إذن لا يزال هناك فـي هذه الحياة - التي تبدو كالحة بعض الشيء، فـي هذا العصر الذي فقد جميع نقاط استدلاله ومرجعياته والكثير من قيمه، أو بمعنى ما، هذه الحياة التي وكأنها أعلنت لائحة موتها النهائية وانسحابها من صورتها قبل أي شيء آخر- بعض الأبطال الحقيقيين فـيها، أو لنقل بعض البطلات اللواتي نستطيع أن نلتقي بهن فـي الشارع ونتحدث معهن ونتعرف إليهن.
هذا ما يراودنا ونحن نقرأ رواية «ملحمة أنيت» للكاتبة الألمانية أنَّه فـيبر (الصادرة بترجمة عربية جميلة لسمير جريس، عن منشورات «الكرمة»، فـي القاهرة)، وهي الرواية التي حازت «جائزة الكتاب الألماني» لعام 2020، حيث جاء فـي حيثياتها «إنه لأمر مبهر كيف يبدو هذا الشكل الملحمي القديم طازجا، وبأي خفة استطاعت فـيبر تكثيف حياة آن بومانور، المناضلة فـي حركة المقاومة الفرنسية وتحويلها إلى رواية عن الشجاعة، وصلابة المقاومة، والنضال من أجل الحرية».
تخبرنا هذه الجملة السابقة المقتطفة من بيان لجنة التحكيم، ودفعة واحدة، عن أجواء الرواية التي تأخذنا إلى عالم نتناساه «عمدا»؛ نتناساه عمدا بكون كل فعل مقاومة، ضد الاحتلال، أصبح اليوم ملعونا، وكأنه ذلك الشرير الذي يجب التخلص منه.
فـي أيّ حال، وفـي منطقة «الدروم» (الفرنسية) وبالقرب من قرية صغيرة، كان تعيش آن بومانوار (لا يرد اسمها إلا مرة واحدة طيلة الكتاب)، المعروفة باسم أنيت، وهي امرأة صغيرة تبلغ من العمر ما يقرب من مائة عام، ذات عينين لامعتين وخطاب حيوي. انضمت إلى المقاومة الشيوعية ضد الاحتلال النازي لبلادها وهي فـي سن التاسعة عشرة، وخرقت قواعدها من خلال أخذ زمام المبادرة لإنقاذ مراهقين يهوديين. ناضلت فـي مدن عدّة: رين وباريس وليون؛ شاركت فـي تحرير مارسيليا، وبعد فترة قصيرة من حياة بورجوازية - دراسة الطب والزواج والإنجاب - التزمت عميقا بحرب الاستقلال الجزائرية، الأمر الذي أدّى إلى الحكم عليها بالسجن لمدة عشر سنوات. بيد أنها تمكنت من الهروب، «بشكل لا يصدق» فوصلت إلى تونس، ثم إلى الجزائر حيث شاركت فـي أول حكومة مستقلة فـي عهد بن بلة، قبل أن تضطر إلى الفرار مرة أخرى بعد انقلاب بومدين. هكذا كانت حياتها باختصار شديد. من هنا، بدا السؤال الكبير، سؤال الكتابة، كيف يمكن أن نحكي عن منعطفات وتقلبات هذه الحياة البطولية وأعمالها العظيمة وحتى شكوكها؟
من هنا، تلجأ الكاتبة إلى النشيد، فهذه الملحمة الحياتية، تستحق ملحمية الكتابة، لذا نحن لا نقف أمام سردية عادية من سرديات القص، بل وكأننا أمام قصيدة «بطولية»، ترويها أنّه فـيبر، المولودة فـي ألمانيا العام 1964، والتي تعيش فـي باريس، حيث كتبت مجموعة من «الأعمال المبتكرة والمتنوعة، التي تغرف كثيرا من الرواية الأسطورية»، من دون أن تنسى فـيها محاولة «استكشاف أصولها عبر رحلة فـي الزمن»، مع العلم أنها تكتب كل كتاب من كتبها بلغتين: الألمانية والفرنسية، وهي أيضا مترجمة نقلت أعمال كتّاب فرنسيين إلى الألمانية وكتّاب ألمان إلى الفرنسية، فـي رحلة «بين ضفتين».
