أثناء حديثي العابر مع الفنان والمخرج المسرحي الصلت السيابي، في أيام مهرجان المسرح العربي بمسقط، تطرقنا إلى عمل مسرحي قدمته فرقة الشفق المسرحية في محافل دولية عديدة، وعادت بجوائز بلغت الثمانية، وهو العرض المسرحي "أصبع روج"، أكد لي الصلت حينها أن النية منعقدة لعرض العمل في سلطنة عمان، ولكنه ينتظر فرصة سانحة للمشاركة به في مهرجان محلي، إلا أن الحائل دون ذلك ربما تمثل في جرأة النص المسرحي، الذي خطه الكاتب السعودي عباس الحايك.

ومنذ تلك الأثناء وأنا متشوق لرؤية هذا العمل بكل ما فيه من مأساة ومعاناة في حقيقتها، ولكني كنت مؤمنًا بأن الفنانين وليد المغيزوي وإبراهيم المعشري قادران على تقديم فرجة مسرحية تجذب الأنظار وتبعث بالحماس وشد الانتباه وكذلك كسر حدة الجمود في النص لإقحام نوع من الكوميديا والإثارة في العرض، وما زاد إيماني بذلك أن العمل بقيادة ربان مبدع إخراجًا وتأليفًا وتمثيلًا، الصلت السيابي.

لذلك، ما أن أعلنت فرقة الشفق المسرحية تقديم العرض، الذي قدِّم مساء أمس على مسرح كلية الدراسات المصرفية والمالية ببوشر، كنت حريصًا على حجز مقعدي الذي أتيح عبر "شباك التذاكر"، بل وطرحت الفكرة على مجموعة من الأصدقاء لنكون 6 شاهدنا عرضًا ملهِمًا، بل وكان ما شهدناه بعد ذلك محور حديث حول الأداء والفكرة والتفاصيل والجرأة والمتعة والكثير.

حكاية العمل

تطرح المسرحية "الديودرامية" قضية مرتبطة بالطب النفسي، أو علم النفس، مركزة على "اضطراب الهوية الجندرية"، إذ تدور الحكاية حول شاب يعاني من هذا الاضطراب، ويسرد حكاياته المأساوية التي يعيشها منذ طفولته ما قبل المدرسة، ومرورًا بالدراسة المدرسية وإلى المرحلة الجامعية، صراعات عاشها دون أن يجد نفسه مخاطبًا لروحه، عاشها ببراءة الطفولة مع والده، ثم مع والدته.

عند طفولته، وجد نفسه يميل إلى اللعب مع الفتيان، واقتناء ألعابهن، يحب اللون الزهري والزهور ما تميل إليه الفتيات، منذ تلك اللحظة يجد نفسه أمام غضب والده، الذي يأمره باللعب مع الأولاد واللعب بالكرة والسيارات وغيرها، قائلاً له: "أنت صبي".

يكبر الطفل تدريجيًا في ظل هذا الصدام مع والده، بينما يجد جزءًا من الحنان تجاه والدته التي تتفهم حالته، توصيه بأن يحتفظ بهذا الشعور لنفسه دون مشاركة أحد، وهو ما حدث إلا من تدوين مذكراته ومشاعره على دفاتر لا يطلع على ما في دفتيها إلا هو، إلى أن وجدت والدته تلك المذكرات فتشتاط غضبًا مقرونًا بالخوف من أن يطلع على تلك المذكرات أحد، فتقوم بتمزيق المذكرات وكأنها مزقت قلبه.

لم تكن القسوة التي تلقاها الشاب قسوة معنوية، بل تجاوزت ذلك إلى القسوة الحسية المتمثلة بالضرب، وفي دخوله المدرسة واجه تنمر الطلاب، فلم يجد حنانًا إلا من قبل أحد معلميه الذي يلجأ إليه للشعور بالدفء، وهنا قدم العمل رسالة لواقع حقيقي إلى حد كبير، بأن الطفل إذا لم يجد حنانًا من داخل بيته، فإنه سيبحث عنه في الخارج.

