نظريات التضليل الجماهيري وآليات تشكيل الرأي العام المزيف
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
د. ياسين الحاج علي
تشهد الساحة الإعلامية منذ بدء الحرب فيي السودان، وربما قبلها، حملات مُمنهجة تستهدف تشويه الحقائق وتضليل الرأي العام، حيث تعمل فلول النظام السابق على استخدام منصات التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام المختلفة لنشر معلومات مضللة ومفبركة. وتستند هذه الحملات إلى إمكانيات مادية وبشرية ضخمة، يتم توظيفها لإنتاج محتوى زائف ونشره على نطاق واسع عبر مختلف القنوات الإعلامية ومواقع التواصل الاجتماعي.
تتناول هذه المقالة بالتحليل نظريات التضليل الجماهيري، والأدوات المستخدمة في هذه العمليات، بالإضافة إلى الآليات التي يتم من خلالها تشكيل رأي عام مزيف.
لقد أصبح التضليل الإعلامي أداة فاعلة في تشكيل الوعي العام، حيث يعتمد على استخدام وسائل الإعلام التقليدية والحديثة، إلى جانب استغلال البيانات المغلوطة وتوظيف تقنيات متقدمة في علم النفس الاجتماعي، بهدف توجيه تصورات الجماهير وسلوكياتهم لخدمة أجندات محددة.
ومن الواضح انهم قد نجحوا في هذا المسعى، بدليل ان العديد من المواطنين، بعضهم من الطبقة المستنيرة، يصدقون، بل ويساعدون في نشر هذه الأكاذيب والمعلومات المغلوطة.
ما هو التضليل الجماهيري؟
التضليل الجماهيري هو عملية استخدام معلومات مضللة أو مبالغ فيها، أو حتى مزيفة بشكل متعمد لخداع الجمهور وتوجيه أفكاره نحو قناعات محددة. يتم ذلك من خلال اختيار انتقائي للمعلومات، تكرار الرسائل، والتلاعب بالصور والمحتوى المرئي والمسموع.
النظريات الرئيسية للتضليل الجماهيري
تستند ممارسات التضليل الجماهيري إلى مجموعة من النظريات النفسية والاجتماعية، التي يتم من خلالها التلاعب بوعي الجماهير وتوجيههم نحو تبني أفكار أو مواقف معينة. من أبرز هذه النظريات:
1. نظرية البروباغندا (Propaganda Theory) :
تركز هذه النظرية على الاستخدام المنهجي والمقصود لوسائل الإعلام لنشر رسائل محددة تهدف إلى توجيه تصورات الجمهور. تعتمد البروباغندا على تكرار المعلومات وعرضها بشكل انتقائي لتعزيز أفكار أو قيم معينة، مع إخفاء أو تشويه الحقائق التي لا تخدم الأجندة المطلوبة. بمرور الوقت، يؤدي التكرار إلى ترسيخ هذه الأفكار في أذهان الجمهور، مما يجعلها تبدو وكأنها حقائق مسلم بها.
2. نظرية الأجندة (Agenda-Setting Theory) :
تفترض هذه النظرية أن وسائل الإعلام لا تقرر فقط ما يفكر فيه الجمهور، بل تحدد أيضًا الأولويات التي يجب أن يركز عليها. من خلال تسليط الضوء على قضايا معينة وتجاهل أخرى، تستطيع وسائل الإعلام تشكيل تصور الجمهور حول ما هو مهم أو غير مهم. بمعنى آخر، الإعلام لا يساعد الناس كيف يفكرون، بل يحدد لهم في ماذا يفكرون.
3. نظرية النوافذ الأوفرتون: (Overton Window Theory)
تشرح هذه النظرية كيف يمكن تغيير قبول المجتمع لفكرة معينة عبر مراحل تدريجية. تبدأ الفكرة في البداية كشيء غير مقبول أو متطرف، ثم يتم تقديمها بشكل تدريجي حتى تصبح مقبولة أو حتى طبيعية مع مرور الوقت. يتم ذلك من خلال الترويج للفكرة باستخدام وسائل الإعلام والنخب المؤثرة، مما يؤدي إلى توسيع "نافذة القبول" لدى المجتمع.
