الحلفاية: تحديات ما بعد التحرير…العودة والبناء
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
على الرغم من إعلان الجيش سيطرته على منطقة الحلفاية وجسرها منذ نحو ثلاثة أشهر ونيف، فإن الحياة تكاد تعود إليها ببطء شديد. المدينة أشبه بخرابة مهجورة لحقت بها لعنة الحرب... فالمساكن مُهدَّمة أو شبه مُهدَّمة تتوسطها أنقاض الأثاث المكسر، والمَرَاتب المقذوفة في الشوارع والمعجونة في المياه الآسنة،
منتدي الاعلام السوداني : غرفة التحرير المشتركة
المصدر : راديو دبنقا
11 فيراير 2025، الخرطوم بحري - على الرغم من إعلان الجيش سيطرته على منطقة الحلفاية وجسرها منذ نحو ثلاثة أشهر ونيف، فإن الحياة تكاد تعود إليها ببطء شديد.
كل هذه الأشياء، إضافة إلى ضعف الخدمات الأساسية مثل المياه والكهرباء والشبكات أو انعدامها تمامًا - عندما ضربت محطات الكهرباء معظم محطات كهرباء الولايات - إضافة لتكاثر البعوض والحشرات الأخرى والقوارض، مما دفع عشرات الأسر للتفكير ألف مرة قبل التفكير في العودة مجددًا لمنازلها بالحلفاية.
"غير مهيئة للسكن":
قالت وصال محمد إنها فضلت السكن في أم درمان وعدم العودة لمنزلها بالحلفاية لأن حيهم غير مهيأ للسكن الآن نسبة للأضرار البالغة التي ألمت به... فمعظم المنازل تعرضت للتدمير والنهب والسلب، إضافة لنمو الحشائش وتوالد البعوض والذباب، مضيفة بأن منزلها تعرض للنهب والسلب ولم يسلم حتى سقف المنزل من النهب ناهيك عن محتويات المنزل الأخرى... وأضافت وصال - لدى حديثها لـ "سودان تربيون" - بأن توالد البعوض المستشري وضعف صحة البيئة يمنعها من أن تذهب بأطفالها إلى منزلهم بالحلفاية، مما يعرضهم لأخطار الإصابة الحتمية بالأمراض، مضيفة بأن معظم جيرانهم هم خارج السودان الآن ولا يودون العودة إلا إذا انتهت الحرب تمامًا.
"مضطرة للرجوع":
على النقيض من وصال، أكدت أماني حسن بأنها مضطرة للعودة لمنزلها بالحلفاية - رغم علمها بضعف الخدمات وانعدام صحة البيئة - وذلك لعدم تمكنها من دفع قيمة الإيجار الباهظة التي فاقت المليار بالقديم في إحدى الولايات الآمنة التي كانت تقيم بها... وأضافت أماني - لدى حديثها لـ "سودان تربيون" - بأنها لم تتفاجأ بحالة الفوضى والنهب والسلب التي وجدت عليها بيتها الآن، ولكنها كانت تتوقع أن تعود الحياة لطبيعتها في الحلفاية لا أن تجد أطنان الأوساخ في الطرقات ومخلفات الحرب وبقايا الارتكازات على نواصي الطرقات، مما جعل المدينة أشبه بمدينة أشباح، مضيفة بأنها ومنذ عودتها لمنزلها منذ نحو أسبوع تعمل على تنظيفه وترتيبه، إلا أن البعوض والذباب والقوارض لا زالت تستشري فيه، مضيفة بأنه ما لم تتم تهيئة الحي بأكمله عبر رشه بالمبيدات الحشرية ونقل النفايات المكدسة بعيدًا فلن تجدي الأعمال الفردية نفعًا.
"منع الحرق":
في المقابل، توقع الشاب أحمد علي، 22 عامًا، أن تكون نسبة العائدين للحي ضعيفة حتى رمضان القادم، مشيرًا إلى أن معظم الذين خرجوا من ديارهم كان السبب الرئيسي في خروجهم هو الحرب وسماعهم صوت القصف والمفرقعات التي صمت آذانهم، ثم وقوع التدوين العشوائي والدانات على المقيمين بأحياء الخرطوم بحري التي توجد بها قوات الدعم السريع، مشيرًا إلى أن هذه الأصوات لا زالت مسموعة للمتواجدين بالحي الآن ولم تتلاشى لأن الحرب لم تتوقف بعد رغم توقف التدوين من قبل قوات الدعم السريع إلا نادرًا، وبالتالي فإن أسباب الرجوع للمنازل لم تتوفر بعد لمعظم الأسر... وأضاف أحمد - لدى حديثه لـ "سودان تربيون" - بأن معظم الأسر تربط أمر عودتها لمعظم أحياء الخرطوم بتوقف الحرب تمامًا، وبالتالي فإن بطء الخدمات قد يكون مربوطًا بقلة المواطنين الموجودين بالحي حتى وإن فاق تعدادهم المئات.
