مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين
تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT
تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق أنصف جيل الرواد ورد اعتبار المنسيين ورسم خرائط لقراءة الإبداع فى مئة عام
لم تصدمنى المُباغتة المُرة. كُنت أنتظرها بتوجس مَن يُدرك مآلات المبدعين الإستثنائيين. مَن يتحمل كُل هذا القُبح؟ كُل ذاك الوجع؟ الأحلام المُنكفئة، والأمانى البسيطة المُنكسرة، والإحباطات الوطنية، والصدمات فى البشر سلوكا وعقولا ومشاعر؟ مًن يمتلك رهف الحس، فلا ينفجر ضجرًا من تكالب الجراد على حقول الورد؟ من يسكُن ويصبر ويتقبل تمدد ميليشيات الظلام وانحسار الأوطان!
كُنت على يقين أنَّ إنسانا مُختلفا رُقيًا وخُلقا، ومُبدعا مهموما بالناس، ومُفكرا مُنشغلا بالقادم، وقلبا قابضًا على الخير مثل الأستاذ مصطفى بيومي، لا يُمكن أن يبقى صامدًا فى هذا الزمن بأوجاعه وهزائمه.
لذا لم تذبحنى عبارة صديقتنا حنان أبو الضياء عبر الهاتف تسألنى فجأة، إن كُنت أعلم أن الأستاذ مصطفى بيومى رحل قبل دقائق. لم أجب، وإن كان عقلى الباطن يُكرر فى تفهم "أعلم وأتوقع وأترقب" فمثله يُراهن على الانتصار دوما، وينتصر، وانتصاره الوحيد فى الوقت الآنى هو فى النجاة من حياة ماسخة، مُكررة المشاهد، بليدة الحس، مليئة بالأشرار والخبثاء والقتلة السريين.
استرجعت عشرات العبارات المُرة التى صاغها خلال السنوات الأخيرة بإزميل نحات مُتقن وهو يُكرر سعادة الموتى وحسرةالأحياء، فمن مات نجا، ومن رحل ليس له ولا عليه فقد فاز. يقول مثلا "الحياة لم تعد تروق لى / أراها ماسخة بلا مذاق./ على حافة النهاية أبوح لكم بخلاصة الحكمة:الموت وحده راحة من كل شر".
ويكتب أيضا: "فى عطلة نهاية الإسبوع يغادر الموتى قبورهم/ لكنهم يعودون سريعًا/ فالحياة خارجها لا تُحتمل".
وهو لا يخاف الموت ولا يفر منه، لأنه بيقين يُدرك كُنه الحياة وخلاصاتها، فيذكرنا قائلا "احرص على الموت/ أو لا تحرص على الموت/ ستموت).
طالت أحزان المُبدع الحالم مع انكسارات شتى، فرأى وطنًا يُكرر خطاياه، وبشرًا يسايرون القطيع، ومُجتمعا يُغلق كل نوافذه، وأمانى تتبدد كل يوم. يكتب حزينًا: "يزورنى النفرى بلا موعد/ أرى فى عينيه دموعًا/ يهمس فى خجل معهود: كم أنتم جديرون بالشفقة يا ولدي/ تعيشون فى سيرك يُسمى وطنًا".
ربما باغته الشعور الذى يزور كلأ مُبدع مرات ومرات رافعًا سيف التساؤل الموجع عن جدوى الكتابة فى مُجتمعات كسيحة قابعة فى كهوف التعصب والآحادية ومخاصمة العلم والفن، فجرّب الإنزواء، والزُهد، والترفع، والتصق بحروفه ونصوصه وتأملاته، مكررا أنه ليس أفضل من الشعور بالرضا بكل نعمة وأى نعمة إلهية. يكتب عن ذلك "عندما يشتد بك الظمأ/ اشرب عصير الرضا مع مولانا النفري".
