قاقرين .. رحيل نجم المجتمع السوداني
تاريخ النشر: 12th, February 2025 GMT
يتراجع وجود الجيل الذي شكل معارفنا الفكرية، والثقافية، والفنية، والإعلامية، والرياضية، باضطراد في الآونة الأخيرة. وحيدر حسن حاج الصديق رمز بارز وسط ذلك الجيل الذي تفتقت مواهبه في ميادين الحياة هذي. ما خلته يرحل بهذه السرعة بعد أن ألمت به وعكة تابعتها من بعيد ظناً مني أنه لم يشخ بما فيه الكفاية لنخشى فقدانه تحت أي لحظة وسط هذه الحرب المؤذية للنفس، والصحة.
علي قاقرين، وهذا اللقب الذي تزامن مع بزوغ نجم رائد الفضاء الروسي يوري قاقرين حاز عليه أولاً شقيقه جعفر الذي لعب للمريخ، كان ظاهرة في زمانه أكثر من كونه هدافاً لفريق الهلال والفريق القومي وقد تقلد الكابتنية فيهما. ولاحقاً بعد اعتزاله بزغ في ميادين العلم، والدبلوماسية، والاجتماع، ما حفزني أطرق باب مكتبه يوما في الخارجية بعد عودته من بانغي لإجراء حوار مطول تبعه الإذن لي بإصدار كتاب عنه. وقد طبعته دار نشر جامعة الخرطوم، وقمت بتوزيعه في مباراة الهلال وأشانتي كوتوكو التي أنهت علاقتي بتغطية المباريات، ومناشط الرياضة الأخرى من طائرة، وسلة. فقد رأى الأستاذ عبد التام بعد أن أهديته نسخة إكرامية أنني قد وصلت السقف الصحافي الرياضي دون أن أبلغ الثانية والعشرين. ولذلك رأى أنه علي السعي لتطوير قدراتي الصحفية في مجالات أخرى. وقد عملت بنصيحته التي تطابقت مع نصيحة الراحل حيدر، والذي نصحني بأن أواصل تعليمي فربما تعم الفائدة أكثر للصحافة، والرياضة.
بتلك العلاقة التي عمقها الحوار الصحفي المطول، وصدور الكتاب، ظللت أحرص على ملاقاة علي قاقرين في الخارجية وإجراء أكثر من حوار معه. وحين يعود من محطاته الخارجية أسعى لمقابلته في منزله والخروج منه بحوار جديد رغم فك ارتباطي بتغطية الرياضة.
وهكذا استمرّت العلاقة بيننا إلى أن جمعتنا الولايات المتحدة مرة أخرى. وكنت قد طرحت عليه قبل عام فكرة الطبعة الثانية للكتاب، وتضمينه بعض الأبواب الجديدة بعد سبعة وثلاثين عاماً منذ كتابته. وللأسف ظللت أبحث عن نسخة من الطبعة الأولى فلم أجدها إلا قبل عام من أحد الأصدقاء. ولكن مشاغل الحياة منعت من تفرغي لإصدار الطبعة الثانية.
-٢-
يختلف النقاد الرياضيون عند المقارنة بين جكسا وعلي قاقرين بوصفهما من أكثر هدافي الهلال والفريق القومي شهرةً. ولكن لا يختلفون حول تطابق دماثة خلقهما الرفيع، وتواضعهما، وقربهما إلى جماهير المستديرة. فقاقرين كثير الحياء، ويكسوه بعض الخجل، ومرهف بالدرجة التي يبكيه أقل المواقف، بالإضافة إلى أنه يعد من أكثر لاعبي ذلك الجيل اجتماعيةً، وتوشحاً بالأدب الجم، ووصلاً مع ناديه وجمهوره، وقطاع واسع من الرياضيين كافة. فالاحترام الذي وجده في الوسط الرياضي لدى كل الأجيال المتعاقبة يعود إلى روحه الرياضية التي نماها بعلمه، ووظيفته الدبلوماسية، واعتداده الأمدرماني المنفتح، وكذلك تجواله حول العالم ممارساً للعبة، ودبلوماسياً ترقى في المهنة حتى صار سفيراً مميزاً في عدد من البلدان.
