السودان: استمرار دوران «الحلقة الشريرة»
تاريخ النشر: 11th, February 2025 GMT
منذ فجر الاستقلال والحلقة الشريرة/الجهنمية، تواصل قذف حممها الحارقة والمدمرة في السودان. وحرب السودان الراهنة، هي أسوأ هذه الحمم، حتى الآن، وأشدها تدميرا، لا على الصعيد المادي فحسب، بل أيضا على الصعيد الروحي والنفسي. وما لم يتم تفكيك هذه الحلقة، فإن نزاعات وحروب السودان لن تتوقف، وحتى إن توقفت الحرب الدائرة اليوم، إثر هذه الوساطة أو تلك المساعي، فلن تكون الأخيرة، ولن تتوقف حمم الحلقة الشريرة، مما ينسف استقرار البلاد ومواصلة احتجازها في براثن التخلف عاجزة عن بناء دولتها الوطنية.
وحرب السودان الراهنة انفجرت والسودان أصلا يعاني من متلازمة الاستقطاب الحاد والانقسامات العميقة والحروب الكلامية، لا على مستوى النخب السياسية والعسكرية فحسب، وإنما على كل مستويات المجتمع السوداني مسببة جروحا عميقة من الصعب أن تندمل سريعا. ومع إقرارنا التام بأن هذه المتلازمة هي نتاج تلك الحلقة الشريرة وما أحدثته من تشوهات كبيرة ظلت تتكاثر وتتوالد باستمرار في بنية الكيان السوداني منذ فجر استقلاله، بسبب الفشل في إدارة التنوع والتعدد الثقافي والعرقي والسياسي وطغيان الهويات الإثنية والجهوية والأيديولوجية على الهوية الوطنية الجامعة، إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل دور الحرب الراهنة وتطاول أمدها وتجلياتها الخطيرة في مضاعفة القوة التدميرية لهذه المتلازمة واشتداد بأسها، وفي اتساع رقعة الخطاب التحريضي المعادي لثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، والذي يبشر بحلقة جديدة في سلسلة حلقات الدائرة الشريرة، ويلوح بمعاودة استخدام العنف في حسم الخلاف وكأداة للسيطرة والترهيب، وما صاحب ذلك من تأجيج لمشاعر العداء بين مكونات البلاد والحض على الكراهية والعنصرية والتمييز العرقي والإقصاء السياسي، وما تلعبه التدخلات الخارجية في تأجيج الانقسامات والصراعات الداخلية في البلاد ليتم استغلالها لتحقيق مصالح أصحاب هذه التدخلات الخارجية على حساب مصالح الشعب السوداني.
لكن، يبدو أن بيننا من لم يستوعب دروس التاريخ الحديث لبلادنا، فغابت عنه هذه الحقائق ولم يعد يرى، أو يرى ويتجاهل، فشل مشروع بناء الدولة السودانية على أساس أيديولوجي، أيا كانت هذه الأيديولوجية، أو على أساس تصور حزبي ضيق، أيا كان هذا الحزب. هولاء لا يدرون، أو يدرون ويتجاهلون، أن تماسك وحدة السودان واستقراره ونموه وتطوره وبناء دولة حديثة في كيانه، يشترط مشروعا وطنيا جامعا يأخذ بعين الاعتبار كل أطياف الشعب السوداني، ويؤكد على حقوق الجميع فى المشاركة الفعالة فى إعادة بناء هذه الدولة على أساس الإدارة الديمقراطية والرشيدة للتنوع والتعدد الإثني والديني والثقافي في البلاد وتقنينه، وعلى أساس النظام الديمقراطي التعددي المدني، والتنمية المتوازنة بين كل أطراف البلاد، وذلك في ظل نظام للحكم يحقق هذه الأهداف. هذا هو المدخل الوحيد لتحقيق حلم تفكيك الحلقة الشريرة، وأما الغائبون والمغيبون عن استيعاب هذه الحقائق، فتاهوا وضلوا سبيلهم إليه. وفي زمرة هؤلاء يدخل دعاة تكوين حكومة «السلام» في مناطق سيطرة ميليشيا الدعم السريع تحت دعاوى سحب الشرعية من حكومة الأمر الواقع في بورتسودان، ودعاة من يختصرون العملية السياسية في تعديل أو استبدال الوثيقة الدستورية وتكوين حكومة في مناطق سيطرة القوات المسلحة السودانية، حتى وإن امتدت هذه السيطرة لتصل القصر الجمهوري، وحتى وإن أقررنا بشرعية ما تقوم به هذه القوات.
