خالد عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي.. حين تنطفئ الشموع ويبقى النور
تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
برحيل الأستاذ والمفكر مصطفى بيومي، فقد الأدب والثقافة أحد أعمدته الصلبة، وخسر طلابه ومحبوه معلمًا لم يكن مجرد ناقل للمعرفة، بل عاشقًا لها، يبث فيها روحه ويمنحها حياةً تتجاوز الكلمات. لم يكن مجرد أستاذ، بل كان فكرًا متجسدًا، يضيء العقول والقلوب بشغف لم يخفت يومًا.
أتذكر جيدًا، فى إحدى محطات حياتي، حين كنت أستعد لامتحان مهم، وكان الأدب العربى محورًا أساسيًا فيه، قاعدة لا غنى لى عنها.
ما حدث لم يكن درسًا تقليديًا.. كان تجربة مختلفة تمامًا. حين تحدث عن "يوميات نائب فى الأرياف" و"قنديل أم هاشم"، لم يكن يسردها كنصوص تُحفظ فقط، بل كان يعيشها بكل كيانه. شعرت وكأن شخصيات الروايات تخرج من الصفحات وتجالسه. رأيت فى عينيه وهجًا لا ينطفئ، شغفًا نادرًا، وكأن الكلمات تمتزج بروحه قبل أن تصل إلى قلمه أو حديثه.
لم أحظَ بفرصة قضاء سنوات طويلة معه كما فعل بقية أفراد عائلتي، لكن رغم قصر الوقت الذى جمعنى به، ترك بصمة لا تُنسى. كلماته لا تزال حاضرة فى ذاكرتي، يتردد صداها داخلي، وكأن صوته لم يغب يومًا.
مصطفى بيومى لم يكن مجرد أستاذ أو مفكر، بل كان ظاهرة ثقافية تعكس عمق الأدب والفكر العربي. أعماله وأفكاره لمست أجيالًا، وزرعت فيهم حب الأدب وشغف المعرفة. رحيله لا يمثل مجرد خسارة شخصية، بل خسارة فكرية وثقافية تمتد لكل من عرفه أو تتلمذ على يديه.
لكنه، وإن غاب الجسد، سيظل أثره خالدًا فى كلماته التى علّمنا بها، فى شغفه الذى زرعه فينا، وفى بصمته التى لن تمحوها الأيام. وداعًا يا من كنت رواية تمشى بيننا، ويا من بقيت حيًا فى كل سطر كتبته وفى كل قلب أحبك. رحمك الله رحمة واسعة وأسكنك فسيح جناته.
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: مصطفى بيومي لم یکن
إقرأ أيضاً:
هيثم مفيد يكتب: المسكوت عنه في عالم مصطفى بيومي
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق
"الكتابة!. كم هي فعل بسيط هين"، هكذا قال الأديب الراحل مصطفى بيومي، حينما قرأ قصة "موت موظف" لأنطون تشيخوف، وهو لا يزال ابن السابعة عشر. ولكن، ما أثقل فعل الكتابة حين تنعي عزيزًا لم يسعني الوقت لأنهل المزيد من علمه، أو أنهي ما بدأناه - قبل سنوات ليست بالطويلة - من محادثات ولقاءات لطالما روت ظمأي، لكنني لم أكتفِ من لذة مذاقها ما حييت. هنا، أستطيع القول، ليس بتواضع من أصابهم داء الحكمة وهم على مشارف الستين، ولكن بمن آلمهم أعراض الفراق، بأن "الكتابة!. يا لها من عملية شاقة ومعقدة".
طيلة سنوات، وأنا أترقب "الأستاذ" خلسة حين يصل مكتبه القابع في ذات الدور الذي أعمل به، فلطالما اكتنف هذه الغرفة السحر والغموض، والسلام أيضًا؛ وكأنها بقعة معزولة لا صلة لها بما حولها. ووقت يحين موعد مغادرته، أظل متأملًا هدوء خطواته المتواضعة، وتفاصيله الصغيرة: كالحقيبة الجلد التي كانت لا تفارق يده دومًا، وباقة الكتب التي كانت لا تبرح يده الأخرى، فالكتب والكتابة هما المتنفس الوحيد في هذه الحياة المحدودة والمملة التي لم تتسع يومًا لرحاب خيال شيخي الرقيق.
