البوابة نيوز:
2025-02-11@08:00:31 GMT

عبد الرحيم على يكتب: مصطفى بيومي وشغف الذاكرة

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

ويمضى الأحبة.. تبقى تفتش فى التفاصيل عن زهرتين؛ تضعهما فوق قبر، ثم تقول سلامًا.. يخاصمك الآن قلبى ونصف وعد بأن نلتقى حيث كنا نزرع الطرقات فى عتمة الليل وحدنا.. نجالس الحلم، ونقرأ كل الوجوه الغائبة.. كل التفاصيل ما بيننا..

لكنك وحدك، الآن، قررت أن تفك طلاسمها واحدًا تلو الآخر.

. سلام عليك إذن فى العالمين..

هذه مدينة المنيا الجميلة وتلك دار «شعاع».. يجلس الرفيق «لطفي» خلفَ منضدةٍ خشبيةٍ عتيقة ويمسك النسخة الأولى من ديوانى الأول والأخير «العواصف».. كان ذلك فى منتصف عام ١٩٨٧.. لم تكن تلك بالطبع هى المرة الأولى التى أراه فيها؛ كنا قد تعرفنا على بعضنا البعض منذ عامين تقريبًا فى بدايات عام ١٩٨٥ فى قصر ثقافة المنيا.. قرأت مقدمة الديوان وشكرته ورد على بجملته المعهودة: لماذا تشكرني؟ أنت تستحق ما كتبته عنك، فلم أجاملك.

واتفقنا منذ ما يقرب من أربعين عامًا، ألا يجاملُ أحدَنا الآخر ولكن نظل أوفياء لما نكتب ونعتقد.. 

لم يكن مصطفى صديقى بالمعنى التقليدى للصداقة.. إنما كان، ولم يزل، واحدًا من عائلتي.. أخى وابن أيامي.

كنا مجموعة من الأصدقاء لا تتعدى أصابع اليدين ندينُ للأدب العربى وبخاصة الشعر والرواية بالكثير فى تكوين شخصيتنا وندين للفكر الماركسى بأكثر من ذلك فى جعلنا نمتلك مفاتيح طيعة لفهم ظواهر الحياة.. وكان مصطفى أكثرنا انضباطًا وكلاسيكية، يعرف ما يفعل ويفعل ما يعرف، عندما تزوره فى منزله لا بد أن تدهشك مكتبته العامرة بكتب الفلسفة والتاريخ والأدب هنا أرسطو وأفلاطون وماركس وإنجلز ونيتشه وسارتر بجانب تشيخوف وديستيوفسكى وكازنتزاكس.. هنا نجيب محفوظ ويوسف إدريس ويحيى حقي.. سلامة موسى وطه حسين وعلى عبد الرازق ولويس عوض.. بجانب عبد العظيم رمضان وطارق البشرى وصلاح عيسى.. هنا الجبرتى وعبد الرحمن الرافعى.. هنا حجازى وأمل وصلاح عبد الصبور وصلاح جاهين.. هنا مصر التى أحبها مصطفى بجنون..

والتى من أجلِها قررنا يومًا ما من عام ١٩٨٧ أن نشكل خلية شيوعية سرية.. كان الاجتماع الأول فى منزل مصطفى واختار هو أن يكون مسئول التثقيف واختار لنفسه الاسم الحركى «لطفي» ورشحنى هو وعادل وسليمان لكى أكون المسئول السياسى للخلية، أى المسئول الأول فيها، ربما لكى أتحمل المسئولية وحدى بحكم تهورى المعتاد عندما تقع الواقعة.

واخترت لنفسى الاسم الحركى «خالد»، تيمنًا بالزعيم خالد محيى الدين الذى سميت ابنى على اسمه فيما بعد..

كنا فى ريعان شبابنا نحلم بالحرية والاشتراكية والحب.. لكن أكثر شيء كنا مؤمنين به هو الحب وهو ما بقى بعدما تبخرت أحلام الحرية والاشتراكية..