صحيح أن الاقتتال الدائر اليوم في البلاد يمكن أن يتوقف بفعل هذه الوساطة أو تلك، ولكن الحرب لن تنتهي ولن تكون الأخيرة إلا بإدراكنا وتلمسنا للمدخل الوحيد لتفكيك الحلقة الشريرة على النحو الذي أشرنا إليه أعلاه، وهذا بدوره يشترط الشروع في عملية سياسية جديدة تبدأ بتشكيل آلية قومية تضم قيادات كل القوى السياسية والنقابية والحركات المسلحة ولجان المقاومة والقوى الشبابية والقيادات النسائية والمجتمع المدني والشخصيات الوطنية، بهدف التوافق حول تفاصيل فترة انتقالية تأسيسية، واختيار قيادتها على أساس النزاهة والكفاءة والقدرة السياسية والتنفيذية، بعيدا عن أي ترضيات أو محاصصات سياسية أو جهوية، وبعيدا عن القيادات السياسية والعسكرية التي تسببت في اشتعال الحرب واستمراريتها وتأجيج نيرانها. واستيعابا لدروس تاريخ السودان الحديث كما ناقشنا أعلاه، بما في ذلك الاستفادة من أخطاء فترات الانتقال السابقة، لابد أن تستند الفترة الانتقالية التأسيسية على مجموعة من المرتكزات، دونها ستتكرر ذات الأخطاء ويتكرر ذات الفشل، وفي مقدمتها أن تشرع الحكومة الانتقالية فور تكوينها في تنظيم مؤتمر مائدة مستديرة للتوافق حول تفاصيل البرنامج الانتقالي لما بعد الحرب، بما في ذلك تكوين مجلس تشريعي انتقالي يتولى مهام التشريع والرقابة والمحاسبة، وتكون عضويته من ذات الآلية القومية المشار إليها، أو توسيعها بإضافة أعضاء آخرين وفق ذات شروط اختيار قيادة الفترة الانتقالية، مع مراعاة تمثيل المرأة والشباب تمثيلا حقيقيا، وليس شكليا أو صوريا. أما بقية المرتكزات، فعناوينها الرئيسية تشمل: إصلاح المنظومة العدلية والقانونية وتحقيق العدالة في كل الجرائم المرتكبة بحق الوطن والمواطن بما في ذلك جريمة إشعال الحرب. استعادة الدولة المخطوفة بواسطة نظام الإنقاذ والدولة العميقة لاحقا، بهدف تحقيق قومية ولا حزبية كل أجهزة الدولة، المدنية والعسكرية، وذلك عبر مراجعة قوانينها وهياكلها والتغييرات التي أُدخلت على تركيبة مجالسها وأجهزتها المتخصصة، ومراجعة التوظيف وحالات الفصل التعسفي وللصالح العام، وكل التظلمات التي حدثت خلال عهد الإنقاذ وقبل الحرب وأثناءها. وضع استراتيجية واضحة تجاه عملية السلام الشامل وتحقيق الصلح المجتمعي والأهلي. حل كل الميليشيات المسلحة في البلد ونزع سلاحها ودمجها في القوات النظامية أو تسريحها وتوفير سبل الحياة الكريمة لأفرادها، وحصر حمل السلاح في القوات النظامية فقط. تقصي الحقائق حول جرائم الفساد ونهب المال العام وسوء استخدام السلطة، وتقديم المتورطين للعدالة، واسترداد المال العام والخاص ورد الاعتبار والتعويض. التوافق حول الثوابت الدستورية عبر المؤتمر الدستوري. البرنامج الاقتصادي الإسعافي وبرنامج إعادة إعمار ما دمرته الحرب.
