شواطئ.. الاغتراب في أدب يحيى حقي (2)

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

تتابع الدكتوره عطيات أبو السعود في كتاب بعنوان "الاغتراب في أدب يحيى حقي.. دراسة أدبية من منظور نفسي" والصادر مؤخرا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، لظاهرة الاغتراب في الإبداع القصصي والروائي عند يحيى حقي بقولها:  ربما تكون غربة "إسماعيل" عن أهله ووطنه سببًا في اغترابه، لقد شعر "إسماعيل" بأنه تائه فشعوره بالعزلة وبالوحدة أظهرت لديه شعور بالقلق والحيرة، كما بدت في نظراته لمحات الخوف والذعر، كل هذا التيه والشعور بعدم التوازن، جعله يتعرض لهزة عنيفة انقطع على إثرها عن الدراسة، وكأنه غريق فقد طوق النجاة كل هذه المشاعر، ما هي إلا مظاهر لاغتراب "إسماعيل" عن كل ما عرفه ووعيه، وعاش في وطنه وسط أهله ومجتمعه، وهو يتلمس الحلال والحرام ويمارس العادات والتقاليد، ولقد استطاعت "ماري" أن تقف بجانبه وتخرجه من محنته، واستطاع أن يعود على دراسته ولكن بعد أن أضحى شخصًا غير الذى كان من قبل، فاكتمل اغترابه بعد أن اغترب عن دينه، فقد طرح الاعتقاد في الدين جانبا واستبدله بإيمان أشد وأقوى بالعلم، وعلى هذا فقد اغترب عن ذاته.

وهنا نجد الكاتب دائما يوضح من خلال القصة أن الفشل والعجز والاغتراب الذي يظهر لدى شخص مرتبط دائما عنده بالبُعد الديني ومدى تمسكه وقربة من الله وعلى أساس يمكنه قهر الاغتراب.    

عندما عاد "إسماعيل" إلى وطنه وجد نفسه غريبًا، اصطدم بالواقع والجهل والمرض والذباب والفقر والخراب، بعد كل المتعة والجمال والتقدم والتلهي، بما لذ وطاب من متع الحياة على اختلاف أشكالها في بلاد أوروبا، لقد صدمه الواقع وأيقظه على حقيقة أشد قسوة ومرارة.

رواية يحيى حقي "صح النوم" هي حكاية شعوبنا الضعيفة التي بدأت تثور في هذه الحكاية التي تنقسم لنصفين: الأول يتحدث عن الأمس وهو سرد لمصائب، تحدث في القرية التي تمثل الوطن بداها الرجل بتفسير أهل القرية لإبعاد محطة السكة الحديد عن البلد وقيام كل واحد منهم باستحسان إبعاد المحطة عن القرية لسبب أو أكثر في نفسه، ثم ثنى بذكر صاحب الحان أو الخمارة التي هي أس الفساد في البلد، حيث تبعد أصحاب المشكلات عن حل مشكلاتهم بأنفسهم، ثم ثلث بذكر القصاب وهو الجزار بلغتنا الحالية وحكايته مع العاهرة التي تزوجها وتركها تخونه المرة تلو الأخرى دون أن يحل مشكلته معها، ثم جاء ذكر القزم المترف الذى يعيش عاله على أموال زوجه رابعا، ثم خامسا يذكر زوج العرجاء وحكاية زواجهما المبنية على الرضا بالواقع، وجاء ذكر الفتى الفنان سادسا الذى يكره التجارة مهنة والده ويريد أن يكون ملحنًا، ثم جاء ذكره كرواية في فترة تريث سابعا، ثم كان ما قبل الخاتمة وصول الأستاذ وهو خلاصة الحكاية التي تبين لنا وجهة نظر يحيى حقي في إصلاح أحوال البلاد وهو نفس الأوضاع الحالية، فالأستاذ يمثل لنا المصلح الاجتماعي فقد شخص أساس داء المجتمع فقال: "هذا الأساس هو ما قد وقر في أنفس أهلها من شعور الضعة والهوان والتسليم والسكوت على الظلم وإيثار الراحة والسلامة ولو كان فيهما الذل على الجهاد ولو كان فيه بعض الفداء والنكوص عن المطالبة بالحق وإهمال أداء الواجب". 

إذن سبب المصائب التي تحيق بالمجتمع هو رضا المظلومين وسكوتهم على الظالمين، وأما الحل الذي اقترحه الأستاذ لنفسه لإنقاذ المجتمع فهو: "سأعمل جاهدًا على بث شعور العزة والكرامة في قلوب أهلنا واقناعهم بأن خلاصهم في الشجاعة في المطالبة بالحق وأداء الواجب على حد سواء".   