4. نظرية الفجوة المعرفية (Knowledge Gap Theory):
تركز هذه النظرية على وجود فجوة معرفية بين أفراد المجتمع، حيث يمتلك بعضهم معلومات أكثر من الآخرين. يستغل ممارسو التضليل هذه الفجوة من خلال استهداف الأفراد الأقل معرفة أو تعليمًا، مما يجعلهم أكثر عرضة لتصديق المعلومات المضللة أو الخاطئة. بمرور الوقت، تزداد هذه الفجوة، مما يعمق التباين في فهم الحقائق بين الجماعات المختلفة.
5. نظرية التأطير: (Framing Theory)
تشير هذه النظرية إلى كيفية عرض المعلومات أو إعادة صياغتها لتوجيه تفسير الجمهور لها. على سبيل المثال، يمكن تصوير حدث سياسي معين على أنه "ضرورة أمنية" بدلًا من كونه انتهاكًا للحقوق، أو وصف إجراء اقتصادي على أنه "إنقاذ للاقتصاد" بدلًا من كونه إفقارًا للطبقة المتوسطة. يعتمد التأطير على اختيار الكلمات والصور والسياقات التي تؤثر على الطريقة التي يفهم بها الجمهور الحدث أو القضية.
باختصار، هذه النظريات توضح كيف يمكن للتضليل الجماهيري أن يكون أداة قوية في تشكيل الرأي العام، حيث يتم استخدام وسائل الإعلام وقنوات التواصل الحديثة والتقنيات النفسية والاجتماعية للتأثير على تصورات الجماهير وتوجيهها نحو أهداف محددة.
الأسس النفسية للتضليل الجماهيري
تعتمد عمليات التضليل الجماهيري على فهم عميق للعمليات النفسية والعقلية التي تؤثر على السلوك البشري، ومن أبرزها:
• التحيز التأكيدي (Confirmation Bias): ميل الأشخاص لتصديق المعلومات التي تدعم معتقداتهم السابقة.
• تأثير التكرار (Illusory Truth Effect): تكرار المعلومة عدة مرات يجعلها تبدو صحيحة حتى لو كانت زائفة.
• الضغط الاجتماعي (Social Conformity): يميل الأفراد إلى الانسياق خلف الجماعة لتجنب المواجهة او العزلة.
• التأثير العاطفي (Emotional Manipulation): اللعب على مشاعر الخوف أو الغضب أو الأمل لتعزيز التصديق دون تمحيص نقدي.
أساليب وتقنيات التضليل الجماهيري وبناء رأي عام زائف
يعتمد التضليل الجماهيري على مجموعة من التقنيات والاستراتيجيات ويتم ذلك من خلال التلاعب بالمعلومات وإعادة صياغة الواقع بطرق تخدم مصالح محددة. فيما يلي أبرز الأساليب المستخدمة:
1. الفبركة الرقمية: تعديل الصور والفيديوهات باستخدام برامج متطورة مثل الفوتوشوب أو الذكاء الاصطناعي لإيهام الجمهور بأحداث لم تحدث.
2. التلاعب بالسياق: نشر معلومات حقيقية ولكن بإخراجها من سياقها الأصلي لخداع الجمهور وإيصال رسائل مغلوطة.
3. إغراق المعلومات: نشر كميات هائلة من الأخبار الحقيقية والمزيفة معًا لخلق ارتباك وتشويش لدى الجمهور، مما يجعل من الصعب التمييز بين الحقيقة والخيال.
4. إثارة الانقسام: استخدام التلاعب بالانتماءات الدينية أو السياسية أو العرقية لتفكيك المجتمع وتحفيز الصراعات.
5. تحديد الجمهور المستهدف: توجيه المعلومات إلى فئات معينة أكثر عرضة للتأثر بالرسائل المزيفة، سواء بسبب قناعاتهم السابقة أو ضعف الوعي الإعلامي لديهم.
6. استغلال المؤثرين: توظيف شخصيات نشطة في وسائل التواصل الاجتماعي ولديها عدد من المتابعين لنشر الرسائل المضللة، مما يزيد من قوة تأثيرها وانتشارها.
7. استغلال العاطفة الدينية: يعد الدين من أقوى الأدوات المستخدمة في التضليل الجماهيري، حيث يتم تقديم معلومات مغلوطة أو ملفقة ضمن إطار ديني، مما يجعل المتلقين أكثر ميلًا لتصديقها دون التشكيك فيها، نظرًا لارتباطها بالقيم والمعتقدات الدينية.
