البوابة نيوز:
2025-02-11@07:09:11 GMT

روايتي.. مصطفى بيومي وأم كلثوم

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

أسمع أم كلثوم الآن: "وعدونا فسبقنا ظلنا". لا يصل إلى المعنى إلا من يغمض عينيه فيعانق لذة التحليق، وعندئذ يفهم ما الذى تعنيه عندما تقول: "والثوانى جمرات فى دمي". هذه صورة تشبه المعجزات، وتصنع لمن يفهمها لذة لا يصل إليها أصحاب المليارات. من يعشق ألحان السنباطى وزكريا والقصبجى لا يمكن أن تروقه ألحان عبد الوهاب لثومة.

السنباطى صالون كلاسيكى فخم، وزكريا يُسمع من المتربعين فوق الشلت فيحلقون، أما القصبجى العظيم، رق الحبيب تحديدا، فقد أضاعه حبه لأم كلثوم ورضاه أن يعيش فى ظلها منحنيا على عوده كأنه يشكو له العشق المستحيل.

هكذا يتذوق المثقف الراسخ ذو الذائقة الفنية الرفيعة، مصطفى بيومي، أم كلثوم.

ذات يوم خاطبنى العملاق بيومى قائلًا: "أم كلثوم فى حياتك موضوع رواية. حاولى أن تكتبيها". ترددت ثم استجبت لتكون انطباعاته الأولى "أم كلثوم تسير فى خط موازٍ لسيرتك الذاتية وللوطن معًا.. الاختفاء الجزئى لا يعنى الغياب..عبقرية ثومة فى قدرتها الفريدة على التعبير عن المفارقات المتعارضة.. التحقق والانكسار.. لكن التحقق هو الاستثناء قصير العمر.. ثورة الأب محطة مهمة.. فرويد أيضًا محطة لا تقل أهمية.. كلمات الخال تنبىء عن شخصية ممتدة.. المهم أن تكتبى بلا توقف.. المجد للكتابة.. ترتفع بنا إلى مقام الإلوهية.

الشهادتان.. الذاتية والموضوعية.. الرابط الأساسى هو حضور أم كلثوم كأنها القرين. سقوط العراق محطة محورية، وصعود أم كلثوم وهبوطها وثيق الصلة بالهم العام.. رائع. تاريخ بهاء الفرد يساوى تاريخ ومسيرة الوطن، وبينهما أم كلثوم. التحدى هنا هو: كيف توجد فى مناخ تطغى فيه العوامل السياسية والاقتصادية والاجتماعية؟. استخدمتِ تعبير "الناس فاض بيها"، فتذكرت للصبر حدود: أنا فاض بيا ومليت. ومع حديثك عن انتشار الإخوان فكرت فى الأغانى الدينية لأم كلثوم بتوجهها المختلف. الكتابة تحتاج إلى "صنعة"، وأهم ما فى الصنعة هو كيفية إخفائها.. وهذا هو التحدي".

وضعنى بيومى فى تحدٍ صعب جعلنى مضطرة لتجاوز نفسي، والتجاوز يعنى الخروج عن القطيع. يعقب بيومي: "فى الاختلاف عن القطيع إيجابيات وسلبيات، والسلبية الأكبر تتمثل فى غياب الرضا.. الغربة الروحية المزمنة محور مهم فى حياة البطلة الروائية، وأم كلثوم من الملاذات. التوحد الفنى بين الشخصية والوطن عامل مهم.. فكيف للوطن الضائع المتوتر المنقسم أن يعين أبناءه؟".

تتطور التجربة الكتابية فيلاحظ بيومي: أعتقد أنك تشعرين الآن بمعنى أن تكتبك الرواية وتكتبينها فى إطار جدلي. نعم. البرد فكرة والدفء فكرة والجسد فكرة، ولا شك أيضًا فى بؤس العقلية العربية. الماضى الذى تصنعه أم كلثوم هو المستقبل على نحو ما؛ مستقبل مراودة الدفء والمعنى هروبًا من تعاسة الحاضر. تجميع المشاهد المكتوبة وإعادة ترتيبها وملء بعض ثغراتها سيقترب بكِ من الرواية التى تتعانق مع السيرة الذاتية والإيقاع السينمائي، أما الموسيقى التصويرية فمن نصيب أم كلثوم. الجولة مع المدير والعودة أقرب إلى المشهد السينمائى المكثف، وارتباط الغثيان بالطريق وتعرجاته فكرة جميلة تتوافق مع جملة العالم المقدم فى الفقرات السابقة.

