لم يسبق للأمم المتحدة أن اعتبرت رئيس دولة ما في عصرنا الحالي تهديدا للسلم العالمي. لم تفعل ذلك حتى مع من تمت شيطنتهم هذه السنوات إلى أبعد الحدود، من أمثال مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي أو رئيس كوريا الشمالية كيم جونغ أون أو حتى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. حتى زعيما النازية أدولف هتلر أو الفاشية بينيتو موسوليني
لم يتم تصنيفهما على هذا النحو لأن المنظمة الدولية لم تكن قد نشأت بعد حيث أنها أسست بعد الحرب العالمية الثانية.
جاء في المادة 39 من ميثاق الأمم المتحدة، الفقرة ألف «قبل أن يكون في وسع مجلس الأمن اتخاذ تدابير إلزامية، عليه أن يقرر وجود أي تهديد للسلم أو إخلال به أو وقوع عدوان». صحيح أن الأمر يتعلّق هنا بالأساس بوقوع عدوان أو نشوب نزاعات ولكن مع ذلك توجد إشارة في ذات الفقرة إلى أنه «علاوة على ذلك» بإمكان مجلس الأمن الدولي أن «يحدد التهديدات المحتملة أو العامة التي تكون خطرا على السلم والأمن الدوليين».
هنا تحديدا، لا يمكن أن تكون هناك إضافة أجدر من أن يتم طرح اسم الرئيس الأمريكي دونالد ترامب كتهديد جدي وحقيقي للسلم والأمن العالميين. وإذا كانت المادة 40 في الفقرة ب تشير إلى التدابير المؤقتة الواجب اتخاذها «لمنع تفاقم حالة ما» فليس هناك ما هو أولى من السعي لمنع مزيد تفاقمه حاليا من تصرفات وتصريحات ترامب المتنمّرة على غزة، بشكل خاص، إلى جانب كندا وغيرها.
وإذا كانت حالة كندا اقتصرت على إعلان الإصرار على ضمها ولاية أمريكية رقم 51، هكذا بكل غطرسة دون حد أدنى من الاحترام لدولة جارة مستقلة وعضو في الأمم المتحدة، لها مؤسساتها وشعبها الذي يعود إليه وحده في النهاية أن يقرر مصيره ومستقبله فلا يتركهما لنزوة رجل أجنبي مهما كان، فإن حالة غزة تفوق في نزقها وجنونها وقلة أدبها كل الحدود المتخيّلة وغير المتخيّلة.
طبعا ليس من الوارد أن «يجتهد» مجلس الأمن الدولي فيعلن شخصا بعينه مهددا للسلم العالمي، لا سيما إذا كان رئيس الولايات المتحدة، وما أدراك، ليس فقط بسبب الفيتو المجهض لأي تحرك لا ترضى عنه الدول الخمس دائمة العضوية، وقد تراه سابقة خطيرة قد تطال قادتها يوما ما، ولكن أيضا بسبب الإحجام المتوقع من كل الدول الأخرى عن طرح موضوع كهذا مخافة أن يضعها ترامب هي الأخرى في مرمى نيرانه المنطلقة من رشاش لا ضوابط له.
وطالما أن الأمر كذلك فلا بديل عن العمل على مزيد من الفضح والتشهير بكل هذا العبث الذي يقوم به رئيس أكبر دولة في العالم عسى أن يردعه، ولو نسبيا، اتساع التنديد الرسمي والشعبي والإعلامي بفضائحه بين حلفاء بلاده في أوروبا وغيرها وكل العالم بأسره، بل داخل الولايات المتحدة نفسها.