للأسف الشديد لم تستفد الرياضة من علي قاقرين نتيجةً لعدة أسباب تتعلق بوضع الوزارة دائماً في محاصصة الترضيات السياسية التي تأتي بغير الرياضيين لإدارة هذا المجال الحيوي. وبطبيعة سيطرة الرأسمالية الطفيلية على الأندية كان لا بد أن تبعد الراحل الذي له من النضج العلمي، والمهني، وثراء العلاقات الداخلية والخارجية، والتجارب الرياضية، ما تجعله هذه العوامل قادراً لتثوير الإدارة الرياضية. وعلى مستوى الاتحاد العام فقاقرين لأخلاقه الرفيعة لم يكن ليستطيع مجاراة الانتهازية الرياضية. ولكونه من أكثر المؤهلين لرئاسة اللجنة الأولمبية السودانية فإنه لم يعرف الهرولة لتسنم هذه المناصب التي تتطلب قدراً من استخدام الرشاوي، وتزوير إرادة الرياضيين.
-٣-
وبرغم أن قاقرين كان تكنوقراطياً، ولا يعرف له سابق انتماء سياسي غير انتمائه للعمل الدبلوماسي في فترتي مايو، والديمقراطية، والإنقاذ، وفترة حمدوك، فإن الجهاز التنفيذي بالوزارة لم يسع للاستفادة من خبراته الدبلوماسية، وإتقانه الجيد للإنجليزية، والفرنسية. ذلك في وقت رأينا دبلوماسيين متحدثين باسم الوزارة، وسفراء، لا يجيدون حتى العربية ناهيك عن لغة أجنبية واحدة، وكانت مرافعاتهم في الأمم المتحدة مجالاً للتندر وسط دبلوماسي المنظمة الأممية.
ارتبط علي قاقرين بأحداث مباراة الهلال والمريخ في عام 1976 حيث انتصر لفريقه بهدفه الصاروخي في مرمى المريخ. ورددت الجماهير هتاف "رئيسكم مين ..علي قاقرين" بحضور الرئيس الأسبق جعفر نميري. وقد أثارت تلك الحادثة حفيظة الرئيس المريخابي فألغي نشاطات الاتحادات، والأندية، ومن ثم أصدر قرارات الرياضة الجماهيرية التي هجرت نجومنا البارزين للخارج. وكان من نصيب علي قاقرين الانضمام للنصر السعودي بجانب هداف الهلال مصطفى النقر. والحقيقة أن تلك القرارات الغاضبة، كما يرى كثير من النقاد الرياضيون، أسهمت في تدهور كرة القدم التي لم تقم لها قائمة في البلاد. ذلك برغم أن السودان يعد من الدول الرائدة في كرة القدم الأفريقية، وتمكن من الفوز بكاس الأمم الأفريقية عام 1970، ولم يستطع لاعبونا تحقيق إنجاز قاري آخر إلا عند فوز المريخ بكأس الكؤوس الإفريقية عام 1989.
إن رحيل الدكتور علي قاقرين الفاجع لا بد أنه ممض للمجتمع السوداني كافة، والقاعدة الرياضية خاصة، نظراً لنجوميته القومية التي لم تنطفيء قرابة الستة عقود. ونتضرع إلى الله أن يشمله بفيض رحمته، وأن يسكنه فسيح الجنات، والعزاء لشعبنا المكلوم، وهو يودع أحد أبنائه البررة الذين تحتذي الأجيال بنجاحاتهم في أكثر من مجال. والعزاء لزوجته تهاني محمد سعيد، وصهره الصديق كمال افرو، والكابتن جعفر قاقرين، والشاعر تاج السر أبو العائلة، وكل كريماته، والأسرة، والأهل الممتدين في ربوع السودان.