وهذا ما كان يُكرره لى بايمان خالص خلال لحظات البوح التى كانت تعزلنا عن أوجاعنا المُحيطة، فكل ما يتمناه هو فنجان قهوة، فى نهار شتوي، يسمع فيه الست تُشدو، أو كوب شاى فى ليلة مُقمرة يشاهد فيها فيلما عظيما أو يقرأ رواية ماتعة. كان كُل ما يحلم به هو أن يُمسك بلحظات جمال وصفاء ونقاء، فقد عاش عُمره يكره الحروب الوحشية، وينفر من أحزان البشر، ويستاء من البطولات الكاذبة، وينزعج من وصلات النفاق، وادعاءات التدين الشكلي، ويأنس بالمطر الشتوى وهو يغسل خطايا البشر وعكارات الحياة.
كُنت محظوظا بمشاركته لى أفكار مشاريعه التالية، واحدا تلو آخر. كان يُفكر فى العمل القادم قبل أن يخُط حرفًا منه ويُحدثنى عنه بحب ويقين بأنه سيرى النور. سمعت منه عن روايته البديعة "أمير المؤمنين" وهى محض أفكار مُستنبئا مُبكرًا بقدوم أوصياء السماء وهيمنتهم على الناس وعصفهم بكل جميل. عرفت منه خطوط مشروعه الفذ عن المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ، وشخصيات روايات نجيب محفوظ، وشخصيات يحيى حقي، ويوسف إدريس، وعلاء الديب وهى تتأرجح فى عقله. أنبأنى عن حلمه الجميل برواية العمر "يوميات سعد عباس" التى تتجاوز الألف صفحة يُقدم فيها خلاصات مثقف مستقل معنى بالقيمة الجمالية والمعرفة والوسطية بعيدا عن السلطة والنفوذ والانتهازية السائدة، وعشنا فرح القراءة قبل النشر، وبعده عندما تحمست دار غراب لانجاز هذا العمل العظيم.
تناقشنا معًا فى كون الأدب مرآة البشر والأزمنة والتحولات السياسية الكبرى، وغيرت أفكاره وتصوراته زوايا تعاملى مع الابداع وطرق تذوقه. فهمت أكثر دون تعجل سر تفرد نجيب محفوظ وتفوقه على جميع كُتاب مصر والعالم العربي، بسمو روحه، وصدقه الإنساني. تدبرت أعمالا ساحرة وفذة لمبدعين كبار لم أكن قد عرفتهم حق المعرفة مثل عبد الرحمن منيف، وحنا مينا، وعبد الحكيم قاسم، ووعيت دوافع افتتانه بصلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين، والنفرى ونزعاته الصوفية.
رأيته مكتبة تسير على قدمين، تسأله عن أى مرجع فيجيب بدقة وتفصيل وترتيب كما لو كان يكتب دراسة علمية، وتستفسر منه عن أى شأن فى الثقافة العامة، فيرد باستمتاع حقيقى كونه يقوم بنقل المعرفة إلى الآخرين.
كان فذا واستثنائيا بما حمله من طاقة ابداع لا حدود لها وقدرة على انتاج الأفكار تلو الأفكار باخلاص مُصلح يتوق إلى الجمال. ومنه تعلمت تفكيك كُل نص، واستنطاق شخوصه، والقدرة على الإمساك بجوانب الجمال والسحر، وتلمس مواطن الضعف، وكيفية الاشتباك والاتفاق مع النص وصاحبه.