حين رمى ترامب بقنبلته بخصوص «امتلاك غزة» وهو يقف بجانب نتنياهو، المطلوب من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكابه جرائم حرب، والذي التقى بعدها مشرّعين في واشنطن لحثهم على العمل على تطبيقها على أرض الواقع، بالتوازي مع اتصالات أجراها فريقه مع كتاب الأعمدة في الصحافة الأمريكية للترويج لها، وفق ما ذكرته صحيفة «جروزاليم بوست» الإسرائيلية؟
حين رماها ترامب ذهب في ظن الكثيرين أن الأمر قد لا يعدو أن يكون تهديدا أو ابتزازا، أو حتى بالون اختبار لكن الرئيس الأمريكي سفّه كل ذلك حين أعاد من جديد حديثه السابق قائلا إنه «ملتزم بشراء غزة وامتلاكها» مضيفا هذه المرة في تصريحات له أخيرة على متن الطائرة الرئاسية أنه قد يمنح أجزاء من القطاع لدول أخرى في الشرق الأوسط لإعادة بنائها، معتبرا إياه «موقعا جديدا للمشاريع العقارية المستقبلية وبإمكان أناس من جميع أنحاء العالم القدوم للعيش فيه» لكن الفلسطينيين «لا حق لهم في العودة إليه»!!
لم يحدث في العصر الحديث أن نطق رئيس دولة في هذا العالم بكلام أكثر غرابة وجنونا من مثل هذا الكلام الذي جعل ناشطين كثرا يطالبون بضرورة المسارعة برفع قضايا في المحاكم الدولية ضد تصريحاته التي قالوا إنها مخالفة للقرارات الدولية وقوانين الأمم المتحدة وتروّج لشريعة الغاب بعد أن ظنّت البشرية أنها تجاوزتها إجمالا.
ما قاله ترامب لا يمكن السكوت عنه بأي حال من الأحوال، ليس فقط من أصحاب القضية من الفلسطينيين، وخاصة أهالي غزة، الذين يتساءلون بذهول واستخفاف عمن عرض قطاعهم للبيع أصلا، وكيف سيقدّر ثمنه ولمن سيدفع وغير ذلك.
لا شك أن أكبر ضمان لإفشال مخطط ترامب الأهوج عن غزة هو إصرار أهالي القطاع على رفضه جملة وتفصيلا واستهجان العالم له، مع ضرورة إصرار كل من مصر والأردن على ضرورة التصدي له، رغم حجم الضغوط الكبرى التي يتعرّضان لها من واشنطن وابتزازهما بالمساعدات، وبقاء الموقف السعودي الرافض له بقوة، خاصة وأن المملكة وغيرها من دول الخليج العربية هي المدعوة لتمويل هذا الخبل الأمريكي بلا حدود.
القدس العربي
المصدر: عربي21
كلمات دلالية: سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي سياسة اقتصاد رياضة مقالات صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة تفاعلي مقالات كاريكاتير بورتريه ترامب غزة غزة الاحتلال ترامب خطط التهجير مقالات مقالات مقالات سياسة مقالات سياسة سياسة صحافة سياسة رياضة سياسة سياسة اقتصاد رياضة صحافة أفكار عالم الفن تكنولوجيا صحة
إقرأ أيضاً:
الدب الأمريكي الذي قد يقتل صاحبه!
يتحدث التراث الإنساني عن «الدبة التي قتلت صاحبها»، و«الرواية التي قتلت صاحبها»، و«القصيدة التي قتلت صاحبها»، وكلها تعبيرات تؤكد أن الغباء يقود أحيانًا صاحبه المغرور إلى اتخاذ قرارات متهورة تؤدي إلى إلحاق الأذى به، وبمن يحبه ويدافع عنه، وقد يصل الأمر إلى حد القضاء عليه.
الآن يمكن أن نسحب هذه الأمثال والعبارات على الرئيس الأمريكي دونالد ترامب الذي وعد عند أداء اليمين الدستورية أمام الكونجرس بإعادة أمريكا -التي يحبها بالتأكيد- عظيمة مجددًا، ثم ما لبث أن أصدر سلسلة من الأوامر التنفيذية التي يؤكد مراقبون كثر أنها قد تؤدى في النهاية إلى تفكك الولايات المتحدة وغروب شمس الإمبراطورية الأمريكية.