suanajok@gmail.com
المصدر: سودانايل
إقرأ أيضاً:
جودة الخدمة.. أن نعطي أكثر مما نحتاج
د. قاسم بن محمد الصالحي
لا ريب أن السؤال الكبير الذي ينبغي البحث عن إجابة له، هو سؤال عن الخدمة المقدمة وجودتها، وكيف يمكن لطالبها أن يكون راض عنها، هل بيئة الخدمات مهيأة ومؤهَّلة؟، بحيث تضمن خدمات أكثر كفاءة وراحة، بدرجة تصل الى الثقة بين الوحدات الخدمية والمجتمع، بما يؤدي إلى تحسين جودة الحياة وتعزيز التنمية المستدامة.. من أين يبدأ من يرغب في تقديم الخدمة وينشد جودتها، هل هناك نموذج يمكن الاسترشاد به والبناء عليه؟
كانت كل هذه الأفكار تدور في ذهني، وتعتمل في خاطري وخاطر جلسائي.. حين اسمع شكوى عن الخدمات واجراءات تقديمها، وعدم رضا طالب الخدمة من إجراءاتها، في مجالس كثيرة.. يجذبني نقاش اصحاب التجربة في حديثهم عن اجراءات تلك الخدمات، وآثار تجربتهم العملية عنها، زاد من عجبي أن يكون هذا الأمر ليس مجرد دردشة عابرة بين الاصحاب والمتحدثين، إنما كان طرحًا لتجاربهم الحيَّة يضعونها بين أيدينا.
نعم.. كيف يمكن للمواطن أن يخرج من حالة التذمر والاحباط من اجراءات تقديم الخدمات؟ دفعني هذا التساؤل إلى مزيد من البحث، ثم بدأتُ بفكرة حديث التجربة الشخصية التي طرحت في مجالس كثيرة للنقاش، أدركت أن العلاقة بين الاجراءات ورضا طالبي الخدمات هي علاقة ديناميكية تتأثر بجودة هذه الخدمة أو تلك، تكلفتها وتجربة اجراءات الحصول عليها.. ضمان الرضا عن الخدمات واستمراريتها، يكمن في تركيز مقدمها على تحسين إجراءاتها، وتلبية توقعات من يطلبها، والاستماع إلى التغذية الراجعة لتحسين اجراءاتها بشكل مستمر.. وتحقيق الرضا عن الخدمات الحكومية ليس مجرد هدف، بل هو مسؤولية تتطلب تطويرًا مستمرًا وتفاعلًا حقيقيًا مع احتياجات المجتمع، جودتها من العوامل الأساسية التي تؤثر بشكل مباشر على رفاهية المجتمع واستقراره، والنمو الاقتصادي فيه، كلما كانت الخدمات أكثر كفاءة وشفافية زادت ثقة المواطنين بموظفي الخدمة، القائمين على تقديمها، ينعكس إيجابًا على المجتمع ككل.
تكمن الجودة في الكفاءة والفاعلية والعدالة، السهولة، سرعة التنفيذ، والتوزيع، ورضا المواطنين عن الاداء في تحسين مستوى معيشتهم.. وكلما تحسنت جودة الخدمات زاد الرضا، وتوطدت الثقة وتعزز الاستقرار المجتمعي وقل الشعور بالإحباط وعدم العدالة.. وكفاءة موظف الخدمة العامة هي مفتاح النجاح في تحقيق رضا المواطنين وتعزيز التنمية الاجتماعية والاقتصادية.. وكلما كان الموظف أكثر عطاء في تحسين جودة الخدمات الحكومية من حيث أنجازه لمهامه بسرعة ودقة، قلَّل من الاخطاء والتأخيرات، وانعكس ايجابًا في عطائه على جودة الخدمة وظهرت كفاءته، ومن ثم حصل المواطن على الخدمة السريعة، الشفافة، والعادلة.. وضاقت الفجوة بين مقدم الخدمة ورضا طالبها، وترسخت الثقة في الحكومة نتيجة الالتزام المستمر، تحقيق العدالة وتحقق التفاعل الإيجابي بين الموظفين والمواطنين، عندما يرى المواطن أن الموظف الحكومي يعمل بجد من أجله، فإن الثقة بالحكومة تصبح قوية ومستدامة.