يكبر الشاب لينقسم إلى اثنين، فيخاطب نفسه بالحقيقة التي يشعر بها، والحقيقة الأخرى المتمثلة في الأوراق الرسمية، باحثًا عن الحقيقة المطلقة في ذاته، فمن يكون؟ هل يستسلم لما يشعر به، أم يستسلم لضغوط المجتمع؟

راح العمل بين الحاضر والعودة إلى مراحل الحياة الماضية، فيجد الشاب نفسه أمام خيار الهجرة ومغادرة البلد إلى مكان آخر يستطيع أن يعيش فيه بسلام، فيدور حوار بينه وبين والدته، محاولًا إقناعها بالهجرة، ولكن والدته ترى أن السكاكين التي طعنته هنا، هي نفسها السكاكين التي سوف تطعنه هناك، إلا أنه يرى أن سكاكين الغرباء أقل وطأة من سكاكين الأقرباء.

ينتهي به الحال إلى الهجرة وحده، ليزف التهنئة لوالدته في شخصيته الأولى "أنا مت يا والدتي"، وفي شخصيته الثانية يقول لها: "أنا لم أمت، بل قتلني المجتمع".

تميز العمل بأداء مبهر من الفنانين وليد المغيزوي وإبراهيم المعشري، منتقلين بين أدوار الأب والأم والمعلم من خلال تغير الملابس والهيئات بأدوات ثياب معلقة على علاقات حديدية مثلت الديكور المسرحي البسيط الذي حملته لعبة الإضاءة إلى أبعاد وأزمنة عديدة، كما لعبت الموسيقى دورًا كبيرًا في إضفاء أجواء العمل بين الذكريات والصباحيات ولحظات الحماس، كما تميز العمل رغم جرأة القضية، وهي قضية "اضطراب الهوية الجندرية"، بالتوازن في الطرح والذوق العام دون مساس أو خدش حياة، إنما تم تناول العمل بطريقة تعكس معاناة أصحاب هذا الاضطراب بينهم وبين أنفسهم من جهة، وبينهم وبين مجتمعهم من جهة أخرى.

الجلسة التعقيبية

وقد أعقب العمل جلسة حوارية تحدثت فيها الدكتورة آمنة الربيع، ومخرج العمل الصلت السيابي، وأدار الجلسة الفنان أمجد الكلباني، وقالت الدكتورة آمنة الربيع: "التكوين المعقد للشخصية كان واضحًا في العمل، حيث تم التركيز على غرفة تبديل الملابس كرمزية لتعددية الشخصيات، النص أظهر صراعات داخلية بين الشخصيات، والتي كان من الممكن أن يتم تعزيزها من خلال مزيد من التدريب على الانتقال بين الأدوار، كما تم توظيف الإضاءة الخضراء بشكل جيد لإبراز الصراع النفسي، وكذلك العلاقة بين الأب والابن التي تعكس التناقضات في الحياة اليومية، وأداء الممثلين كان مميزًا، حيث كانت التنقلات بين الشخصيات موازية للصراع الداخلي، ورغم أن العرض كان جيدًا، إلا أن هناك إمكانية لتحسين الإخراج خاصة في ترتيب المشاهد وتوظيف الديكور والمرآة بشكل أفضل".

وفيما قال المخرج الصلت: "يفرحني الحضور الجماهيري المحب في بلادنا عمان لأن تجربتنا الجماهيرية هنا تعتبر واحدة من أبرز التجارب في الوطن العربي، وأتمنى أن تستمر على الرغم من أن العروض قد تكون في بعض الأحيان نخبوية أو تراجيدية، إلا أن المسرح يبقى مسرحًا، نحن في فرقتنا نحرص على أن يكون هناك شباك تذاكر، وأشعر بسعادة كبيرة لأنكم وثقتم بنا وأتيتم لمتابعة عروضنا، أريد أن أضيف أن الثقافة المسرحية في عمان قد تطورت بشكل ملحوظ، وهذا يجعلني متفائلًا جدًا. الشباب الذين يعملون في المسرح يبذلون جهدًا كبيرًا ويهتمون بأعمالهم. هذه الثقافة الجميلة تجعلني فخورًا بما تحقق من دعم وتشجيع للمسرح، حيث تبدأ الأمور تتطور تدريجيًا في تلبية احتياجات الجمهور".