من الوعود الكثيرة التي قطعها ترامب على نفسه، وتهمنا في هذا المقال، وعده بأن يجعل بلاده «عاصمة العالم» للذكاء الاصطناعي. ثم سرعان ما تحول إلى دب هائج ضرب هذه الصناعة في مقتل ومنح منافسيه من دول العالم الأخرى خاصة الصين فرصة للتفوق عليه، عندما رفع بشكل تعسفي، يبدو غير مدروس، التعريفات الجمركية على كل دول العالم تقريبا.
الأمر المؤكد بعد أن بدأ ترامب حربه التجارية مع العالم، أن هذه الحرب ستكون الولايات المتحدة أكثر المتضررين منها، خاصة على صعيد صناعة الذكاء الاصطناعي التي سيكون عليها من الآن فصاعدًا مواجهة منافسة شرسة مع مثيلتها في الصين ودول أخرى. والسؤال الذي يطرح نفسه حاليا على كل المهتمين بتطوير برامج الذكاء الاصطناعي هو: كيف ستؤثر التعريفات الجمركية «الترامبية» على هذه البرامج التي ما زالت في طور الحضانة التكنولوجية، إذا أخذنا في الاعتبار أنها بدأت في الظهور منذ 3 أعوام فقط وتحديدا في عام 2022 عندما أطلقت شركة «اوبن آي» برنامج «شات جي بي تي» الذي فتح الباب أمام منافسين كثر في جميع أنحاء العالم لتطوير برامج الذكاء الاصطناعي التوليدي التي حققت زيادة هائلة في الانتشار والاستخدام العالمي من جانب الشركات والمستخدمين الأفراد. وهنا تشير التقديرات إلى أن عدد مستخدمي أدوات الذكاء الاصطناعي حول العالم قد تجاوز 314 مليون مستخدم في عام 2024، ومن المتوقع أن يصل إلى حوالي 378 مليون مستخدم هذا العام. وحسب أحدث التقارير، تجاوز عدد مستخدمي تطبيقات شات جي بي تي النشطين أسبوعيًا 400 مليون مستخدم في فبراير الماضي.
ورغم تراجع ترامب المفاجئ كالعادة وإصداره أمرًا جديدًا الأسبوع الماضي بإلغاء الرسوم الجمركية التي كان قد فرضها على أجهزة الكمبيوتر المحمولة، والهواتف الذكية، وشاشات العرض المسطحة، ومحركات الأقراص، وأشباه الموصلات القوية المعروفة باسم وحدات معالجة الرسومات، والتي تعد من العناصر الضرورية لمشروعات الذكاء الاصطناعي، ورغم ترحيب شركات التكنولوجيا الأمريكية الكبرى، مثل آبل وديل، بهذا القرار؛ نظرًا لاعتمادها الكبير على المكونات المستوردة من الصين ودول أخرى، فإن قرارات ترامب التي عرفت بقرارات يوم الجمعة تم التراجع عنها بعد يوم واحد، بإعلان وزير التجارة «هوارد لوتنيك» أمس الأول «أن الرسوم الأمريكية على رقائق أشباه الموصلات والهواتف الذكية وأجهزة الكمبيوتر المحمولة، والتي أعفاها البيت الأبيض في وقت متأخر من يوم الجمعة، ما زالت قيد التنفيذ، وسيتم تحديدها في غضون شهر أو شهرين».
يتجاهل ترامب وإدارته الجمهورية حقيقة قد تعصف بصناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وهي أن الرسوم الجمركية الجديدة ستؤدي دون شك إلى زيادة كلفة إنشاء مراكز البيانات والمعلومات التي تشكل حجر الزاوية في تطوير ونشر برامج الذكاء الاصطناعي، وذلك بسبب أن المواد المطلوبة لتأسيس هذه المراكز مثل مواد البناء ومولدات الطاقة الاحتياطية ومعدات تبريد الخوادم الضخمة ما زالت تخضع للرسوم التي فرضها ترامب على الواردات الصينية.