فى جلسات عديدة رأيت رجلا مُختلفًا، يقدم على نصيحة مًن يعرف ومًن لا يعرف متى استشاره أحدهم فى نص ابداعي. التمست مع ذلك تواضعًا غريبا يجعله يُكرر عند اختلافه مع محدثه عبارة تنم عن أدب جم يقول فيها إن رأيه، الذى هو يحتمل الصواب والخطأ كذا وكذا وكذا. علمنى النفور من "أفعل" التفضيل، وحرضنى على الفرار من التعصب لمبدع أو شخص مهما كانت محبته فى قلبي. كان مع ذلك لا يخضع لتيار جارف أو يُساير قطيعًا تحت أى ذريعة، وظل موقفه الناصع والواضح من كل سلطة مُستبدة بمثابة حجر الزاوية فى تقييمه للأزمنة. وربما كان هذا واضحًا جدا فى خصامه العتيد والقوى لنظام عبد الناصر، ليس فقط بما مارسه من سياسات بطش وقمع وقهر، وإنما لأنه كان مَن غرس البذرة الأولى، وأسس لبنيان الظُلم لتنجرف قيم الجمال والابداع والتنوير مع الحريات التى تعرضت للتجريف. كان كثيرا ما يذكر الحاكم القاهر الباطش بالمختلفين معه بعبارة نجيب محفوظ الأثيرة بأننا "أمام رجل مجنون وفى يده مسدس"، وهو من أشد الناس مقاومة للانبطاح الثقافى أمام السلطة، وروايته الأخيرة "يوميات سعد عباس" خير مُعبر عن ذلك.
وعلى مدى عشرين عاما عرفته فيها واقتربت منه ـ ربما بُحكم تقارب الأفكار والرؤى والإيمان بالجمال ـ لمست فيه فضيلة الانصاف بقدر زائد عن كل حد. وربما كانت كتبه ودراساته العديدة التى تجاوزت الثمانين مؤلفا، قد ضمت أكثر من نصفها عن ابداعات غيره ليكون المُنصف الأول بأدباء مصر روادا، وشيوخا، وكهولا، وشبابا، فقد قرأ كل الأجيال ودقق فى النصوص، وأنصف مًن يستحق الانصاف، لذا فجميع الأدباء فى مصر مدينون له بتوثيق ما دونوه وتنويره وتصنيفه. وإذا كانت وفاة الشاعر حافظ إبراهيم، والمعروف بالمراثى العظيمة للمبدعين والعظماء قد دفعت معاصره أمير الشعراء أحمد شوقى أن يرثيه ببيت شعر خالد يقول "قد كُنت أوثر أن تقول رثائي/ يا مُنصف الموتى من الأحياءِ"÷ فإن مصطفى بيومى عاش مُنصفا للموتى والأحياء معًا.
قبل يومين من رحيله، طافت فى رأسى أغنية تراثية قديمة كان الأستاذ مصطفى بيومى يحبها، وقد اختارها كخاتمة لإحدى رواياته تقول "يمامة بيضا، ومنين أجيبها / راحت يا عينى عند صاحبها"، وشعرت بأننى فى شوق شديد للقاءه. هاتفته وسمعت صوته واهنًا، وأخبرنى أن صحته تمام. وكررت استفساري، ليرد حامدا الله. سألته عن لقاء لازم، وقال بصوتٍ واهن"سنلتقي"، واتفقنا على السبت القادم فى الثامن من فبراير. وشعرت برضا عجيب، وسعادة غامرة، فقد مرت شهور طويلة على آخر لقاء. لكن يبدو أنه غيّر رأيه فجأة، ثُم غيّرعنوانه تماما، وغادر إلى موعد آخر، وإن ظل ساكنا فى قلبي، وقلب كُل إنسان عرفه أو قرأ كلماته. فكما قال "طوبى لمَن يموتون وهُم يكتبون".
المصدر: البوابة نيوز
كلمات دلالية: مصطفى بيومي الكاتب مصطفى بيومي نجیب محفوظ ما کان
إقرأ أيضاً:
فى وداع مصطفى بيومي
كُنت أراه كعصفور برى يُنقّر كل صباح فروع شائخة لشجرة عتيقة، بصبر وإناة ورضا، يرسم جمالاً ساحراً، وسحراً جميلاً.
مُصطفى بيومى الذى سبقنا إلى الضفة الأخرى كان مُبدعا فريداً، وإنساناً رائعاً، لا ينشغل سوى بالكتابة والتأمل، يتحاشى جلسات النميمة، ويعتزل شلل الثقافة مُكرسًا جل وقته لصناعة قيمة تبقى خالدة ونافعة لأجيال أخرى تأتى خلفنا، وفق سُنن الحياة.