وطالب أحمد القائمين على أمر منطقة بحري وبالأخص منطقته بالحلفاية بتهيئة المنطقة لاستقبال المواطنين العائدين وذلك عبر تنظيفها من مخلفات الحرب أولًا ومخلفات صحة البيئة ثانيًا حتى تكون المنطقة مهيئة تمامًا لعودة المواطنين، مؤكدًا بأن منطقته بالحلفاية تفتقر لصحة البيئة حيث تتراكم أطنان الأوساخ بالشوارع، مضيفًا بأن السلطات الأمنية منعتهم من حرق الأوساخ حتى لا يكون الدخان علامة استكشافية للعدو.
مطالبات:
في الصعيد ذاته، طالب سيف تاج السر - عضو لجنة مواطني حي اللاسلكي بالحلفاية - السلطات القائمة على أمر مدينته بتوفير الآليات اللازمة لتنظيف المدينة، مؤكدًا على تعاونهم التام مع السلطات من أجل تنظيف الحي من مخلفات الحرب والأوساخ. وأشار سيف - لدى حديثه لـ "سودان تربيون" - بأنه كعضو لجنة حي يتعهد إذا وفرت محلية الحلفاية سيارات النظافة من بلدوزرات وسحابات وناقلات للأوساخ فإنهم كمواطنين سيوفرون الوقود لهذه الآليات، مؤكدًا تعاونهم التام مع السلطات من أجل عودة الحياة للمنطقة، مضيفًا بأنهم كمواطنين طالبوا السلطات بتوفير المبيدات وأدوات الرش حتى يتمكنوا من تهيئة وتنظيف المنطقة، مضيفًا بأنه في حال توفر هذه المعينات سيقومون بتنظيف وتهيئة المنطقة لعودة الأسر، كما طالبوا القائمين على أمر مدينة الحلفاية بتوفير مياه صالحة للشرب وإرجاع الكهرباء للمدينة ودعم التكية لأن الموجودين بالحي فقدوا أشغالهم وممتلكاتهم منذ نشوب الحرب وأصبحوا غير قادرين على إعالة أنفسهم وأسرهم.
ضرورة إصلاح البيئة:
طالب الخبير البيئي د. عبد المعطي أحمد - المحاضر بعدد من الجامعات السودانية - القائمين على أمر محلية بحري بضرورة تنظيف منطقة الحلفاية من مخلفات الحرب، مشددًا على خطورة هذه المخلفات على الإنسان والحيوان عند ملامسته لها مخلفة انفجارات قاتلة؛ وأضاف أحمد - لدى حديثه لـ "سودان تربيون" - بأن هناك نفايات أخرى لا تقل خطورة عن مخلفات الحرب، مضيفًا بأن النفايات المنزلية المكدسة والحشائش والأشجار تتسبب في أمراض عديدة لذلك يجب إبعاد النفايات إلى مناطق بعيدة عن السكان حيث يتم حرقها هناك... كما يجب إزالة الحشائش والأعشاب الضارة وحرقها ورش المنازل والشوارع بالمبيدات الحشرية حتى تتم مكافحة الحشرات والآفات التي تسبب الأمراض للإنسان.
خطة إطارية بيئية:
وفي السياق نفسه، قال الخبير البيئي البروفيسور تاج السر بشير بأن هناك رؤية متكاملة لاستعادة العافية البيئية بعد وقف الحرب وإقرار السلام وذلك قبيل عودة المواطنين؛ وأكد بشير - لدى حديثه لـ "سودان تربيون" - على ضرورة إعداد خطة إطارية تعكس رؤية متكاملة تكفل استدامة العافية البيئية، لافتًا لضرورة تقييم الوضع البيئي الراهن وفقًا لعناصر مصفوفة الاستدامة البيئية التي أعدتها لجنة بروتلاند بواسطة فريق عمل Task Force.