فاجأنى "الروائى المتقاعد" كما يسمى مصطفى بيومى نفسه: سنة ١٩٩٨ كتبت رواية "كتاب الأغاني" ولم أفكر فى نشرها. عدت إليها منذ أسبوع واكتشفت أنها تجربة مختلفة. هل تعرفين لماذا؟ لأنك بدأتِ الكتابة بنية الحديث عن أم كلثوم.. نفس الهاجس الذى كان يسكنني، والغريب أننى أنهيت الرواية قبل يوم واحد من بلوغى سن الأربعين.. حكم أربعينية كما تقولين، والعودة إلى غرفة الذكريات. فسألته "هل هى سيرة ذاتية؟". فرد: "نعم.. معظم الروايات التى كتبتها أقرب إلى السيرة الذاتية.. رواية أم كلثوم انتهت بشكل أولي.. وأعايش رواية أستمتع بها جدا "مذكرات قاتل".. سيرة ذاتية أيضا.. ففى أعماق كل منا قاتل لا يجد الفرصة".

الرواية التى يكتبها مصطفى بيومى محاولة للإجابة عن السؤال. ثومة تسكن الكثيرين، وتمثل خطًا موازيًا لحياتهم. الأمور نسبية بطبيعة الحال، ولا حقيقة مطلقة، لكن على الصعيد الشخصى لم يحب بيومى شخصية عامة مثل أم كلثوم ونجيب محفوظ. بهما ومعهما يصالح الزمن. أم كلثوم تحظى باهتمام أكبر من الجميع، لأن براعتها الفنية عابرة للسياسة والفكر والعقائد الدينية.. والأجيال أيضًا.

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: الكاتب مصطفى بيومي الكاتب والروائي الكبير مصطفى بيومي أم کلثوم

إقرأ أيضاً:

مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق أنصف جيل الرواد ورد اعتبار المنسيين ورسم خرائط لقراءة الإبداع فى مئة عام

 لم تصدمنى المُباغتة المُرة. كُنت أنتظرها بتوجس مَن يُدرك مآلات المبدعين الإستثنائيين. مَن يتحمل كُل هذا القُبح؟ كُل ذاك الوجع؟ الأحلام المُنكفئة، والأمانى البسيطة المُنكسرة، والإحباطات الوطنية، والصدمات فى البشر سلوكا وعقولا ومشاعر؟ مًن يمتلك رهف الحس، فلا ينفجر ضجرًا من تكالب الجراد على حقول الورد؟ من يسكُن ويصبر ويتقبل تمدد ميليشيات الظلام وانحسار الأوطان!

كُنت على يقين أنَّ إنسانا مُختلفا رُقيًا وخُلقا، ومُبدعا مهموما بالناس، ومُفكرا مُنشغلا بالقادم، وقلبا قابضًا على الخير مثل الأستاذ مصطفى بيومي، لا يُمكن أن يبقى صامدًا فى هذا الزمن بأوجاعه وهزائمه. فالانتصار الوحيد على القبح هو مُخاصمته، الفرار منه، الافلات من حياة كالموت، بل أقسى. 

لذا لم تذبحنى عبارة صديقتنا حنان أبو الضياء عبر الهاتف تسألنى فجأة، إن كُنت أعلم أن الأستاذ مصطفى بيومى رحل قبل دقائق. لم أجب، وإن كان عقلى الباطن يُكرر فى تفهم "أعلم وأتوقع وأترقب" فمثله يُراهن على الانتصار دوما، وينتصر، وانتصاره الوحيد فى الوقت الآنى هو فى النجاة من حياة ماسخة، مُكررة المشاهد، بليدة الحس، مليئة بالأشرار والخبثاء والقتلة السريين. 

استرجعت عشرات العبارات المُرة التى صاغها خلال السنوات الأخيرة بإزميل نحات مُتقن وهو يُكرر سعادة الموتى وحسرةالأحياء، فمن مات نجا، ومن رحل ليس له ولا عليه فقد فاز. يقول مثلا "الحياة لم تعد تروق لى / أراها ماسخة بلا مذاق./ على حافة النهاية أبوح لكم بخلاصة الحكمة:الموت وحده راحة من كل شر".

ويكتب أيضا: "فى عطلة نهاية الإسبوع يغادر الموتى قبورهم/ لكنهم يعودون سريعًا/ فالحياة خارجها لا تُحتمل".

وهو لا يخاف الموت ولا يفر منه، لأنه بيقين يُدرك كُنه الحياة وخلاصاتها، فيذكرنا قائلا "احرص على الموت/ أو لا تحرص على الموت/ ستموت).