8. التكرار والانتشار المستمر: تكرار المعلومات نفسها عبر منصات إعلامية متعددة لإضفاء مصداقية زائفة عليها، مما يجعل الجمهور أكثر تقبلًا لها بمرور الوقت.
9. التلاعب البصري والسمعي: استخدام الصور والفيديوهات المعدلة أو المنتجة بشكل احتيالي لإضفاء مصداقية وهمية على المعلومات، مما يجعلها أكثر إقناعًا وتأثيرًا.
دور خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي في تضليل الجماهير
تلعب خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي دورًا رئيسيًا في نشر المعلومات، سواء كانت صحيحة أو مضللة، حيث تعمل على ترتيب المحتوى وتحديد ما يصل إلى المستخدمين بناءً على مدى تفاعلهم مع المنشورات. فهم آلية عمل هذه الخوارزميات يساعد في إدراك كيف يمكن استغلالها لنشر التضليل الجماهيري وبناء رأي عام زائف.
كيف تعمل خوارزميات وسائل التواصل الاجتماعي؟
تُصمم خوارزميات المنصات الرقمية مثل فيسبوك، تويتر، إنستغرام، ويوتيوب لتعظيم تفاعل المستخدمين مع المحتوى، وذلك من خلال:
1. الاعتماد على التفاعل (Engagement-Based Ranking):
o المنشورات التي تحظى بعدد أكبر من الإعجابات (Likes)، التعليقات (Comments)، والمشاركات (Shares) يتم تصعيدها لتصل إلى جمهور أوسع.
o كلما زاد التفاعل مع المحتوى، زاد انتشاره ضمن دوائر المستخدمين الآخرين، حتى لو كان غير دقيق أو مضللًا.
2. التوصية بالمحتوى المشابه (Content Recommendation):
o تعرض الخوارزميات للمستخدمين المحتوى المشابه لما تفاعلوا معه سابقًا، مما يخلق ما يُعرف بـ فقاعة المعلومات (Filter Bubble)، حيث يتم تعزيز القناعات الحالية وتقليل فرص التعرض لوجهات نظر بديلة.
o على سبيل المثال، إذا تفاعل المستخدم مع منشورات سياسية أو دينية معينة، سيتم اقتراح المزيد من المنشورات التي تدعم نفس التوجه، مما قد يحدّ من التفكير النقدي ويعزز المعلومات المضللة.
3. التفضيل للمحتوى العاطفي والمثير للجدل:
o تُظهر الدراسات أن المحتوى الذي يثير المشاعر القوية مثل الغضب أو الخوف أو الدهشة ينتشر أسرع من المحتوى المحايد.
o الخوارزميات تُفضل المنشورات التي تثير ردود فعل عاطفية، مما يجعل المعلومات الزائفة أو العناوين المبالغ فيها أكثر انتشارًا.
4. التضخيم من خلال إعادة النشر (Reposting and Virality Loops):
o عندما يتم إعادة مشاركة منشور بشكل متكرر، تزداد قيمته في التصنيف الخوارزمي، مما يجعله أكثر ظهورًا في صفحات المستخدمين الآخرين.
o الحسابات الآلية (Bots) والمجموعات المدفوعة تستغل هذا النظام لنشر المعلومات المضللة وجعلها تبدو موثوقة بسبب انتشارها الواسع.
5. الأولوية للمحتوى المدفوع (Paid Content and Ads):
o الشركات والأفراد يمكنهم الدفع للترويج لمنشوراتهم، مما يجعل المحتوى المُضلل المدفوع يصل إلى جمهور أكبر.
o بعض الجهات تستخدم الإعلانات المدفوعة لنشر الدعاية والتأثير على الرأي العام في الحملات الانتخابية أو أثناء الأزمات السياسية.
كيف تسهم الخوارزميات في نشر المعلومات المضللة؟
• التكرار يعزز المصداقية: المنشورات التي يتم مشاهدتها بشكل متكرر تبدو أكثر موثوقية للمستخدمين، حتى لو كانت غير صحيحة.
• خلق الفقاعات المعلوماتية: المستخدمون يرون فقط المحتوى الذي يتماشى مع آرائهم، مما يقلل من القدرة على التعرض لمعلومات محايدة أو مصححة.