بدأ تعارفي على كتابات "بيومي" من خلال الصفحة الأخيرة لجريدة "البوابة"، التي كان يكرسها أسبوعيًا للحديث عن وجوه سينمائية، لكنها ليست تلك الوجوه المعتادة أصحاب الأسماء الرنانة، إنما القلة المنسحقة داخل عجلة صناعة السينما التي تعيش على هامش الظل، والذين لا تعمر الأرض إلا بهم. فهم ملح الأرض - كما أسماهم في كتابه "عباقرة الظل" - وبدونهم لا يصبح للطعام عظيم التكلفة أي مذاق.
خلال مرحلة الدراسة الثانوية، انتبات أديبنا الراحل حالة من مشاعر اللذة والسعادة وهو يقرأ كتاب "ناس في الظل" للمبدع يحيى حقي، فوقع على إثره أسيرًا لرؤيته الإنسانية الخلابة، ومحبته الدافئة لبسطاء الناس. تعلم منه أن يتعلق قلبه دائمًا بهؤلاء الذين لا تعمر الأرض إلا بهم، لكننا لا نشعر بأهميتهم وعظمة عطائهم إلا عند غيابهم، فبات نصيرًا للمهمشين والمظلومين، والمنسيين أيضًا. وهذه مفارقة غريبة، لأن صاحب "عباقرة الظل"، هو نفسه "عبقري ظل" لم يحظى بالشهرة أو التقدير المادي المستحق، تمامًا كأبطال قصصه وحكاياته. فكما يقول "شيخي": "إن الأمر لا علاقة له بالشفقة، لكنه الحب الذي لا يعرف التعالي والتعاطف الكاذب المصنوع". وهكذا الحال في مشاعري الحزينة تجاهك أيها الأستاذ.
في عام 2021، ومع بداية عملي في شركة "ميديا فيجن"، أوكلت إليّ مهمة البحث عن فكرة لبرنامج تلفزيوني جديد، ولم أجد أنسب من الحديث عن "نجوم الظل". ولما لا، فهذه الحكايات هي ما تشبعت بها ذاكرتي على مدار أسابيع طويلة مضت، وجعلتني قريبًا أكثر إلى عوالم مصطفى بيومي، المليئة بالحنين والحب نحو المهمشين. هنا، جاءت فرصة الحديث الأول مع الأستاذ المجهول، الذي غمرني بمحبته وعطفه، لدرجة تكاد تجعلك تصب جم لعنتك على هذه الحياة التي لم تتح لك الفرصة للقاءه من قبل. ولكن هكذا الحال مع الدنيا، شريط طويل من الملل يتخلله فواصل قصيرة جدًا من السعادة الخالصة التي يمنحها أناس أمثال مصطفى بيومي.
ظاهريًا، ربما كانت تلك مجرد اجتماعات عمل وتصوير روتينية، لكنها - رفقة الأستاذ - كانت أشبه بجلسات استرخاء في رحاب عالمٍ لا تمل الحديث معه في شتى مناحي الحياة. من السياسة، إلى أحوال البسطاء من عموم الشعب، وحكايات أهل الفن؛ لا سيما قصة لقاءه الأول مع الجميلة الفاتنة في الزمن القديم، الفنانة فاطمة رشدي، والتي قابلها حين كان نزيلًا في "لوكاندة توفيق" بوسط البلد، وتعلم من لقاءاته المتكررة بها كيف يكون الزمن قاسيًا بلا رحمة.
تتداعى الكلمات في حضرة مصطفى بيومي، فكل ما عليك فعله هو أن تجلس وتنصت لحديثه بعناية. أما في غيابه المادي، فالتداعِ من أثر الرحيل وألم الفراق الموحش. لا أقوى على نعي "الأستاذ" بكلمات بليدة جافة، لكنني سأقتبس من شبه سيرته الذاتية "النبش في الذاكرة"، حين نعى صديقه الحنون المؤتمن على أسراره وأوجاعه "أنطون تشيخوف":
"تنتهي حياته القصيرة مع كأس من الشمبانيا ثم يموت في سلام وهدوء، راضيًا لأنه يترك وصيته في صورة سؤال يلح عليه: ألا يمكن أن تكون حياتكم أفضل قليلًا أيها السادة؟!. لست أدري كيف تكون نهايتي، ولا أظن المحيطين بي عند احتضاري يسمحون لي بسيجارة وقدح من الجعة، لكنني سأوصيهم بأن يضعوا صورته في قبري، فمع عينيه الحانيتين لن أشعر بالوحدة والغربة، ولن تنهشني ديدان الابتذال".