ويرى يحيى حقي، أن الفنون ينبغي ألا تكون مهنا احترافية يسترزق منها وإنما هو آيات لإصلاح وإسعاد المجتمع لأنها تحطم أصحابها في النهاية، وحقي يقدم لنا الفتى الفنان في هذا الجزء وقد رجع عن فكرة احتراف التلحين لأن حياة الفنانين كما قال الفتى: "ولو سرت في هذا الدرب إلى غايته للحقت بزمرة الموسيقيين الذين تنتهي حياتهم بالانتحار أو الجنون" وعمل الفتى بمهنة أبيه في دكان الحبوب ولكنه كما قال ظل غاويًا أو هاويًا للموسيقى، ويبين لنا حقي أن الجمهور لا يهمه حياة الفنان وإنما يهمه إنتاجه وهو قوله فجمهور الفنان لا يعنى إلا بإنتاجه يطلب المزيد والمزيد منه ولا يهمه هل تحطمت نفسه أم لم تتحطم.

لقد وضعت البوسطجي هنا مع الروايات رغم وجودها مع مجموعة قصصية هي دماء وطين، ولكنها تعتبر رواية في أسلوبها وكتابتها وهي تنتمي إلى الروايات القصيرة والتي تسمى بالنوفيلا. عباس البوسطجي يتنقل حديثًا من القاهرة إلى قرية كوم النحل بأسيوط ليعمل ناظرًا لمكتب البريد. وهناك يعانى جهل أهالي القرية وتزمتهم ومعاملتهم له بجفاء.. ويقرر عباس الانتقام من أهل القرية بأن يتجسس على رسائلهم ويعرف أسرارهم. 

خط اجتماعي حضاري ثقافي وخط نفسي وخط عاطفي وخط أهم عن فكرة المعرفة هل نستطيع أن نغير حياة الآخرين للأفضل إذا كنا نطلع على أخبارهم ونحيط بتجاربهم؟ سؤال صعب، لن تستطيع أن تتدخل لتجعل حياتهم أفضل، لقد خطت الحياة مسارهم بصفتهم أبناء ظروف ثقافية معينة، تجربتهم وإدراكهم وقرارهم هي الأمور التي تساعدهم على الحياة الأكثر احتمالا وجمالا، لكن الفن مرآة يمكن ان يضع الحياة القاسية أمامنا لتكون موضوعا للتأمل فتكون رسالة البوسطجي هي الكشف، ويكون يحيى حقي هو البوسطجي الذى وضع شخصية عباس في مكان المعادل الموضوعي له، لكننا لم نستطيع ان نتغير أو نفهم لأننا ننظر إلى الآداب والفنون نظرة تسلية نجد أن عباس لم يعش تجربة الغربة فقط في هذه القرية، وأيضا عاش الاغتراب بكل تفاصيله فلقد كان حانقا منذ البداية على المجتمع يشعر بالكراهية له، فلقد كان يحنق على زملائه مع بداية الإجازة الصيفية ويستطيع كل منهم أن يسافروا إلى أقاربهم فراح يسير في طرقات القاهرة وشوارعها، وعندما خرج والده على المعاش اضطر أن يترك تعليمية فازدادت كراهيته للمجتمع فلقد حرم من تحقيق هدفه بأن يكمل تعليمه، وعمل في هيئة البريد، ثم عمل كناظر محطة لكوم النحل وقمة انتقامه من المجتمع تتبلور في الانتقام من أهل القرية ومعرفة أسرارهم وهو الذى تسبب في موت جميلة.   

وهناك أيضا فعل آخر يعبر عن عدوانية وكراهيته واغترابه عن المجتمع والناس عندما وقع من على حماره بعد أن عرف البلاغات التي جاءت له تلو بعضها البعض ووقع من على حماره فقام بتمزيق الخطابات، هذا الفعل العدواني هو موجه للناس للمجتمع كثورة على تصرفاتهم وعدم رضاء عن أحواله وهذا يعبر عن اغتراب النفس والذات والاغتراب عن المجتمع. 

وفى الخاتمة تقول الباحثة: لم يفارق البحث عن الروح الشعبية وتجليتها عملًا من أعمال يحيى حقي، وأخطر ما تجلى منه في ذلك المضمار وبحثة المستمر عن ذلك الممر بين الفصحى والعامية وعندما فكر أن يتحدث عن الموسيقى أختار موسيقى فنان الشعب سيد درويش للتعبير عن الروح الشعبية. ولذلك يحيى حقي واحد من الشعب وكاتب للشعب يفهمهم ويفهمونه، يتحدث بلغتهم فيعلوا حتى يصل إلى طبقة المثقفين، ويهبط إلى مستوى الكادحين البسطاء، ويتفاعل بالروح بل يتغلل في نفوس المهمشين ويعبر عنهم، والغريب أن المرادف الذى يستخدمه واحد يجمع بين الفصحى والعامية، فيستوعبه المثقف وغيره، ويضبط طرفي المعادلة بين العلم والدين.. هكذا هو يحيى حقي رمانة ميزان الأدب.

المصدر: البوابة نيوز