لا أبالغ إذا قلت إن صداقتى لمصطفى بيومى كانت أحد أهم مصادر الفرح والسعادة بالنسبة لي.. تأثرتُ به كثيرًا خاصةً فى عادات القراءة واستخدام الكشكول ووضع الملخصات واستخدامها فيما بعد فى الكتابة.. كان مصطفى كاتبًا محترفًا وقارئًا محترفًا وكنت، وما زلت، أهوى الكتابة وأعشق القراءة، لا أكتب إلا عندما ترهقنى الفكرة وتلح على وتضغط، حتى تكاد تفجرنى من الداخل.. لكن مصطفى كان على العكس تمامًا يكتب كما يأكل أو يتنفس أو يمشي.. كانت مثل توأم روحه، نجيب محفوظ، يستطيع أن يحدد وقتًا من اليوم للكتابة ووقتًا للقراءة ويلتزم بهما التزاما حرفيًا.. كما كان يستطيع أيضًا أن يكتب مقالًا نقديًا فى عشر دقائق كما بستطيع أن يقول لك متى ينتهى من الرواية التى يكتبها دون أن يتأخر عن هذا الموعد ساعةً واحدة.. أذكر فى إحدى المرات وفى ساعة مزاح، قرر هو وعادل الضوى أن يكتبا شعرًا عموديًا يضارع الشعر العربى القديم فى القافيةِ والوزن والموضوعات والكلمات فكانا يكتبانه وكأنهما يلقيان النكات فى سهراتنا الليلية وفى الصباح يلقيانه على أساتذة اللغة والشعر فيبهرانهم بما كتبا وكنت أضحك فى داخلى كيف لهذين الشابين أن يخدعا كلَ هؤلاء الكبار ليثبتا أن ما يكتبه البعض لا يستحق عناء القراءة.

«من أى بحرٍ عصيِ الريحِ تطلبه.. إن كنتَ تبكى عليه فنحن نكتبه».. كانت تلك رسالتهم التى حملها حجازى شابًا إلى العقاد.. وافترقنا.. غادرت أنا إلى القاهرة وكان قد سبقنى إليها عادل وسليمان، وظل مصطفى هناك فى قلب المدينة الهادئة الجميلة يكتب ويقرأ ويقابل أصدقاءنا ويرسل تحياته بين الحين والآخر.. لكننى عندما أنشأت أول مركز للدراسات عام ١٩٩٨ اتصلت به وبعادل وسليمان فلبوا النداء جميعًا كالعادة، وكان أولهم مصطفى، وبدأنا رحلة جديدة أثمرت ثمارًا يراها العالمُ كلُه الآن وليس المصريين فقط، آثارهُا فى كل مكان فى أوروبا ولن تتوقف ما كان فى العمر بقية إن شاء الله.. 

لم تحن ساعة الرحيل بعد، يا درش، كنت دائمًا أمازحه كلما رأيته فى الشهور الأخيرة، وكان قد بلغ الإرهاق منه مبلغه، قلت له لقد حلمنا أن نرقص أنا وأنت يومًا ما على أنغام زوربا.. هل تتذكر؟ تلك الرقصة التى ما برحت أذهاننا يومًا.. لم نرقصها بعد، كنا نتذكرها بين الحين والآخر ونتساءل متى نمتلك الشجاعة كى نفعلها؟.. انتظرنى إذن يا درش لكى نفعلها معًا، مرة واحدة فقط يا صديقي، حين نلتقى بعد حين.. فإلى لقاء..

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: عبدالرحيم علي

إقرأ أيضاً:

مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

مصطفى بيومى لم يكن مجرد أستاذ أو مفكر، بل كان ظاهرة ثقافية تعكس عمق الأدب والفكر العربي. أعماله وأفكاره لمست أجيالًا، وزرعت فيهم حب الأدب وشغف المعرفة.

مصطفى بيومى لم يكن مجرد ناقد أدبى وروائى بارع، بل كان صاحب رؤية ثقافية متفردة، استطاع من خلالها أن يعيد قراءة الأدب العربى بعين ناقدة تلتقط الجوانب المسكوت عنها، وتكشف عمق النصوص الأدبية. تميز بأسلوبه الرصين وتحليله العميق، فكان يذهب إلى ما وراء الكلمات، مستخرجًا ما تخفيه النصوص من دلالات ورؤى فكرية واجتماعية. لم يكن النقد عنده مجرد تحليل أكاديمى بارد، بل كان فعلًا ثقافيًا حيويًا يسعى إلى استنهاض الوعى وتحريك المياه الراكدة فى المشهد الأدبي.