• سهولة الانتشار السريع: أي محتوى مثير أو صادم يمكن أن يصل لملايين المستخدمين في غضون ساعات بسبب إعادة التفاعل وإعادة النشر المستمر.
أمثلة عملية على التضليل الجماهيري
• الأزمات السياسية والحروب: تم توظيف التضليل الإعلامي في السودان لنشر شائعات حول تورط القوى المدنية في تأجيج الصراع.
• الأوبئة: انتشار معلومات زائفة عن علاجات غير مثبتة أثناء جائحة كورونا.
• الانتخابات: ترويج ادعاءات كاذبة حول فساد مرشحين سياسيين لتقويض مصداقيتهم.
طرق مواجهة التضليل الجماهيري
يمكن التصدي للتضليل الجماهيري عبر:
• التعليم والتوعية: تعزيز مهارات التفكير النقدي والوعي الإعلامي.
• التحقق من مصادر الأخبار: قبل التفاعل معها أو إعادة نشرها.
• التنويع في مصادر المعلومات: لتجنب البقاء داخل "فقاعة المعلومات".
• التحقق التقني: استخدام أدوات الكشف عن الأخبار الكاذبة.
• الاعتماد على الإعلام المستقل: دعم المؤسسات الإعلامية المستقلة لمقاومة التضليل.
أدوات وتقنيات التحقق من التضليل الجماهيري
لمواجهة التضليل الإعلامي، تتوفر العديد من الأدوات والمنهجيات التي تساعد في كشف الأخبار المزيفة والتزييف العميق (Deepfake):
• التحليل العكسي للصور والفيديوهات.
• تحليل البيانات الوصفية (Metadata).
• الذكاء الاصطناعي للتعرف على أنماط التزييف العميق
• التقنيات المستخدمة:
o أدوات كشف الأخبار النصية: Snopes، FactCheck.org، ClaimReview
o أدوات كشف الصور: TinEye، Google Reverse Image Search، FotoForensics.
o أدوات كشف الفيديوهات والتزييف العميق: InVID & WeVerify، Deepware Scanner، TruePic.
الخاتمة
التضليل الجماهيري هو تهديد خطير يتطلب يقظة مجتمعية وتقنيات متقدمة لكشفه والحد من تأثيره. من خلال الجمع بين الوعي الإعلامي، الأدوات التقنية، ودعم الإعلام المستقل، يمكن الحد من تأثير هذه الظاهرة السلبية وبناء مجتمعات واعية قادرة على التمييز بين الحقيقة والادعاءات الكاذبة.
////////////////////////////
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: وسائل التواصل الاجتماعی المعلومات المضللة المنشورات التی وسائل الإعلام الرأی العام هذه النظریة مما یجعل من خلال
إقرأ أيضاً:
مسؤولية التعبير عن الرأي
تُعد حرية التعبير عن الرأي أحد مرتكزات المجتمع الحديث، والمنفتح، الذي يؤمن بالإنسان وبحقوقه وقدرته على بناء وطنه، وإمكانات مشاركته في التنمية من خلال إبداء الرأي والتعبير عن احتياجاته وتطلعاته، ولهذا فقد حرصت الدول على إثبات هذا الحق عبر قوانينها وتشريعاتها وسياساتها التي تؤكد حق المواطنين في التعبير عن الرأي وحريتهم في ذلك.
ولقد أكَّدت المواثيق الدولية على حق الشعوب في حرية التعبير عن الرأي بوصفه حقًا أساسيًا للفرد والجماعة، ووضعت في ذلك معايير واضحة لممارسته وضمانات تعتبرها أساسًا لتكوين شخصية الأفراد اجتماعيًا وسياسيًا، ولأن هذه الحُرية تُعد من القضايا الشائكة، والمُلبِسة، التي يمكن أن تشكِّل تحديًّا وطنيًّا قد يتسَّبب في المساس بالنظام العام أو الأمن الوطني، إذا لم يُفهم باعتباره حقا تنمويا يهدف إلى البناء والتطوير، لا إلى الهدم والتفريق والشقاق، ولهذا فإن المواثيق الدولية عندما نصَّت على هذا الحق، لم تجعله مطلقا دون قيود، فكما حدَّدت ضمانات ممارسته نصَّت أيضا على ضوابط تلك الممارسة.