عبر مسار حياتها هذه، تأخذنا الكاتبة إلى مسار آنيت النضالي، الذي لم يتوقف لغاية أيامها الأخيرة، حتى على حساب عائلتها. حياة مثالية، بالنسبة إلى كثيرين منّا؛ حياة مثيرة للإعجاب، من دون أي تنازلات، والأهم من دون أي أخطاء. لكن علينا أن ننتبه إلى أمر أساسي: بالنسبة إلى أولئك الذين يعرفون تلك الفترة من التاريخ، ربما لا يجلب الكتاب لهم أي شيء جديد، إلا صورة هذه المرأة الاستثنائية؛ لكن الكتاب، ومن دون أدنى شك، يقدم الكثير للأجيال الجديدة، التي لم تلتقط إشارات التاريخ ولم تقرأ عنه، إلا ما تحاول بعض وسائل الإعلام تسريبه، وربما تزويره. من هنا تأتي هذه «الشهادة» - وأستعمل هذه الكلمة اصطلاحا؛ لأن الرواية مستمدة من أفضل مصدر: إنها آنّه نفسها من يروي كل ذلك، بعد أن التقت بها الكاتبة وسجلت لها «مذكراتها» - كوثيقة حياتية وفكرية ونضالية عن امرأة ناضلت بصمت من دون أي ضجيج، فالمقاومة، مثل معظم الأشياء التي نقوم بها، وكما نقرأ بما معناه، لا تتأتى (أو تنتج) من قرار نتخذه مرة واحدة وإلى الأبد، ولكن من تحول، إذا جاز التعبير، من تحول غير محسوس وتقدمي نحو شيء لا نملك أي فكرة عنه بعد.
قد يكون أجمل ما فـي هذه «السيرة الملحمية»، أن الأبطال يكونون أعظم بكثير عندما لا يعرفون أنهم أبطال. عندما يتفاجؤون بالغار الذي يوضع على رؤوسهم. فـي أي حال، وعلى الرغم من أن الكاتبة تروي قصة أنيت بدقة شديدة، إلا أنها ترويها «بتواضع»، حيث لا تميل إلى كتابة مشاهد العنف الفجة، وحين تشعر أنها لا تستطيع تجاوز ذلك، نجدها تسكت عبر «وقفة بسيطة»، تاركة لنا، ما لا يمكن وصفه، وراء هذه الكلمة، لتعطي المجال والحيوية لخيالنا بأن يكون قادرا تماما على إكمال بقية الرحلة.
بعيدا عن سيرة البطلة الملحمية، تعود الكتابة هنا، على نوع من أغنية أو نشيد كما أسلفت، وذلك بالمعنى القديم للكلمة. ثمة نشيد وغناء للبطلة، عبر نوع من الشعر الحرّ، يسلط الضوء على قوة وشجاعة هذه المرأة عبر «مغامراتها». قد نشعر فـي البداية بنوع من الزعزعة ما ونحن نقرأ هذا النوع من «الكتابة الروائية»، إلا أنه ما إن تمضي بعض الصفحات حتى يحملنا الإيقاع بعيدا، وبسرعة كبيرة، كذلك تأتي هذه الانقطاعات فـي الخطوط العريضة (ما أشرت إليه سابقا بجعل القارئ يتخيل ما لا يقال) لتجعلنا نهدأ أكثر مما تزعجنا.
هل باحت لنا الحياة بكل أسرارها؟ بالتأكيد لا. لذا فهذا كتاب يقرأ وبخاصة لمن يحب أن يغوص طويلا فـي سيرة المجهول، قبل أن تعود لتطفو على السطح بفضل... الأدب. ربما لأن الأدب يبقى دائما أهم من التاريخ. قلت ربما.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: من دون
إقرأ أيضاً:
ما الذي تغيّر بين الأمس واليوم؟
إذا أرادت شركات الإحصاء إجراء مقارنة بين الوضع النفسي للبناني في 9 كانون الثاني من كل الفئات الطائفية والحزبية والمناطقية وبين الأشخاص أنفسهم في 9 شباط لأكتشف القائمون بهذه المقارنة أن الفرق كبير جدّا. فما الذي تغيّر؟
في التاريخ الأول لم يصدّق اللبنانيون لكثرة فرحتهم أنه قد أصبح لهم رئيس للجمهورية وعادت الحياة إلى القصر الجمهوري بعد سنتين وشهرين تقريبًا من الفراغ، الذي احتل هذا القصر، وحجب عنه الدور الوطني الكبير المفروض أن يؤدّيه في كل الأزمنة، وبالأخص في زمن التغيير والإصلاح. فهذا الرئيس آتٍ من تجربة عميقة في الحفاظ على المؤسسة العسكرية في أشد المحن التي مرّت بها، فأبقاها واقفة على رجليها، ولو بإمكانات متواضعة، ومدّها بكل ما تحتاج إليه من أمصال معنوية ومادية متاحة وممكنة، فقامت بالأدوار المطلوبة منها بكل مسؤولية وشجاعة وإقدام، ولم تتلكأ عن القيام بأي واجب وطني من النهر الكبير الجنوبي حتى الناقورة في مراحل مهامها المتقدمة.