وأضاف بشير بأنه بناءً على مخرجات المرحلة الأولى يمكن تحديد المخاطر والمهددات ومن ثم عمل إعداد برنامج إسعافي لإعمار البيئة ثم عمل آلية رقابية لمتابعة تنفيذ الخطط السابقة بما يضمن تحقيق استدامة العافية للبيئة.
بداية تأهيل
قال المدير الإداري لمحلية بحري، السنوسي سليمان أحمد، إن محليته بدأت حاليًا في استعادة ما نُهِبَ منها من سيارات النفايات، لذلك فهي الآن تعمل بعربة قلاب وحيدة، وبدأت فعليًا في نقل النفايات في منطقة سوق الحلفاية والمنطقة المتاخمة لمركز صحي الحلفاية، وستنتظم قريبًا جميع الأحياء، مضيفًا بأن هناك جهات تساعد محليته لعمل اللازم تجاه إزالة النفايات من المنطقة مثل كتائب البراء... وأقر سليمان - لدى حديثه لـ "سودان تربيون" - بالنقص الحاد في طلمبات الرش، واعدًا بعمل اللازم فور توفر الميزانية.
في السياق نفسه، انطلقت أمس الحملة الكبرى لإسناد محلية بحري لاستقبال العائدين، وركزت الحملة على أعمال النظافة والكنس وإزالة الأشجار - والتي شاركت فيها كل من محليتي أم درمان وكرري - فيما شاركت هيئة الطرق والجسور في إزالة المتاريس وإزاحة العربات المحترقة على طول الطريق الممتد من الحلفاية حتى أبو حليمة.. كما عمل جهاز إزالة الألغام في نزع الألغام والمتفجرات والأجسام الغريبة من الطرقات المعتمة... وقال الأمين العام لحكومة الخرطوم، الهادي عبد السيد - في تصريح صحفي - إن الحملة تأتي بغرض تهيئة المنطقة للعودة الطوعية للمواطنين، مشيرًا إلى أن وزارة الصحة ستقوم بتنفيذ حملة كبرى لمكافحة نواقل الأمراض.
جهود مقدرة
في السياق نفسه، انطلقت أمس حملة نظافة حكومية إلا أنها لم تنتظم كل الأحياء، وقال إعلام ولاية الخرطوم بأن أعمال النظافة وإزالة المتاريس تأتي في إطار خطة الولاية لاستقبال العائدين، مشيرًا إلى أن الحملة التي جاءت بمشاركة كل من محليتي أم درمان وكرري وكانت مكلفة بأعمال الكنس والنظافة وإزالة الأشجار وإزاحة العربات المحترقة على طول الطريق من منطقة الحلفاية وحتى أبو حليمة... وأشار التصريح إلى أن الحملة شارك فيها جهاز إزالة الألغام والمتفجرات والأجسام الغريبة كما ستشارك فيها وزارة الصحة وذلك لمكافحة نواقل الأمراض.
SilenceKills #الصمتيقتل #NoTimeToWasteForSudan #الوضعفيالسودانلايحتملالتأجيل #StandWithSudan #ساندواالسودان #SudanMediaForum
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: مخلفات الحرب مشیر ا إلى أن سودان تربیون على أمر تمام ا
إقرأ أيضاً:
المراحل العشر التي قادت فيتنام إلى عملية الريح المتكررة ضد أميركا
في ظهيرة يوم شديد الصعوبة من أبريل/ نيسان عام 1975، بثت إذاعة الجيش الأميركي خبراً مفاده أن "درجة الحرارة في سايغون تبلغ 105 درجات وترتفع"، كانت تلك رسالة مشفرة تعني أن الوضع قد وصل إلى حد الانفلات التام في أعقاب هجوم واسع لقوات حكومة فيتنام الشمالية، وأنه قد بدأ الإجلاء الفوري لجميع الأميركيين المتبقين في فيتنام، بعدما كانت الولايات المتحدة قد سحبت قواتها القتالية من فيتنام وفقا للاتفاقية الموقعة في باريس عام 1973، تاركة نحو 5000 أميركي في مهام دبلوماسية واستخباراتية.