فالإعلان العالمي لحقوق الإنسان منذ صدوره في عام 1948، نصَّ في المادة (29) على أن ممارسة الأفراد لحقوقهم وحرياتهم تخضع لـ(القانون)، وقد نصت المادة حصرا على (ضمان الاعتراف الواجب بحقوق الآخرين واحترامها، والوفاء العادل من مقتضيات الفضيلة والنظام العام ورفاه الجميع...)، كما نص العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، الصادر عن الأمم المتحدة في عام 1966، في البند (3) من المادة (19)، الخاصة بالحق في حرية التعبير أنه (تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محدَّدة بنص القانون وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم، ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة).
فمثل هذه المواثيق الدولية وغيرها، المتخصصة في حماية حقوق الإنسان عامة، وحق التعبير عن الرأي بشكل خاص، لم تجعل ممارسته مطلقة بشكل يضرُّ بالدول وأمنها واستقرارها أو يسيء للأفراد والجماعات ولأعراف المجتمع ودينه وأخلاقه، وحتى صحته، بل فرضت قيودًا وضوابط من شأنها حماية المجتمع ومكتسباته، وقدرته على تنشئة أفراد يتمتعون بحقوقهم ويمارسونها بالطرائق المناسبة التي تنعكس على تنمية مجتمعاتهم واستقرارها ورفاهها، ولذلك فإنه لا توجد حُرية مطلقة دونما نظام يؤصِّلها ويحدِّد نطاقها.
إن حُرية التعبير عن الرأي تتَّخذ مجالات واسعة خاصة في ظل التطورات التكنولوجية التي أصبحت فضاءً لممارسة تلك الحُرية، حيث ظن ضعاف النفوس أنها حُرية مطلقة يمكنهم من خلالها دس السموم في قلوب المجتمعات المطمئنة، والتغرير بالشباب والناشئة نحو التحريض والإساءة بل دفع أولئك إلى محاولات زعزعة الأمن والاستقرار في المجتمع الواحد، الأمر الذي جعل دول العالم تعمل على إقرار العديد من التشريعات واتخاذ الكثير من السياسات والإجراءات، الهادفة إلى حماية النظام العام وآداب المجتمع وأخلاقياته، التي لا يمكن المساس بها تحت شعار حرية التعبير عن الرأي؛ فمفهوم هذه الحُرية يضمن عدم المساس بأنظمة الدول وأمنها الوطني، كما يؤكد على مبدأ احترام الآخر، وعدم الإساءة للأفراد والجماعات.
ذلك لأن المؤمن بحقه في التعبير عن رأيه، عليه أن يعبِّر عن ذلك الحق بموضوعية ولا يمسّ بأمن وطنه الذي منحه هذا الحق؛ فهو وإن كان حقًا أصيلًا إلَّا أن تمكينه وتأصيله ودعمه لا يكون سوى من الدول المؤمنة به باعتباره أصلا تنمويا يجب المحافظة عليه، فكما للمواطن حقوق عليه أيضا واجبات تؤطرها القوانين والتشريعات، وكما نطالب بحقوقنا علينا أن نحافظ على حقوق الآخر سواء أكان مؤسسات أو أفرادًا أو جماعات.
ولأن عُمان من الدول التي أصَّلت هذا الحق وأكَّدت عليه في نظامها الأساسي، الذي يُقِرُّ صراحة في المادة (35) أن (حُرية الرأي والتعبير عنه بالقول والكتابة وسائر وسائل التعبير مكفولة في حدود القانون)؛ فهذه الحُرية ليست مطلقة بل إنها مؤطَّرة (في حدود القانون)؛ أي ضمن ضوابط ومعايير تحددها قوانين الدولة، التي تسعى إلى حماية المجتمع وأفراده من المساس بحقوقهم تحت شعار حرية التعبير عن الرأي، ذلك لأن هذه الحُرية إذا ما كانت مطلقة فإنها ستمثِّل تهديدًا للمجتمع وأمنه واستقراره.