أنتج الكاتب الموسوعى أكثر من ثمانين كتاباً تحكى لنا كُل شىء فى الأدب المصرى، شخوصا، وأعمالًا، وموضوعات، حتى تكاد تتعرف على التاريخ غير المدون للمصريين من خلال دراساته وكتبه القيمة. استأثر نجيب محفوظ وحده بكتب عديدة كتبها الراحل الجميل عنه لنتعرف منها عن رأيه فى كرة القدم، الأحزاب المصرية، التوجهات السياسية، الحكام، الموسيقى والطرب، العمل الوظيفى، هموم الناس، الدين والتدين، وغيرها.
عرفت الرجل إبان مشروعه العظيم الصادر فى سلسلة كتب صغيرة لرد الاعتبار لرواد الاستثمار قبل ثورة يوليو من أمثال السيد ياسين، وسمعان صيدناوى، ومحمود أبو الفتح، وروزاليوسف. خطفتنى الفكرة بتفردها، فتابعتها وأصررت على التعرف على المؤلف ومناقشته. كان مصطفى بيومى وقتها يعمل مستشارا ثقافيا للدكتور محمود محيى الدين، عندما كان وزيرا للإستثمار، وبدت لى فكرته الأساسية بأن مصر لديها تراث تاريخى عظيم من التعددية وحرية الاقتصاد والفكر قبيل ثورة يوليو، وأن هذا التراث قابل للبعث مرة أخرى.
لفت نظرى وقتها بساطة المؤلف وتواضعه وحرصه الشديد على القيمة والإتقان واهتمامه بالابداع، وتبادلنا الكتب وتصادقنا لنتشاور فيما نكتب، ونتحاور بشأن الأفكار والنصوص سعيا إلى الأجمل والأفضل. ومن هُنا قرأت مسودات معظم أعماله الابداعية قبل نشرها، وبالمثل قرأ أعمالى بمحبة واهتمام وصدق؟.
ورغم مرضه الذى طال ومعاناته التى امتدت لسنواته الأخيرة ظل ناصع البياض طيبة ونقاء، وحمل طاقة إبداع وكتابة رائعة لم تفتر أبدا. ورغم هموم، ومشكلات جمة، وأحزان وطنية ومجتمعية، ومحن وصعاب، واصل المقاومة بقلمه مُعتزا بكرامة المبدع الحقيقى، ومنتصرا بالاستغناء النقى.
انتصر مشروعه الفكرى والنقدى لقيم التسامح، والتعددية، وقبول الآخر، ورفض التدين الشكلى، المظهرى، الانتهازى، المُسيس، ونبذ الاستبداد السياسى، والفردية، واستعلاء الحكام على المحكومين، ولا يُمكن أن ننسى عبارته الأثيرة بأننا نعيش منذ ولدنا فى ظل حالة طوارئ لا تنقضى أبدا.
رأى أن جمال عبدالناصر، وزمنه، ورجاله، وسياساته أوقفوا صعود المجتمع المدنى المصرى، وردوه إلى عصور وسطى من نفاق السلطة، والانتهازية، والاتجار بالدين.
لم ينل مصطفى بيومى التكريم المستحق من مؤسسات الدولة، ولم يحظى الرجل بالمساندة والدعم المفترض من صروح الثقافة وكياناتها، وهو الذى مزج التاريخ بالأدب ليستقرئ لنا سمات الشخصية المصرية وتطورها من عصر إلى عصر. لم يُحقق الرجل ثروة مالية تفى بحياة هانئة ورعاية صحية جيدة وهو الذى جنت دور نشر عديدة عائدات ضخمة من توزيع مؤلفاته.
بدا الرجل راضياً بمقولة فولتير الشهيرة «لا تحزن إن لم تنل ما تستحق من تقدير.. فيكفيك أنك تستحق»، ليواصل إبداعاته مبتسماً وسعيداً بمحبة الناس واحترامهم.
وفى وداعه بكى المحبون، وترحموا عليه، وأعادوا نشر ما كتب. فما مات مَن كتب جميلًا.
والله أعلم
[email protected]