وأضاف: "الشيء الآخر الذي يفرحني هو أن (أصبع روج) قد تم عرضها في عدة دول، بما في ذلك مصر وأوروبا، وفي كل مهرجان أو محفل نشارك فيه، يقولون لنا إن العرب اليوم يقدمون أعمالًا مسرحية هامة، وهذا شيء نفخر به، لأننا نعرض قضايا المجتمع بغض النظر عن كونها تميل إلى اليمين أو اليسار، حيث نفتح هذه القضايا للنقاش مع الجمهور، نحن هنا لا نخفي الحقائق، ونعرض الواقع".

وتابع: "أشكر الجمهور العماني الذي أثبت وعيه الكبير ورقيه، على عكس بعض المفاهيم السائدة عن الجمهور في بعض الأماكن التي قد تتصور أن جمهورنا غير واعٍ أو لا يريد متابعة قضايا جريئة، لكن هذا ليس صحيحًا. جمهورنا واعٍ ومثقف، وهذا أمر يدعوني للفخر، أكرر ما قلت، المسرح يجب أن يستمر في عمان، لأنه يغذي المجتمع فكريًا ويساهم في بناء ثقافة حقيقية. المسرح ليس فقط فنًا، بل هو أداة لبناء المجتمعات، وعلينا جميعًا أن نواصل دعم هذا الفن العظيم".

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: إلا أن

إقرأ أيضاً:

مسرحية الربابة تبهر الجمهور والنقاد على مسرح ساقية الصاوي

قدمت فرقة "جون محروس" مسرحية "الربابة" على خشبة مسرح قاعة الحكمة في ساقية الصاوي بالزمالك.

حب العمر .. رسالة رومانسية من الفنان وليد سعد لزوجتهنجل محمد الحلو: والدي بخير ويتابع تعليمات الأطباء |خاص

مسرحية "الربابة" التي تحولت إلى ظاهرة تجذب إقبالاً من الجمهور من مختلف الأعمار من الصغار والشباب والكبار، فوسط إقبال جماهيري ملحوظ نلاحظ أن المسرحية تزداد حباً وعشقاً لدى الجمهور، فأصبحت المسرحية تستعيد الجمهور الغائب، وصارت كفنارة يهتدي إليها الجمهور.

ووسط حضور جماهيري ضخم  تم عرض مسرحية "الربابة" تحت شعار كثير من الإبداع والتألق والتميز، فالكثير ينظر للمسرحية على أنها إحياء للتراث المسرحي الهادف الذي يخلو من الملل والبعد عن الإفهات المبتزلة.

فأكثر ما يميز المسرحية أنها أكثر من مجرد خشبة مسرح أو فتح ستار أو أداء تمثيلي .. فمسرحية «الربابة» هي إحياء للتراث المسرحي الهادف الباحث عن قضايا ومشاكل المجتمع، حيث أن المسرحية تتسم بالواقعية الجادة وبالجرأة على الصعيد الإجتماعي ..

فالمسرحية تحمل رسالة ورؤية جديدة عن الثأر والإنتقام خاصة في صعيد مصر .. الثأر في صعيد مصر يشكل خطورة على هذا المجتمع، وهو يعتبر السبب الأول الذي أدى إلى إنتشار الجرائم رغم كل الجهود والمحاولات التي بذلت لمواجهته.

الثأر هو القتل العمد من أجل الإنتقام، سواء من القاتل أو أسرته أو عائلته، لأنه تسبب في قتل أحد أفراد عائلة آخرى، وليس شرط أن يكون الضحية هو الجاني الأصلي.

إن الكاتب والمخرج "جون محروس" نجح في أن يطرح قضايا مهمة واقعية في بيئته صعيد مصر، ومن أهم هذه القضايا قضية الثأر، كما إتضح ذلك في نص وعرض مسرحية "الربابة" التي تناول فيها الكاتب قضية الثأر، وأشار إلى أن المرأة الصعيدية تلعب دور الحارس علي العادات والتقاليد وعلى رأسها عادة الثأر، فالمرأة تكاد توهب حياتها بالكامل للثأر لأب أو زوج أو أخ أو ابن قتل غدراً، وتتحدى لأي محاولة من أفراد أسرتها للتهرب من ميراث الدم.