طالت أحزان المُبدع الحالم مع انكسارات شتى، فرأى وطنًا يُكرر خطاياه، وبشرًا يسايرون القطيع، ومُجتمعا يُغلق كل نوافذه، وأمانى تتبدد كل يوم. يكتب حزينًا: "يزورنى النفرى بلا موعد/ أرى فى عينيه دموعًا/ يهمس فى خجل معهود: كم أنتم جديرون بالشفقة يا ولدي/ تعيشون فى سيرك يُسمى وطنًا".

ربما باغته الشعور الذى يزور كلأ مُبدع مرات ومرات رافعًا سيف التساؤل الموجع عن جدوى الكتابة فى مُجتمعات كسيحة قابعة فى كهوف التعصب والآحادية ومخاصمة العلم والفن، فجرّب الإنزواء، والزُهد، والترفع، والتصق بحروفه ونصوصه وتأملاته، مكررا أنه ليس أفضل من الشعور بالرضا بكل نعمة وأى نعمة إلهية. يكتب عن ذلك "عندما يشتد بك الظمأ/ اشرب عصير الرضا مع مولانا النفري". 

وهذا ما كان يُكرره لى بايمان خالص خلال لحظات البوح التى كانت تعزلنا عن أوجاعنا المُحيطة، فكل ما يتمناه هو فنجان قهوة، فى نهار شتوي، يسمع فيه الست تُشدو، أو كوب شاى فى ليلة مُقمرة يشاهد فيها فيلما عظيما أو يقرأ رواية ماتعة. كان كُل ما يحلم به هو أن يُمسك بلحظات جمال وصفاء ونقاء، فقد عاش عُمره يكره الحروب الوحشية، وينفر من أحزان البشر، ويستاء من البطولات الكاذبة، وينزعج من وصلات النفاق، وادعاءات التدين الشكلي، ويأنس بالمطر الشتوى وهو يغسل خطايا البشر وعكارات الحياة.

كُنت محظوظا بمشاركته لى أفكار مشاريعه التالية، واحدا تلو آخر. كان يُفكر فى العمل القادم قبل أن يخُط حرفًا منه ويُحدثنى عنه بحب ويقين بأنه سيرى النور. سمعت منه عن روايته البديعة "أمير المؤمنين" وهى محض أفكار مُستنبئا مُبكرًا بقدوم أوصياء السماء وهيمنتهم على الناس وعصفهم بكل جميل. عرفت منه خطوط مشروعه الفذ عن المسكوت عنه فى أدب نجيب محفوظ، وشخصيات روايات نجيب محفوظ، وشخصيات يحيى حقي، ويوسف إدريس، وعلاء الديب وهى تتأرجح فى عقله. أنبأنى عن حلمه الجميل برواية العمر "يوميات سعد عباس" التى تتجاوز الألف صفحة يُقدم فيها خلاصات مثقف مستقل معنى بالقيمة الجمالية والمعرفة والوسطية بعيدا عن السلطة والنفوذ والانتهازية السائدة، وعشنا فرح القراءة قبل النشر، وبعده عندما تحمست دار غراب لانجاز هذا العمل العظيم.

تناقشنا معًا فى كون الأدب مرآة البشر والأزمنة والتحولات السياسية الكبرى، وغيرت أفكاره وتصوراته زوايا تعاملى مع الابداع وطرق تذوقه. فهمت أكثر دون تعجل سر تفرد نجيب محفوظ وتفوقه على جميع كُتاب مصر والعالم العربي، بسمو روحه، وصدقه الإنساني. تدبرت أعمالا ساحرة وفذة لمبدعين كبار لم أكن قد عرفتهم حق المعرفة مثل عبد الرحمن منيف، وحنا مينا، وعبد الحكيم قاسم، ووعيت دوافع افتتانه بصلاح عبد الصبور، وصلاح جاهين، والنفرى ونزعاته الصوفية.

رأيته مكتبة تسير على قدمين، تسأله عن أى مرجع فيجيب بدقة وتفصيل وترتيب كما لو كان يكتب دراسة علمية، وتستفسر منه عن أى شأن فى الثقافة العامة، فيرد باستمتاع حقيقى كونه يقوم بنقل المعرفة إلى الآخرين. 

كان فذا واستثنائيا بما حمله من طاقة ابداع لا حدود لها وقدرة على انتاج الأفكار تلو الأفكار باخلاص مُصلح يتوق إلى الجمال. ومنه تعلمت تفكيك كُل نص، واستنطاق شخوصه، والقدرة على الإمساك بجوانب الجمال والسحر، وتلمس مواطن الضعف، وكيفية الاشتباك والاتفاق مع النص وصاحبه. 