وما ينتظر الرئيس جوزاف عون من تحدّيات سبق أن واجهها بحكمة ودراية ومسؤولية. وعندما توافق مئة نائب من ممثلي الأمة على اختياره رئيسًا للجمهورية كان يعرف أن المهمة المقبل عليها ليست سهلة، وقد تكون أكثر صعوبة من مهمته الأولى، لكنه مقتنع بأنها مهمة غير مستحيلة، خصوصًا إذا توافرت الإرادة الصلبة لمواجهة كل العراقيل والصعاب، والعمل بالتالي على معالجتها بحكمة وحزم وحسم في الوقت ذاته.
فما جاء في خطاب القسم من وعود زهرية هو تعبير صادق عمّا يريد كل لبناني أن يكون عليه الوضع، خصوصًا أنهم عاشوا أسوأ الأزمات في السنوات الأخيرة، وذلك لكثرة ما مرّ عليهم من تجارب قاسية بدأت بانهيار القيمة الشرائية للعملة الوطنية وفقدانهم لودائعهم، التي تبخرّت بفعل فاعل مجهول بين ليلة وضحاها، مرورًا بكل الأزمات الناتجة عن الرهانات الخاطئة، وصولًا إلى الحرب المدّمرة التي شنتها إسرائيل على لبنان.
وبانتخاب العماد عون رئيسًا للجمهورية بدأ الاطمئنان يدخل إلى قلوب اللبنانيين لناحية أن الغد سيكون حتمًا أفضل من الأمس، وأن الأيام المقبلة ستحمل معها حلولًا سحرية. ولهذا السبب، ولأنهم مستعجلون على رؤية لبنان وقد استعاد عافيته بسرعة قياسية، فهم يشعرون اليوم بعد تشكيل الحكومة الأولى في العهد الجديد، التي تجاوزت كل العراقيل التي وضعت في طريق تشكيلها، أن شيئًا ما قد تغيّر، وأن ثمة أملًا بدأ يلوح في أفق الأزمات المتراكمة.
صحيح أن رئيس الجمهورية لا يستطيع لوحده أن يجترح الأعاجيب، وأنه لا يملك عصا موسى السحرية، ولكن الصحيح أيضًا أنه قادر بما لديه من إرادة وتصميم، وبالاتكال على ما يمكن أن تقوم به الحكومة الجديدة، حكومة "الإصلاح والإنقاذ"، من إنجازات في خلال سنة وثلاثة أشهر تقريبًا، وهي فترة كافية لكي تتمكّن "الحكومة السلامية" من انجاز ما بدأت به حكومة "معا للعمل"، التي ترأسها الرئيس نجيب ميقاتي في أكثر الفترات صعوبة في تاريخ لبنان، فاستطاعت بالحدّ الأدنى من مقومات الصمود أن تمنع سقوط لبنان في أكثر من تجربة.
فالجميع يراهنون على أن يستوحي البيان الوزاري لنقاط الأساسية التي تحتاج إلى معالجات سريعة مما جاء في خطاب القسم، وأن يكون ممنهجًا وفق الأولويات، وهي كثيرة، ولكن الأهم ألا تكبّر الحكومة حجرها، وذلك تلافيًا لعدم الالتزام بكل ما قد يتضمنه هذا البيان من وعود، ولئلا تأتي ردات الفعل متباينة بين خيبات الأمل وبين السعي إلى تحقيق خطوات صغيرة تراكمية من شأنها أن تترك بعض البصمات المتواضعة، ولكن ثابتة في الوقت ذاته. المصدر: خاص "لبنان 24"