غادر دنيانا العميد "م" محمد أحمد الريح مخلفاً وراءه سيرة نضالية ساطعة في مقاومة ديكتاتورية الإسلاميين. فحين سمعت بخبر وفاته انتابني حزن عميق لم يبدده إلا أهمية اللوذ إلى خصلة الصبر على المكاره في مثل هذا المواقف..فقد كنت معه قبل ثلاثة أسابيع برفقة الأستاذ طارق الكرف، وصديقه الوفي العميد "م" هاشم الخير الذي جاء من ولاية أيوا البعيدة خصيصاً ليطمئن على قائده في وفاء نادر يعز في هذا الزمان.
زرناه في منزله، ووجدناه راقداً في سريره بعد يوم طويل قضاه في المستشفى. قبل هاشم الخير يده، وشجعه على الصمود، وضغطت على يديه، وقلت له إنك ستهزم آلام الكلى، وانتشار السرطان، كما هزمت بنضالك الذين عذبوك، وأرادوا فت عضد رجولتك. في سريره الأبيض كان صابراً، وذهنه حاضراً، وهو راقد لا حراك له بسبب الألم. فودعناه، وهو رابط الجأش، ودعواتنا له بالشفاء لم تفارقنا بعد أن قبل جبينه هشام الخير هذه المرة. صحونا يوم أمس لنجد الخبر الممض للنفس على أنه قضاء الله، ولا راد له. فود الريح رحل فجأة ليرتاح من عذاباته مع المرض، ومن آلام بيوت الأشباح ليفدي زملائه بالتصريح بكل ما عانه من عذابات في هذه المعتقلات السيئة السمعة. فماذا واجه ود الريح في بيوت الأشباح وفق شهادته؟. اعتقل نظام
الحركة الإسلامية ود الريح في العشرين من أغسطس عام 1991 بحجة معارضته للانقلاب. بدأوا - منذ دخوله المعتقل - بضربه بالسياط بلا هوادة، وحُرم من شرب الماء، والأكل لمدة ثلاثة أيام. لم يكتفوا بذلك فقد أحال الهالك عاصم كباشي وضعه في بيت الأشباح إلى جحيم. فاستخدم كباشي كل أنواع التعذيب المعنوي والجسدي، بدايةً من شتمه والإساءة إليه، ثم الضغط على خصيته بزردية في وجود نافع علي نافع، وصلاح قوش، إلى وضعه في غرف مليئة بالقاذورات حتى ليكاد أن يغرق فيها، إلى تقييده ونزع ملابسه، وعصب عينيه، وليس نهايةً بحرمانه من النوم لأيام وسط صخب حاد مصنوع. وحاول قرش، ونافع، أخذ شهاداته عن أشياء تصوروها ضده. ولكن مع كل رفض للإدلاء بأقواله أمامهما كان التعذيب يتواصل بإدخال الزردية في دبره، وسحبها. وهذا قليل من كثير حكاه الرجل الصنديد فضلاً عن حكاياته عن تعذيب جرى أمام عينيه لزملاء المعتقل. -٢- كانت أيام بيوت الأشباح تلك واحدة من أبشع الممارسات التي وجدت المباركة من أصغر ضابط أمن إلى أعلى رتبة في الجهاز. وكان يقنن لهذا التعذيب الاسلاموي - وفقاً لشهادة الأستاذ محبوب عبد السلام - عتاة فقهاء الحركة الإسلامية من لدن أحمد علي الإمام، وآخرين يعاونوه بالفتوى التي تبيح مثل هذه العذابات بحق المعارضين عسكريين، أو مدنيين. وقد كانت قيادة الحركة الإسلامية على علم بكل صغيرة وكبيرة تجري في هذه البيوت التي اُغتصب فيها الرجال بمعرفة نافع، وصلاح قوش، والهادي عبدالله "نكاشة"، وحسن ضحوي "كيس". وقد كان النظام ينكر وجود بيوت الأشباح فيما يدافع عبد الوهاب الأفندي في لندن عن قمع النظام، ويرى أن كل ما تثيره المعارضة مجرد كذب يهدف إلى إشانة سمعة الإسلاميين في الحكم. ولكن الحقيقة أن تعذيب ود الريح، وزملائه الضباط والمدنيين أمثال العقيد مصطفى التاي، ود. محمد القاضي، ود. فاروق محمد إبراهيم، والأستاذ عدلان أحمد عبد العزيز، وآخرين، كان حينذاك يتم في الغرف المظلمة عند القارس. وقد وقفنا على شهادات هؤلاء الضباط عبر توثيقات عدلان نفسه، وبرنامج الأستاذ عبد الرحمن فؤاد في تلفزيون السودان في فترة حمدوك، الذي وثق للتاريخ ما أنجزته الحركة الإسلامية من فقه التعذيب المعنوي والجسدي لمعارضيها المشتبه فيهم فقط الجهر بمعارضة سياستها الاستبدادية لا غير. فقد قفز الإسلاميون بطرق تعذيب معارضيهم إلى سقف لم يصله نظام مايو الذي عُرف