وخلال ساعات؛ وثقت الكاميرات مشهد عشرات الأميركيين والجنود الفيتناميين الجنوبيين واقفين على سطح مبنى في سايغون (عاصمة فيتنام الجنوبية)، أعينهم معلقة بطائرة هليكوبتر أميركية تهبط على عجل. رجال ونساء وأطفال يصطفون على درج معدني ضيق، يتدافعون بحذر وخوف نحو الطائرة التي لا تسع إلا عدداً قليلاً.
اقرأ أيضا list of 2 itemslist 1 of 2نصف مليون جندي و8 ملايين طن من القنابل.. لماذا هُزمت أميركا في فيتنام؟list 2 of 2في حال وقع المحظور النووي هل ستنحاز أميركا للهند أم باكستان؟end of listكان ذلك المشهد ذروة عملية الإجلاء السريع التي عُرفت باسم "عملية الريح المتكررة" (Operation Frequent Wind)، وأصبحت رمزًا مريرًا لنهاية أطول حرب خاضتها الولايات المتحدة في القرن العشرين.
لكن كيف وصلت فييتنام إلى هذه اللحظة؟ وكيف تحوّل بلد زراعي صغير على هامش خريطة آسيا إلى ساحة صراعٍ دوليّ دمويّ، وإلى اختبارٍ عسير لطموحات القوى الكبرى ومرآة لانكساراتها؟ ولفهم هذه التحولات التي باتت تمثل واحدة من أهم المعارك العسكرية في القرن العشرين؛ لا بد من العودة إلى البدايات؛ إلى الحسابات الجيوسياسية لحقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية وماقبل ذلك في زمن الاستعمار القديم، تلك الحسابات التي تجاوزت حدود فيتنام الضيقة وجعلت منها ساحةً لصراع استمر أكثر من عقدين من الزمن.
منذ القرن التاسع عشر؛ كانت فيتنام جزءًا من المستعمرات الفرنسية، إلى جانب لاوس وكمبوديا (كانت الدول الثلاث تعرف باسم الهند الصينية). وكانت البلاد أشبه بساحة خلفية للإمبراطورية الفرنسية، حيث نُهبت ثرواتها الطبيعية، وقُمعت حركاتها الشعبية، وزُرعت فيها بذور الانقسام الطبقي والثقافي.
إعلانلم تكن فيتنام تحديدا مجرد مستعمرة بعيدة، بل كانت عقدة حيوية في خريطة النفوذ الفرنسي في آسيا. ميناء "هايفونغ" التجاري الأهم في فيتنام، والمزارع التي كانت تنتج الأرز والمطاط، وخطوط السكك الحديدية التي تربط الهضاب بالمرافئ، كلها كانت تُدار لخدمة باريس، وليس لخدمة هانوي.
المحطة الثانية: فرصة خاطفة للاستقلالفي منتصف القرن العشرين، ومع اندلاع الحرب العالمية الثانية؛ بدأ التوازن الاستعماري القديم يتصدع. اجتاحت اليابان الهند الصينية عام 1940، تاركة الإدارة الاسمية لفرنسا الفيشية، لكنها عمليًا أضعفت القبضة الفرنسية وأفسحت المجال لنمو تيارات المقاومة المحلية. من بين هذه التيارات، برزت شخصية استثنائية ستغيّر وجه آسيا، ويحمل الفيتناميون صورته اليوم وهم يحتفلون بالذكرى الخمسين لتوحيد بلادهم: هو تشي منه.
أسّس هو تشي منه "رابطة استقلال فييتنام" أو "الفييت مينه"، وهي حركة قومية شيوعية، مزجت بين الكفاح المسلح والتحريض الشعبي. وعندما انتهت الحرب العالمية الثانية عام 1945، وإعلان استسلام اليابان، كانت الفرصة سانحة أمام هو تشي منه، فأعلن استقلال فيتنام عن الامبراطورية اليابانية في ساحة "با دينه" بهانوي.
لم يعمر حلم الاستقلال طويلًا. فرنسا، التي خرجت مدمّرة من الحرب العالمية الثانية، أرادت استعادة "هيبتها" من خلال إعادة بسط نفوذها على مستعمراتها القديمة. تجاهلت إعلان الاستقلال في هانوي، ونزلت قواتها مجددًا إلى الأراضي الفيتنامية، لتبدأ بذلك حربًا دموية جديدة. وبذلك؛ وُلدت حرب الهند الصينية الأولى، والتي ستُشكّل الأساس لحرب فيتنام القادمة.