والجدير بالذكر أن أكثر ما ميز العرض المسرحي «الربابة» عن سائر العروض المسرحية الأخرى .. هي أنها تخاطب الناس البسطاء المهمشين في قرى مصر وخاصة صعيد مصر الذين يحلمون بإنهاء تلك العادات والتقاليد الموروثة الخاطئة وعلى رأسها قضية الثأر (التار)، ولكنهم يترددون كثيراً قبل أن يتجرؤوا على تحقيق هذا الحلم مع أنه ليس ببعيد ...!!!

وكذلك أكثر ما ميز العرض المسرحي "الربابة" هي السينوغرافيا المعبرة والمتميزة .. فقد تميزت عناصر السينوغرافيا في مسرحية "الربابة" في التعبير عن العمل وأظهرت الصورة جيداً وناسبت الحالة الدرامية، فتنوعت السينوغرافيا وجمعت بين الحداثة والأصالة .. فقد تم إستخدام التقنيات المسرحية الحديثة والتكنولوجيا الرقمية (شاشة LED) والديكورات والإكسسوارات التقليدية المعتادة.

إن مصمم المناظر إستطاع من خلال التقنيات الحديثة والمميكنة، أن يمارس كل طاقاته بالإبداع الفني والمهاري، من خلال إستخدامه الواعي لخشبة المسرح الحديثة – التي تعمل على إقامة علاقة تفاعلية بين منطقتي الإرسال والتلقي، أو بين الممثل والجمهور .. مهما إختلف شكل وتصميم خشبة المسرح.

كما أن الإضاءة المعبرة جسدت حالة الحزن والغضب والخوف والإنتقام، وكذلك الموسيقى والغناء الشعبي والآلات الشعبية كالربابة والناي والدفوف لحالة العمل الفني الدرامية ..

وكذلك الصورة تميزت منذ اللحظة الأولى لتشيد بعمل جيد، وتنوعت الموتيفات الشعبية للبيت الريفي الصعيدي من خلال عناصر الديكور المختلفة والإكسسوارات والملابس ..

فظهرت الجدران البالية وكأنها حزينة منكسرة مثل أصحاب المكان، وناسبت الملابس المكان والحقبة الزمنية وأشخاص الرواية، لنجد الملس الصعيدي والجلباب الريفي والجبة والقفطان الأزهري وكذلك العباءة الصوفية، وإنتشرت على خشبة المسرح عناصر الديكور لتبرز البيت البسيط في قرية صغيرة بعيدة عن الحضر والعلم والنور، يسكنها الظلام والفقر والجهل ،، فنجد الأثاث دكة متهالكة وكرسي هشة وحطب وفرن وزير .. وغيرها من الموتيفات الشعبية الريفية.

مسرحية "الربابة" من بطولة كلاً من : رشا عطا الله، أحمد عبد الصبور، شيماء سيد، يوسف الشيخ، أحمد فرج، عادل مرزوق، أماني وديع، رجب السيد، حسام آمان، ياسمين الموجي، كيرلس نوار، أحمد سرحان، عبد الرحمن معروف، يوسف النحاس، مارجريت فارس.

ومساعد مخرج: محمد ذكي، ومخرج منفذ: سندباد سليمان، والمسرحية من دراماتورج وإخراج: جون محروس.

طباعة شارك مسرحية الربابة ساقية الصاوي مسرحيات

مقالات مشابهة

  • بمناسبة عيد العمال.. الحزاوي: «العمل الشريف هو أساس بناء المجتمع»
  • تاريخ يعيد نفسه… أوروبا تلبس ثوب “الرجل المريض” الذي خاطته للعثمانيين
  • أحمد حلمي يعتذر عن واقعة الملحن مصطفى جاد خلال عرض مسرحية “بني آدم”
  • مسرحية الربابة تبهر الجمهور والنقاد على مسرح ساقية الصاوي
  • صندوق مكافحة الإدمان يدرّب 3100 متعافٍ على حرف مهنية لإعادة دمجهم في سوق العمل
  • الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة
  • المجد للبندقية التي حرست المواطن ليعود الى بيته الذي كانت قحت تبرر للجنجويد احتلاله
  • الحد اليومي للجلوس الذي يُنذر بآلام الرقبة ..! 
  • تحولات اجتماعية عميقة في المجتمع المغربي.. ارتفاع نسب الأسر التي تعيلها النساء وتزايد الشيخوخة
  • الماضي الذي يأسرنا والبحار التي فرقتنا تجربة مُزنة المسافر السينمائية