إن المتابع للإعلام العُماني بوسائله المختلفة حتى الإلكتروني منها، وما يتم تداوله ونشره في وسائل التواصل الاجتماعي، يعرف مستوى حُرية التعبير عن الرأي وحُرية الإعلام في النشر والتداول وتبادل الآراء والمقترحات، بل وحتى الشكاوى والملاحظات وغيرها، وهي حُرية قد لا نجدها في وسائل إعلامية عالمية، بل حتى في دول تصف نفسها بالديمقراطية، فعُمان تؤمن بما تدعو إلى هذه الحُرية المسؤولة، وتشجِّع المجتمع على ممارسة حقِّه في التعبير الموضوعي عن رأيه؛ ذلك الرأي الذي يسهم في البناء والتنمية والتطوير وتصحيح المسارات.
ولأن مواقف عُمان تتسم بالشفافية فإنها حكومة وشعبا تتصف بالمصداقية والقدرة على التصريح الصادق بالرأي والمواقف الواضحة إزاء القضايا المحلية والدولية؛ فتطورات القضية الفلسطينية جعلت الحُريات الإعلامية في العالم وحُرية التعبير عن الرأي في اختبار صعب، كشَف الكثير من الأنظمة الإعلامية والسياسية في العالم، الأمر الذي جعل من مواقف عُمان ترسيخًا لتلك المبادئ الإنسانية التي لا تحيد عنها الداعية إلى السلام والحوار بديلا عن العنف والإبادة والإساءة للشعب الفلسطيني ولكرامته، بل ولشعوب العالم كلها؛ تعبِّر عن رأيها ومواقفها بما تقرُّه تشريعاتها وسياساتها ومبادئها.
فإيمان عُمان بحُرية التعبير عن الرأي وتمكينها للإعلام ولأفراد المجتمع لممارسة هذا الحق، مكَّنها من ترسيخ فكر الحُرية المسؤولة النابعة من قيم المجتمع واحترام أعرافه وأخلاقياته، وتقدير رموز الدولة ومؤسساتها، ومكتسباتها، واحترام الآخر، بل وحماية النظام العام والأمن الوطني، وفي كل موقف شاذ عن ذلك يُلاحظ ردود أفعال الشعب العُماني الغيور على وطنه، الذي يقف ضد كل من تسوِّل له نفسه المساس به وبأمنه وباستقراره، لنجده يطالب بتحقيق العدالة وتطبيق القانون على الخارجين عليه، الذين يندسون بين الجموع، من أجل سلبهم حقهم المشروع في التعبير عن رأيهم المسؤول الذي كفله لهم القانون.
إن وعي المجتمع العُماني بأهمية التعبير عن الرأي، وفهمه العميق بمتطلبات هذا الحق، وحدود الحُرية في ممارسته، تلك الحُرية التي لا تسيء للآخر ولا تضر بالدولة، ولا تحرِّض على الشِقاق والفرقة. إن هذا المفهوم الذي يُدركه المجتمع يقدِّم نفسه باعتباره مبدأ أساسيا في المواقف العديدة، ولعل ما حدث مؤخرا في الوقفة السلمية التضامنية مع فلسطين واحد من الشواهد المهمة التي تؤكد هذا الوعي والفهم الذي يتميَّز به المجتمع العُماني عمومًا والشباب بشكل خاص.
فمواقف الدولة ومبادئها، ودعمها المباشر للقضايا الإنسانية في فلسطين وغيرها من الدول، ودورها الفاعل في تحقيق السلام والحوار في المنطقة من ناحية، وسن القوانين والتشريعات وفرض العقوبات على كل من يحاول الإخلال بالنظام والإساءة إلى أفراد المجتمع من ناحية أخرى، قد أسهم في تحقيق فهم المجتمع لمبادئ حُرية التعبير عن الرأي وأخرس كل ما تسوِّل له نفسه التعدِّي على حقوق المجتمع أفرادًا وجماعات.
إن المجتمع العُماني واعٍ ومنفتح وقادر على التمييز بين الحق والباطل، ويعرف يقينًا أنه لا توجد في العالم حُرية مطلقة تسيء للمجتمع وأفراده، بل هناك حُرية مسؤولة نابعة من المواطنة الإيجابية الراسخة في المجتمع العُماني، والتي تُظهر العُماني في المواقف والشدائد واثقا من مجتمعه وحكومته، فكُلنا يد واحدة تبني عُمان وتؤصل مبادئها الداعية إلى السلام والخير.
عائشة الدرمكية باحثة متخصصة فـي مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة