أثير – الشاعر والإعلامي العربي زاهي وهبي

أصعب سؤال يواجه الكاتب، أي كاتب، هو ما الذي يضيفه إلى ما كتبه السابقون؟. فالكتابة، أي كتابة، لا معنى لها إن لم تضف جديداً ما، سواء أكان ذلك على صعيد المعنى أو المبنى. عدم الإضافة يغدو نوعاً من التكرار والتقليد. حين يكون الإرثُ عظيماً ينوء الوارث بثقل ما يرث، وبعض الورثة لا يدرك أحياناً قيمة ما ورِثَ، ويبدده في فترة وجيزة.

هذه الحالة تصحّ في الميراث المادي مثلما تصحّ في الميراث المعنوي. الثروة ليست فقط مالاً ومصاغاً ومساحات من الأرض أو البناء، الثروة علم ومعرفة وإبداع وثقافة وسواها من عناوين تتباهى بها الأمم وتفاخر. فَتُطلِق على الشوارع والميادين والساحات أسماء مبدعيها من أدباء ومفكرين وفنانين.

الكاتب مُمتحَن كلما أمسك بالقلم والورقة (أو بأي لوح ذكي). كل جملة يخطها واقعه حكماً تحت عبء ما كُتَب قبلها في الموضوع ذاته. هاجس الإضافة والتجديد هو هاجس كل كاتب حقيقي يحاول أن ينأى بنفسه عن التكرار والتقليد. فالكاتب الجاد لا ينظر للكتابة بوصفها مهنة أو صنعة، بل هي لديه أبعد وأعمق من ذلك بكثير، هي محاولة سبر أغوار الوجود، وتفسير العالم، والنظر إلى ما وراء الظاهر. معظم الابتكارات العلمية بدأت أفكاراً مجنونة في أخيلة الأدباء، خصوصاً أولئك الذي كتبوا ما يُسمّى أدب الخيال العلمي. الذي كنا نقرأه أطفالاً وفتياناً في كتب الخيال العلمي بوصفه ضرباً من المستحيل صار بين أيدينا وجزءاً من حياتنا اليومية!.

الشِّعر ديوان العرب، والمعلقات جزء من ماضينا التليد. وقصائد الأسلاف عابرة للزمن. لذا قد يكون الشعراء هم أكثر مَن يرزح تحب عبء أسلافهم، لا لِعيب في الأسلاف وفي ما تركوا، بل لِعظَمة ما تركوا. الشِّعر العربي ميراث نفيس فيه من الكنوز الإبداعية ما لا يُقدَّر بثمن، سطوة هذا الشِّعر العظيمة جعلت كل محاولة للخروج من تحت عباءته محكومة بالفشل أو بالاتهام. الذين قلّدوا الأسلاف حكموا على أنفسهم بالفشل المسبق، المقلِّد مهما أوتي من براعة لن يبلغ مرتبة المقلَّد. الذين غامروا وجازفوا بالبحث عن أشكال جديدة للكتابة الشعرية نالهم من الاتهام ما بلغ حدَّ  التخوين وشُبهة تخريب لغة الضاد، وهي كما تعلمون لغة الوحي والقرآن الكريم.

لو كان ميراثنا من الشِّعر عادياً أو رديئاً لَسَهُلَ علينا الخروج عليه وتجاوزه، لكنه على هذا القدر من الرفعة والسمو، من الإمتاع والمؤانسة، من السحر والغواية. والى هذا الحد نابع من صميم الحياة اليومية لأسلافنا ومعبِّر عنها، مُسطّر بطولاتهم وفروسيتهم ومعاركهم ووقائع عيشهم وقصص عشقهم. ولأنه ديوانهم كما أسلفنا، كان وما يزال من الصعب البناء فوقه لأنه عمارة شاهقة ينبغي لكل مَن يرغب بإلإضافة إليها الإرتقاء أولاً الى مستواها، وهذا ما لا تقوى عليه إلا قلّة قليلة ونادرة. وكذلك الحال لمن يريد الفكاك منها ومن قواعدها وبحورها وأوزانها، عليه بناء عمارة جديدة لا تقل متانة ورسوخاً وارتفاعاً عن العمارة التقليدية. ولأن شِعرنا العربي العظيم راسخٌ رسوخ الجذر في تربته، وملتصق بذاكرة أهله التصاق اللحم بالعظم، كان الشِّعر الحر أو ما عُرِف بقصيدة النثر أمام تحدٍّ هائل وبالغ الصعوبة، ما جعله يواجه حتى اليوم، وبعد مضي أكثر من ستة عقود على بداياته، تهمة المروق والعقوق، ويتم التعامل معه من قِبل كثيرين بوصفه لقيطاً لا حق شرعياً له في الميراث.

لعل سائل يقول ما هذه العمارة الشاهقة التي انصرف عنها معظم بنيها. بل أن كثيرين من بني العرب يرطن بلغات الكون ويتلعثم حين يأتي دور لغته الأمّ. ردنا عليه، لا يغرنَّك ما تعيشه لغة الضاد الآن من يُتمٍ على يد أبنائها، ولا ما يصيب الشِّعر من شحوب واصفرار. هذه حقبة انحطاط لا بد زائلة. ولا تنفي أبداً عَظَمة ما قاله الأسلاف خصوصاً على المستوى الشعريِّ. وهذه العظَمة تجعل مهمة الكتابة الشعرية أكثر صعوبةً ولكن أكثر إمتاعاً. ماذا نكتب؟ وهل ترك لنا أجدادنا الشعراء ما نكتبه؟.

قبل محاولة الإجابة على السؤال لا بد من التذكير بأن أهم ما في الكتابة هو أن تكون صادقة، ونابعة من صميم كاتبها. فلا تكون استنساخاً أو مجاراة لموضة (أو ترند بتعابير اليوم). الكتابة تكون أعمق وأجمل حين نكون أنفسنا ونكتب ذواتنا. فكلما اقترب الكاتب من ذاته اقترب من ذات الآخر. جميعنا تقريباً نفرح للأمور ذاتها ولها نحزن، لذا كلما كان الشاعر صادقاً مع نفسه كلما أمسى لسان حال كثيرين، ولئن قالت العرب قديماً أعذب الشِّعر أكذبه. فمن باب الغلو والمبالغة، قد يحق للشِّعر أن يكذب كذباً أبيض لمضاعفة الجمال والسحر والغواية، لكن ثمة فارقاً كبيراً بين أن يكذب الشِّعر وأن يكذب الشاعر(!)، كذب الشِّعر محمود أما كذب الشعراء فمذموم.

قولُ الذات والصدق معها والاقتراب منها لا يعني الانغلاق على هذه الذات، ولا إغلاق الأبواب في وجه الآخر وعدم الانفتاح عليه. على العكس تماماً، التلاقح بين الثقافات والأفكار والآراء ضروري وملحّ ومطلوب، خصوصاً في عالم اليوم المشرع أبوابه على مصاريعها، شريطة أن يكون هذا الانفتاح وفق مقولة غاندي “يجب أن أفتح نوافذ بيتى لكى تهبّ عليه رياح كل الثقافات بشرط ألّا تقتلعني من جذوري”.
إذا لم يكن لدى الكاتب إيمان بأن ما يكتبه يحمل إضافةً ما أو جديداً ما، لا ضرورة لأن يكتب. فكلُّ كاتب على ثقة بينه وبين نفسه بأن لديه جديداً ما يقوله أو يضيفه، لولا هذا الاعتقاد لما كتبَ أحدٌ حرفاً. الثقة ضرورية للكاتب، لكن مسألة التجديد والإضافة من عدمهما متروكة للزمن الكفيل بالغربلة. مَن يعرف حقاً كم شاعراً كان زمنَ المتنبي ونظرائه؟ البقاء للأشعر. هذا ما تُعلِّمنا إياه الأيام، وتقوله لنا قصائد العظماء التي ما تزال أصواتهم في مسامعنا حتى الآن.

لم يترك الأسلاف باباً لم يطرقوه ولا موضوعاً لم يتناولوه. كتبوا الحياة والموت وما بينهما. لذا علينا أن نبتكر مقاربات جديدة لشؤون الحياة وشجونها، وأن نكتب الموضوعات التي لم تكن مطروحة في زمن أسلافنا، أو أن نعيد كتابة ما كتبوه ولكن بطرائقنا الخاصة وأساليبنا المعاصرة، وكلما كان النصّ نابعاً من الذات بصدق وشفافية حمل في داخله بذرة بقائه واستمراره عبر الزمن، وما نكتبه اليوم بصدق وشفافية يكون غداً مرجعاً لمن سوف يأتي بعدنا، مثلما هي نصوص الأسلاف مرجعنا حين نود معرفة كيف عاشوا وماذا فعلوا.
الإرث العظيم يجعل العبء أكبر، لكنه يجعل التحدي أجمل.

المصدر: صحيفة أثير

إقرأ أيضاً:

شاهد بالفيديو.. بعد أن ظهر معها في بث مباشر.. الكوميديان “جلواك” ينتقد “لوشي” بسبب “شوكلاتة” الدعامة ويصفها بــ(اللطخة) والحسناء ترد عليه بوصلة ضحك: (أديك الزيت يا حلو يا جميل)

أطل الكوميديان السوداني المعروف محمد عبد المنعم “جلواك”, والإعلامية ونجمة السوشيال ميديا الشهيرة آلاء المبارك, على الجمهور في بث مباشر عبر إحدى منصات مواقع التواصل الاجتماعي.

وبحسب ما شاهد محرر موقع النيلين, فقد دار نقاش بين الثنائي حول حديث الحسناء آلاء المبارك “لوشي” الشهير عن قصتها مع أفراد من الدعم السريع قاموا بإهدائها قطع من “الشوكلاتة”.

وانتقد “جلواك”, بطريقة كوميدية صديقته وزميلته بقناة سودانية 24 “لوشي” معتبراً حديثها وسردها للقصة بكل تفاصيلها فيها نوع من العفوية.

ووصف الكوميديان في إطار المزاج الحسناء “لوشي” بــ(اللطخة) كما سخر من سؤالها للجمهور (دا حلال ولا حرام), لترد عليه آلاء المبارك ضاحكة: (يلا أديك الزيت يا حلو يا جميل أنا ما قلت حلال ولا حرام).

محمد عثمان _ الخرطوم

النيلين

إنضم لقناة النيلين على واتساب

مقالات مشابهة

  • وهبي يقدم مشروع المسطرة المدنية أمام المستشارين ومحامون يرفضون “الردة التشريعية”
  • بمشاركة 60 شركة… افتتاح المعرض العربي للبناء “أرابيكس” بحلب
  • عادل حمودة يكتب: متى يعترف الكاتب بالشيخوخة؟
  • عادل حمودة يكتب: متي يتصور الكاتب الشيخوخة وكيف يتعايش معها؟
  • بقصائد تلامس شغاف القلوب “ملتقى نيجيريا” ينبض بالشعر العربي
  • “الشؤون الإسلامية” تنظم ندوة “قيم الاستدامة في الإرث النبوي”
  • آدم “سوداكال”: سنواصل قتال هذه المليشيا في كل البقاع حتى يكتب النصر لشعبنا
  • شاهد بالفيديو.. بعد أن ظهر معها في بث مباشر.. الكوميديان “جلواك” ينتقد “لوشي” بسبب “شوكلاتة” الدعامة ويصفها بــ(اللطخة) والحسناء ترد عليه بوصلة ضحك: (أديك الزيت يا حلو يا جميل)
  • “واقعة لا تصدق”.. يوتيوبر شهير يحتل جحر دب “في غابة” ويتفاجأ بدخوله عليه!
  • مؤسَّسة محمد بن راشد آل مكتوم للمعرفة تتعاون مع “مركز الحرف العربي”