نقلا عن القدس العربي
المصدر: سودانايل
كلمات دلالية: على أساس
إقرأ أيضاً:
مدني النخلي.. صوت الثورة والسلام في الشعر الغنائي السوداني
مدني النخلي، شاعر سوداني بارز، استطاع عبر كلماته أن يعبر عن هموم السودانيين وأحلامهم، حيث ترك بصمة خالدة في الأغنية السودانية الحديثة. لم يكن مجرد شاعر غنائي، بل كان أيضًا ناشطًا ثقافيًا مؤمنًا بدور الفن في التغيير الاجتماعي والسياسي. في هذا المقال، نلقي الضوء على سيرته، إبداعاته، ومواقفه المميزة في دعم الثورة والسلام.
النشأة والبدايات
وُلد مدني النخلي في مدينة الدويم بولاية النيل الأبيض، وهي بيئة ثقافية غنية ألهمت العديد من الشعراء والمبدعين. منذ صغره، كان لديه شغف بالكلمة، فبدأ بكتابة الشعر مبكرًا، مستلهِمًا من التراث السوداني ومن واقع الحياة اليومية.
أعماله وتأثيره في الساحة الفنية
تميّزت مسيرته الإبداعية بتعاونه مع عدد كبير من الفنانين السودانيين، حيث تجاوز عددهم العشرة، ما أسهم في انتشار أعماله وخلودها في وجدان السودانيين. ومن أبرز أعماله، أغنية "أرح مارقة" التي أصبحت أيقونة للثورة السودانية، رغم أنها كُتبت في التسعينيات احتجاجًا على نظام البشير، لكنها اكتسبت زخمًا أكبر خلال ثورة ديسمبر 2018، حيث رددها الثوار في الشوارع كسلاح معنوي في وجه الطغيان.
دوره الإعلامي والمجتمعي
إلى جانب الشعر، كان مدني النخلي حاضرًا في المجال الإعلامي، حيث قدم برنامج "كلام شباب" على إذاعة البيت السوداني بين عامي 2005 و2011، الذي منح الشباب منصة للتعبير عن قضاياهم وإبداعاتهم. كما أسس مبادرة "مجال الشوف" عبر إذاعة "هوى السودان"، التي اهتمت بتسليط الضوء على قضايا المناطق المهمشة وإبراز ثقافاتها.
مواقفه الإنسانية ودعمه للسلام
لم يكن النخلي مجرد شاعر سياسي، بل كان ناشطًا في قضايا السلام. منذ الثمانينيات، رفض الحرب الأهلية في جنوب السودان، ودعا إلى التعايش والحوار. شارك في مبادرات مجتمعية للسلام، وأسس مع مجموعة من الشعراء جمعية "أصوات من أجل السلام" عام 2006، التي نظّمت مهرجانات فنية في مناطق النزاع، إيمانًا بدور الثقافة في رأب الصدع الاجتماعي.
التكريم والإرث الثقافي
حظي مدني النخلي بتقدير واسع داخل السودان وخارجه، حيث نال جائزة الشارقة للإبداع العربي عام 2004، ووسام الثقافة السوداني من وزارة الثقافة عام 2010. كما أدرجت بعض قصائده في مناهج جامعة الخرطوم كنماذج للشعر المرتبط بالقضايا الاجتماعية والوطنية.
يظل مدني النخلي واحدًا من أكثر الشعراء تأثيرًا في المشهد الثقافي السوداني، حيث لم تقتصر إبداعاته على الشعر الغنائي، بل امتدت إلى النشاط الثقافي والاجتماعي، ما جعله صوتًا صادقًا للثورة والسلام. ستظل كلماته محفورة في ذاكرة السودانيين، تروي حكايات الأمل والنضال.
زهير عثمان
zuhair.osman@aol.com