لم يكن الاستعمار هذه المرة مثل الاستعمار القديم منحصرا فقط في استغلال الموارد؛ بل برز في قلبه صراع أيديولوجي ناشئ حول رؤيتين للعالم: فرنسا التي تمثّل الغرب الرأسمالي الإمبريالي، وفيتنام التي بدأت تتجه نحو الفكر الشيوعي، مدفوعة بإرث الاحتلال، وبحلم العدالة الاجتماعية.
إعلانكانت التربة الفيتنامية قد تشبعت بما يكفي من الغضب، وكان المشهد الإقليمي والعالمي مهيأً لانفجار طويل الأمد، لن ينتهي إلا بعد ثلاثة عقود من الدم والنار.
المحطة الرابعة: "ديان بيان فو" حيث دفنت فرنسا رايتها وورثت أمريكا عبء الإمبراطوريةفي وادٍ بعيد تحيط به التلال شمالي غرب فيتنام، خسرت فرنسا آخر رهاناتها الاستعمارية الكبرى. بدأت المعركة في مارس 1954، واستمرت 57 يومًا من القصف والحصار والنار. حاصرت المقاومة الفيتنامية بقيادة فو نغوين جياب الجنود الفرنسيين. واعتبرت المعركة لاحقا أحد الدروس التاريخية المذهلة في فنون وتكتيكات حرب العصابات وقدرتها على التفوق على الجيوش النظامية.
وفي السابع من مايو 1954، استسلمت القوات الفرنسية في ديان بيان فو، بينما كانت قادة فرنسا يبحثون في جنيف عن مخرج مشرّف. وفي يوليو 1954، اجتمع القوى الكبرى في العالم في مؤتمر جنيف، حيث تقرر تقسيم فييتنام مؤقتًا على طول خط العرض 17، الشمال بقيادة هو تشي منه الشيوعي، عاصمته هانوي. والجنوب بقيادة نظام مدعوم من الغرب، برئاسة إمبراطور صوري ثم رئيس فعلي هو نغو دينه ديم. لكن الاتفاق نص أيضًا على إجراء انتخابات وطنية موحدة عام 1956، لكنها لم تحدث، لأن الولايات المتحدة خشيت من فوز الشيوعيين.
من هنا، بدأت واشنطن تتدخل في فييتنام. لم يكن هناك إنزال عسكري بعد، وكانت الولايات المتحدة آنذاك تخشى من ما يسمى "تأثير الدومينو": إذا سقطت فييتنام في يد الشيوعية، ستتبعها لاوس وكمبوديا وتايلاند، وربما تصل العدوى إلى أستراليا! وهكذا، تحوّلت فييتنام من ساحة استعمار قديم إلى مسرح للصراع الأيديولوجي العالمي الذي تصاعد بعد الحرب الباردة.
انتهى الوجود الفرنسي رسميًا في جنوب فييتنام في أبريل 1956، وبقيت البلاد منقسمة بحكم الواقع بين حكومة “جمهورية فييتنام” في الجنوب، وحكومة “جمهورية فييتنام الديمقراطية” بقيادة هو تشي منه في الشمال.
إعلاندشن ديان دينه ديم (حليف أمريكي) سياسة أيديولوجية قومية وعنيفة ضد المعارضين داخليًا، معطياً امتيازات واسعة للكاثوليك وهو ما أشعل اضطرابات اجتماعية وانتفاضات بوذية ضد حكمه. عام 1960 تأسست «جبهة التحرير الوطني» المعروفة بـ"الفيت كونغ" لإعادة توحيد كل قوى المعارضة في الجنوب تحت قيادة الشمال. اعتمدت الفيت كونغ على تكتيكات حرب العصابات وبنية تحتية سرية في الدول المجاورة من الهند الصينية لتأمين الإمداد اللوجيستي.
المحطة السادسة: خليج تونكين؛ الذريعة التي فتحت أبواب الجحيمفي أغسطس من عام 1964، زعمت البحرية الأمريكية أن مدمّرتها يو إس إس مادوكس تعرّضت لهجوم من زوارق طوربيد فيتنامية شمالية في خليج تونكين. لم تكن التفاصيل واضحة، والصور غير حاسمة، لكن الرئيس ليندون جونسون لم يحتج لأكثر من هذه الشرارة لطلب تفويض مطلق من الكونغرس لاستخدام القوة في فييتنام. وهكذا، صدر قرار خليج تونكين، الذي منح البيت الأبيض يدًا طليقة لشن الحرب دون إعلان رسمي.
كانت الحادثة التي لا يزال الجدل قائمًا حول صحتها الكاملة نقطة تحوّل فاصلة، إذ انتقلت أمريكا من دور المستشار والراعي في الظل إلى قوة محتلة، تمطر الأدغال الفيتنامية بعشرات الآلاف من الجنود والقنابل.
وبحلول عام 1965، بدأ التصعيد العسكري الكبير: إرسال أولى وحدات القتال، ثم القصف الجوي المكثف على شمال فييتنام في حملة سُمّيت "رعد متواصل" (Operation Rolling Thunder).
مع تصاعد عدد القتلى، وغياب أفق النصر، بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب تدريجيًا على الحرب. اللحظة المفصلية جاءت عام 1968، بعد هجوم مفاجئ شنّه الفيتكونغ في رأس السنة القمرية (هجوم تيت) على عشرات المدن في الجنوب، بما فيها سايغون نفسها. ورغم أن الهجوم ألحق خسائر هائلة بالمقاومين الفيتناميين وربما يعتبر خسارة عسكرية، إلا أنه زلزل ثقة الأمريكيين بقدرتهم علي تحقيق النصر. فقد بدا لهم كأن العدو "المنهك" لا يزال قادرًا على الضرب بقوة في عمق المناطق الآمنة، سيظل كذلك.
المحطة الثامنة: "فتنمة الحرب".
حين تولّى ريتشارد نيكسون الرئاسة في الولايات المتحدة عام 1969، كانت فييتنام قد أصبحت كابوسًا سياسيًا وعسكريًا. أدرك نيكسون أن النصر الكامل مستحيل، لكنه لم يشأ الانسحاب فجأة. فطرح استراتيجية سمّاها: "فتنمة الحرب" (Vietnamization)، أي تحويل عبء القتال إلى الجيش الفيتنامي الجنوبي، بينما تبدأ القوات الأمريكية بالانسحاب التدريجي.
المرحلة التاسعة: رحيل آخر الجنود المقاتلينلم تكن "فتنمة الحرب" أكثر من محاولة لتأجيل الهزيمة، لا تجنّبها. فالجيش الجنوبي كان ضعيف التدريب، ويفتقر للحافز القتالي، في حين كان الشمال يزداد صلابة. في الوقت نفسه، وسّع نيكسون الحرب عبر قصف كمبوديا ولاوس بحجة ضرب خطوط الإمداد الفيتنامية (طريق هو تشي منه)، ما أدى إلى توسيع رقعة الصراع، وخلق المزيد من الفوضى في المنطقة، وأشعل المعارضة داخل الولايات المتحدة.
لم يستجب الفيتناميون لرغبة الأمريكان في التفاوض مباشرة، واستمروا في إلحاق الخسائر بهم، حتى عام 1973 حين وقّعت أميركا اتفاقية باريس للسلام مع حكومة فيتنام الشمالية، معلنة انسحابها الرسمي من الحرب، بعد أن خسرت أكثر من 58 ألف جندي، وأبقت على نحو 5000 آلاف جندي فقط في مهام غير قتالية.
المحطة العاشرة: سقوط سايجون
في ربيع عام 1975، بدأ الجيش الشمالي الزحف النهائي نحو العاصمة الجنوبية سايغون. كانت القوات الفيتنامية الشمالية مدعومة بخبرة طويلة، وعقيدة قتالية متماسكة، بينما كان الجنوب، رغم الأسلحة الأمريكية المتروكة، منهارًا معنويًا. سقطت المدن الواحدة تلو الأخرى، بلا مقاومة تُذكر. أما واشنطن، فقد اكتفت بالمراقبة، بعد أن قطعت المساعدات العسكرية.
في 30 أبريل 1975، دخلت دبابات الشمال سايغون. لم تكن هناك معركة حقيقية. رفع الجنود علمهم الأحمر بنجمة صفراء فوق القصر الرئاسي، وانتهت الجمهورية الفيتنامية الجنوبية إلى الأبد. لم يُعلن عن هزيمة أمريكية رسميًا، لكنها بقيت محفورة ومستقرة في التاريخ العسكري والاستراتيجي: أن الفيتناميين هزموا الولايات المتحدة.
إعلان