أيضاً بتعذيب المعارضين للوصول إلى شهادات صادقة أم كاذبة تحت وطأة التعذيب. ود الريح، ومن ماتوا في بيوت الأشباح، واختفوا من الحياة أمثال الشاعر أبو ذر الغفاري، وأولئك الذين فقدوا عقولهم أثناء التعذيب، وأولئك الذين انتحروا بسبب اغتصابهم، لم يكن كل هؤلاء سوى شرفاء سودانيين بخبرات علمية، وسياسية، وأكاديمية، ونقابية. فهم مثل ود الريح الذي لم تشفع له خدمته الطويلة، والمشرفة في القوات المسلحة، والتي التحق بها في عام 1961 حتى وصل إلى رتبة رئيس الأركان للقوات المحمولة جواً. -٣- لم تلن لود الريح المعروف بشجاعته، وقوة شخصيته قناة، حين كان يقاوم جلاديه آنذاك. بل كان يهددهم أنهم سيلاقون مصيرا أسوأ في حياتهم، وأنه سيقف يوما شاكياً أمام رب لا يُظلم عنده أحد. إن مثل ود الريح قليل من ضباطنا العظماء كما نسميهم. فهو بجانب شجاعته الفائقة عُرف بقوة الشكيمة، ومجاهر بقول الحق، وظل صنديداً في مقاومة الظلم داخل المعتقل، وكذا بعد خروجه. باختصار كان الراحل ابن السودان البار الذي قاوم جلاديه الكيزان، وشارك في كل محفل ليكشف ممارسات نظامهم القبيح. وقد استخدم ود الريح قلمه في فضح الضباط الانتهازيين الذين خانوا قسمهم، وأصبحوا أدوات طيعة للأوليغارشية الاسلاموية التي استولت على الجيش فأنهت كفاءته، والنتيجة ماثلة في حربنا الراهنة. لقد خرج ود الريح من السودان، وانضم إلى المقاومة في الخارج، وشارك في النضال ضد الزمرة الإخوانية الحاكمة، وثبت في مواقفه النضالية طوال سنوات الإنقاذ، ووظف في مهجره القلم لكشف مخازي الطغمة الاسلاموية الحاكمة، ولم يفتر في منازلة كل الأصوات المنادية بمصالحة الكيزان، والدعوة لإسقاط نظام الحركة الإسلامية. كان العميد ود الريح برغم الآثار الصحية الناتجة من مرحلة تعذيبه مهموماً بوطنه، ولم يتخلف من المشاركة في كل المناشط السياسية والثقافية والاجتماعية في مهجره. وقد وظف حياته ليكون صوتاً معبراً ضد أي ظلم حاق بالسودانيين، والمناداة بمحاسبة مجرمي الحركة الإسلامية. وبرغم تكاثف الأمراض عليه، وتقدمه في السن، ظل في مقدمة الحاضرين في أي نشاط أثناء حراك ثورة ديسمبر حتى تكللت بالنجاح. فلتكن سيرة العميد محمد أحمد الريح سانحة لاستذكار استبداد الحركة الإسلامية، وإدخالها فقه التعذيب السياسي وتطبيقه ضد معارضيها في الحقل السياسي السوداني. ولتكن هذه السيرة العطرة أيضاً فرصة لاستعادة روح المقاومة التي واجه بها الديموقراطيون السودانيون جلاوزة نظام الترابي - البشير. وفوق كل هذا فلنجعل من سيرة ود الريح تذكاراً أمام كل الذين يدافعون عن تاريخ الحركة الإسلامية الكالح في البلاد. فلتغشه رحمة الله، وليسكنه فسيح الجنات، والعزاء لشعبنا، وإلى الجحيم كل جلادي بيوت الأشباح.
suanajok@gmail.com
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية:
الحرکة الإسلامیة
إقرأ أيضاً:
توم روبنز.. رحيل أيقونة الأدب الأمريكي الساخر
توفي الروائي الفيلسوف الأمريكي توم روبنز عن عمر يناهز 92 عاماً، بعدما سحر الملايين من القراء بمغامراته مثل "إيفن كاوجيرلز جيت ذا بلوز" و"جيترباج بيرفيوم".
وأكد صحة الخبر صديقه المدير التنفيذي للنشر كريغ بوبلرز، موضحاً أن روبنز توفي صباح أمس الأحد.
وكان روبنز يعترف أنه يمتلك حكمة مجنونة ساعدته على تأليف 8 روايات ومذكرات "تيبتان بيتش باي" (فطيرة الخوخ التبتية)، وكان يعتز بعالمه الذي يتسم بالعبثية وتعليقات المؤلف وخطوط القصة المتعرجة.
وتميز روبنز عن كتَاب أمريكا بامتلاكه خيالاً خصباً جداً، فقد أتحف القراء بقصة بطلة مشاكسة ذات إبهام طويل في "كاوجيرلز"، وكتب عن نزول جثمان المسيح في حديقة حيوان مؤقتة في "أناذر رودسايد أتراكشن".