فى جلسات عديدة رأيت رجلا مُختلفًا، يقدم على نصيحة مًن يعرف ومًن لا يعرف متى استشاره أحدهم فى نص ابداعي. التمست مع ذلك تواضعًا غريبا يجعله يُكرر عند اختلافه مع محدثه عبارة تنم عن أدب جم يقول فيها إن رأيه، الذى هو يحتمل الصواب والخطأ كذا وكذا وكذا. علمنى النفور من "أفعل" التفضيل، وحرضنى على الفرار من التعصب لمبدع أو شخص مهما كانت محبته فى قلبي. كان مع ذلك لا يخضع لتيار جارف أو يُساير قطيعًا تحت أى ذريعة، وظل موقفه الناصع والواضح من كل سلطة مُستبدة بمثابة حجر الزاوية فى تقييمه للأزمنة. وربما كان هذا واضحًا جدا فى خصامه العتيد والقوى لنظام عبد الناصر، ليس فقط بما مارسه من سياسات بطش وقمع وقهر، وإنما لأنه كان مَن غرس البذرة الأولى، وأسس لبنيان الظُلم لتنجرف قيم الجمال والابداع والتنوير مع الحريات التى تعرضت للتجريف. كان كثيرا ما يذكر الحاكم القاهر الباطش بالمختلفين معه بعبارة نجيب محفوظ الأثيرة بأننا "أمام رجل مجنون وفى يده مسدس"، وهو من أشد الناس مقاومة للانبطاح الثقافى أمام السلطة، وروايته الأخيرة "يوميات سعد عباس" خير مُعبر عن ذلك. 

وعلى مدى عشرين عاما عرفته فيها واقتربت منه ـ ربما بُحكم تقارب الأفكار والرؤى والإيمان بالجمال ـ لمست فيه فضيلة الانصاف بقدر زائد عن كل حد. وربما كانت كتبه ودراساته العديدة التى تجاوزت الثمانين مؤلفا، قد ضمت أكثر من نصفها عن ابداعات غيره ليكون المُنصف الأول بأدباء مصر روادا، وشيوخا، وكهولا، وشبابا، فقد قرأ كل الأجيال ودقق فى النصوص، وأنصف مًن يستحق الانصاف، لذا فجميع الأدباء فى مصر مدينون له بتوثيق ما دونوه وتنويره وتصنيفه. وإذا كانت وفاة الشاعر حافظ إبراهيم، والمعروف بالمراثى العظيمة للمبدعين والعظماء قد دفعت معاصره أمير الشعراء أحمد شوقى أن يرثيه ببيت شعر خالد يقول "قد كُنت أوثر أن تقول رثائي/ يا مُنصف الموتى من الأحياءِ"÷ فإن مصطفى بيومى عاش مُنصفا للموتى والأحياء معًا.

قبل يومين من رحيله، طافت فى رأسى أغنية تراثية قديمة كان الأستاذ مصطفى بيومى يحبها، وقد اختارها كخاتمة لإحدى رواياته تقول "يمامة بيضا، ومنين أجيبها / راحت يا عينى عند صاحبها"، وشعرت بأننى فى شوق شديد للقاءه. هاتفته وسمعت صوته واهنًا، وأخبرنى أن صحته تمام. وكررت استفساري، ليرد حامدا الله. سألته عن لقاء لازم، وقال بصوتٍ واهن"سنلتقي"، واتفقنا على السبت القادم فى الثامن من فبراير. وشعرت برضا عجيب، وسعادة غامرة، فقد مرت شهور طويلة على آخر لقاء. لكن يبدو أنه غيّر رأيه فجأة، ثُم غيّرعنوانه تماما، وغادر إلى موعد آخر، وإن ظل ساكنا فى قلبي، وقلب كُل إنسان عرفه أو قرأ كلماته. فكما قال "طوبى لمَن يموتون وهُم يكتبون".

مقالات مشابهة

  • عبد الرحيم على يكتب: مصطفى بيومي وشغف الذاكرة
  • مصطفي بيومي.. الرجل الذي عاش بالكلمات ومات وحيدًا
  • محمود حامد يكتب:  مصطفى بيومى.. الحاضر دومًا رغم الرحيل
  • مصطفى بيومى.. المتناغم بين الحكمة والعفوية.. المتخلى عن شهوة الاقتناء
  • مصطفي بيومي.. الاستثنائى الجميل الذى ندين له كُتابًا وقُرًاء ومُثقفين
  • مصطفى بيومي.. عمود الإبداع والنقد
  • مصطفى بيومي.. ناقد أنصف «المسكوت عنه فى الأدب والحياة»
  • حوار أخير مع مصطفى بيومي
  • عادل عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي رحيل بالجسد وخلود بالذكرى