لكن مصطفى بيومى لم يكن ناقدًا فحسب، بل كان إنسانًا بكل ما تحمله الكلمة من معانٍ. كان صاحب قلب كبير ويد ممدودة دومًا لكل من يمتلك الموهبة ويحتاج إلى الدعم. آمن بأن الكتابة ليست مجرد مهارة، بل موهبة تحتاج إلى من يكتشفها ويرعاها، وكان هو ذلك الداعم الحاضر دائمًا، الذى لم يبخل بنصيحة أو توجيه. كثير من الكتّاب الشباب مدينون له، فقد كان الناصح الأمين، والمحفز الأول لهم، والمؤمن بقدرتهم حتى قبل أن يؤمنوا هم بأنفسهم.

على المستوى الشخصي، كان لى شرف العمل معه، والتعلم منه، بل والتقرب منه كأخ أكبر وأب روحى وصديق حقيقي. كان من أولئك الأشخاص النادرين الذين يتركون أثرًا عميقًا فى حياة من يعرفهم، ليس فقط بما يكتبونه، بل بما يغرسونه فى القلوب من قيم الحب والعطاء والإخلاص. ستظل ذكراه حيّة، لا فقط فى كتبه وإبداعاته، بل فى نفوس كل من عرفوه وتعلموا منه معنى الإنسانية قبل الأدب.

لطالما كان أدب نجيب محفوظ مرآة عاكسة للتحولات الاجتماعية والسياسية فى مصر، حيث عالج فى رواياته قضايا شائكة بأسلوب يجمع بين الواقعية والرمزية، ورغم كثافة الدراسات النقدية التى تناولت أعماله، لا تزال هناك موضوعات ظلت بعيدة عن الضوء أو لم تحظَ بالنقاش الكافي.. ولم يهتم النقاد بدراسة وتحليل أدب نجيب محفوظ مثلما اهتم مصطفى بيومى فأذدر العديد من الدراسات التى تناولت إبداعاته، ومن تلك الدراسات المهمة كتاب "المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ" الذى يسعى إلى كشف القضايا المسكوت عنها فى أدب محفوظ، مسلطًا الضوء على الجوانب الجريئة التى طرحها الروائى الكبير فى أعماله.

على الرغم من كثافة التناول النقدى للكاتب الكبير، فإن عشرات الجوانب فى عالمه لم تحظ ببعض ما تستحقه من اهتمام وتحليل، ومن هنا تأتى هذه دراسة مصطفى بيومى التى تضم اثنين وعشرين بابًا، وتتناول بعض المسكوت عنه نقديًا.

يركز مصطفى بيومى فى كتابه على تحليل الموضوعات التى تجنبتها بعض الدراسات التقليدية، مثل علاقة السلطة بالمجتمع، وأدوار المؤسسة العسكرية والشرطة، إلى جانب قضايا اجتماعية حساسة كالقمار، والانتحار، والطلاق، والشذوذ الجنسي. ومن خلال هذا التحليل العميق، يكشف بيومى كيف استطاع محفوظ توظيف الأدب لمناقشة قضايا جوهرية بأسلوب يتسم بالذكاء والعمق، ما يعزز من فهمنا لمشروعه الإبداعى ورؤيته النقدية للمجتمع المصري.

يقول مصطفى بيومي، فى مقدمة موسوعته المهمة عن المسكوت عنه فى عالم نجيب محفوظ الروائية، «يمثل نجيب محفوظ قيمة مضيئة فى تاريخ الثقافة المصرية، والعربية والإنسانية، ذلك أنه يقدم نموذجًا فذًا للمثابرة والجدية والدأب من ناحية والتمسك بالتفاعل الإيجابى مع معطيات الواقع الاجتماعى دون إهمال التجديد الفنى من ناحية أخرى».

وتستحق هذه الموسوعة المهمة أن نعرض لها تفصيلًا لولا ضيق المساحة المتاحة، وهو ما سنحاوله فى أقرب وقت تقديرًا لروح أستاذنا الراحل الكبير.

مقالات مشابهة

  • مصطفى بيومي.. وداعًا شجرة الصنوبر
  • هيثم مفيد يكتب: المسكوت عنه في عالم مصطفى بيومي
  • خالد عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي.. حين تنطفئ الشموع ويبقى النور
  • مصطفي بيومي.. الرجل الذي عاش بالكلمات ومات وحيدًا
  • مصطفى بيومي.. عمود الإبداع والنقد
  • مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»
  • حوار أخير مع مصطفى بيومي
  • عادل عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي رحيل بالجسد وخلود بالذكرى
  • منير أديب يكتب: مصطفى بيومي.. والمصطفون الأخيار