم وأحيانا. ال اتباع مصالح إقليميه. فليس كل سياسي هو. وطني وليس كل وطني هو سياسي
الأسلام. وطن عقيده ال الإنسان وهو الهويه الثابته نتمنى أن نترك مصطلح. (الأسلام السياسي) وندع ونسمي الأشياء بأسمها افضل وعلينا أن نفرق بين المقاومه الأسلاميه من جهة والاسلام السياسي من جهة أخرى
وطن وليس مزرعة للساسة..!

سرى العبيدي

مقالات مشابهة

  • نشأت الديهي مصر ليست طرفًا في أي حرب.. وترحيب بتصريحات ترامب الأخيرة
  • دراسة تكشف عن فائدة رائعة للتأمل في الطبيعة
  • كبسولة في قانون.. قبل ما تسيب حد يقعد في بيتك اعرف ما هو وضع اليد
  • مصطلح الإسلام السياسي
  • كبسولات في عين العاصفة : رسالة رقم [157]
  • براتب 25 ألف جنيه.. وزارة العمل توفر وظائف جديدة في بنان «الحق قدم»
  • «اتحاد الغرف السياحية»: وصول عدد الوافدين لـ 30 مليون سائح بحلول 2030 يتطلب تعاونا بين القطاع السياحي والدولة
  • الحق قبل قطع الانترنت.. رابط الاستعلام عن فاتورة التليفون الأرضي وطرق السداد
  • البيلي: كيكل – وقفنا ضده في الباطل، وسنقف معه في الحق
  • السويح: تعديل الإعلان الدستوري ممكن إذا حققت اللجنة الاستشارية التوافق