من التناقضات الملفتة للنظر في سياسة ترامب نحو الذكاء الاصطناعي أنها تريد أن تحافظ على مكانة الولايات المتحدة «كعاصمة للذكاء الاصطناعي في العالم». ووفقًا لأقوال ترامب، فإن «على الولايات المتحدة أن تبقى في الصدارة للحفاظ على اقتصادها وأمنها القومي»، في الوقت نفسه سارع ترامب فور توليه منصبه إلى تقليص قواعد الذكاء الاصطناعي التي كان قد أصدرها الرئيس السابق جو بايدن، بأمر تنفيذي في أكتوبر 2023 لتنظيم مجال الذكاء الاصطناعي، وتحقيق التوازن بين الابتكار وحماية الأمن القومي ومصالح المستهلكين، وضمان استخدام مسؤول للتكنولوجيا مع حماية الحقوق المدنية ومنع إساءة الاستخدام، مثل الاستخدامات التي قد تنتهك الحقوق الدستورية أو تسهم في نشر الأسلحة النووية. وقد ألزم هذا الأمر الشركات العاملة في تطوير أنظمة الذكاء الاصطناعي المتقدمة بالتعاون مع الحكومة الفيدرالية، خاصةً عند تطوير تقنيات قد تشكل تهديدًا للأمن القومي أو الصحة العامة أو الاقتصاد. وتضمن هذا الأمر تقديم نتائج اختبارات الأمان وتفاصيل حول آليات تطبيقها، بالإضافة إلى توجيه الوكالات الفيدرالية لوضع معايير تنظيمية للمخاطر المرتبطة بهذه التقنيات.
جاء ترامب وألغى في فبراير الماضي بجرة قلم كل ذلك بزعم أن الخطوات التنظيمية التي وضعتها إدارة بايدن تعيق تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي وتضع عوائق أمام الشركات الأمريكية، وتجعلها في موقع تنافسي ضعيف مقارنةً بالدول الأخرى، ليعود بنفسه إلى سياسة وضع عوائق أشد.
من الواضح أن الرسوم الجمركية الصارمة التي فرضها ترامب على الصين، التي بلغت حتى الآن 145%، قد تصب في صالح الصين، وتضعف صناعة الذكاء الاصطناعي في الولايات المتحدة، وتساعد التنين الصيني في نهاية المطاف على منافسة الولايات المتحدة في مجال الذكاء الاصطناعي، خاصة وأن الصين تعد موردًا رئيسيًا لمكونات مراكز البيانات، التي لم يلغ ترامب الرسوم المفروضة عليها.
لقد استبق ترامب الأحداث وتدخل بعنف في مسيرة صناعة وليدة ما زالت في بداياتها، ولم تُحقق بعد أرباحًا كبيرة. صحيح أن شركات التقنية العملاقة ضخت استثمارات مليارية في برامج طويلة المدى لتطوير وتشغيل نماذج الذكاء الاصطناعي وبناء مراكز البيانات في جميع أنحاء الولايات المتحدة، ولكنها تبقى استثمارات بدون عوائد سريعة. ويكفي أن نشير هنا إلى أن «جوجل» أعلنت عن خطط لاستثمار 75 مليار دولار، وأعلنت شركة «مايكروسوفت» عزمها إنفاق 80 مليار دولار هذا العام، بالإضافة الى إعلان شركة «اوبن آي» و«شركة أوراكل»، استثمار ما يصل إلى 500 مليار دولار، في بناء مراكز بيانات الذكاء الاصطناعي خلال فترة ولاية ترامب. هذه الأموال الطائلة والاستثمارات الهائلة تحتاج إلى تبني سياسة الانفتاح على العالم وليس سياسة ترامب التي تغلق الباب أمام الشركات الأمريكية للحصول على ما تريده من العالم، ويتحول ترامب الى دب يقتل صناعة الذكاء الاصطناعي. إذا أردت أن تصبح بلادك عظيمة مرة أخرى يجب أن تحترم العالم المحيط بك أولا، وألا تشن حروبا من المؤكد أنك سوف تخسرها في مواجهة الجميع، وإذا أردت أن تطاع، يا عزيزي ترامب، فإن عليك كما يقول العرب «أن تأمر بالمستطاع».