تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

فقيرة تلك اللغة التى لا تٌنبت صبارًا أو ريحانًا على قلوب تآلفت، تحابت، انصهرت واندمجت حتى صارت قلبًا واحدًا ثم تفتتت على صخرة يسمونها سنة الحياة، مزقها جبروت الذى يطلقون عليه "الحقيقة الوحيدة" فى هذه الدنيا! أحببت الأستاذ مصطفى بيومى كما لم أحب أحدًا بعد والدي، واستمعت إليه بشغف، تتلمذت على يديه دون أن يقصد هو ذلك أبدًا.

 أستمع إليه عبر الهاتف فأدون ما يقول بالحرف، اجتمع معه فى صحبة دون ثالث، يشاطرنا المحبة والأنس والسمر، فتتحول ذاكرتى الهشة إلى حافظة واعية لكل كلمة نبس بها أستاذي، فأعود إلى بيتى ناثرًا كل ما رٌزقت به من اللآلئ والنفائس على صفحات أجندتى الأثيرة فلا تضيع هذه الكنوز أبدًا.

الأستاذ مصطفى بيومى هو الإنسان البسيط؛ "إنسان" بكل ما تحمله هذه الكلمة من معان عظيمة وسمو جعل الله الملائكة تسجد له! إنسان لا حد لوضوحه، لا نهاية لعطائه، أديب عشق الكتابة، موسوعى أدمن القراءة، ناقد يزن حروفه بميزان الذهب، جاد حد الصرامة، متواضع دون ابتذال، اعتاد السكينة، يعشق الجمال، معطاء، ربما يجور على نفسه وحقه كثيرًا!

يقرأ ويكتب فى خلوته المقدسة، ناسكًا متعبدًا، لا يروم إلا الصفاء والهدوء، لا يرجو من دنياه إلا أن يظل ممسكًا بقلمه، ليكتب حتى يلقى ربه! الكتابة شغفه، عشقه الأول والأخير، لا يسعى إلى مجد أو شهرة، يحترف الصمت، ينصت باهتمام، ينصح بإخلاص، لا يريد جزاءً ولا شكورًا.

لا أستطيع أن أضع "كان" فى جملة على شرفها يتربع الأستاذ هادئًا مطمئنًا. فليس إنصافًا أن نتجاوز فى حق مَن أعطى كل سنوات عمره للفكر والإبداع والثقافة والوطن دون انتظار لمردود أو مكاسب أبدًا فنعده من "الأموات" وننكر خلوده!

"ولا تحسبن الذين قتلوا فى سبيل الله أمواتًا بل أحياء عند ربهم يرزقون".. وأنا "على حسن" أشهد الله على أن هذا الإنسان العظيم جاهد فى سبيل الكلمة، بذل جٌل ماله من أجل الكتاب والثقافة، عمل بكل طاقته من أجل أمة يؤمن إيمانًا راسخًا بأنها "الأمة المصرية" تستحق كل ما هو أفضل وأعظم مما هى فيه.

لم يكتف العملاق مصطفى بيومى بطاقاته الجبارة فى المثابرة والمداومة المذهلة على القراءة والكتابة فى صومعته، فإذا به يتجاوز طاقته هذه إلى الحد الذى لم يحتمل بنيانه الضعيف وجسده الضئيل وعزوفه عن الطعام لساعات طويله، واكتفائه بالتدخين والكافايين من شاى وقهوة فانهار هذا الجسد ولم يصمد طويلًا أمام أحلام جبارة ورغبات مهولة يريدهما صاحبه الجبار، ويطوق إلى تحقيقهما!

إنه الأستاذ مصطفى بيومي؛ الذى كتب الله لى أن أصبح أحد تلاميذه المخلصين، وهو ينكر أن له تلاميذ!

ليس لأنه لم يكن أستاذًا لكل الذين اقتربوا منه، ينهلون من علمه وأدبه وثقافته الموسوعية، وإنما لتواضعه، حد إنكاره أنه أستاذ، له حواريون!

ينكر أستاذيته فيقول: (.... ليس لى تلاميذ أبدًا. لم أفكر يومًا فى هذا، بل ليست مطروحة فى مخيلتى نهائيًا، بل العكس صحيح، لو أن هناك علاقة تجمع بينى وبين شخص، يصغرنى بثلاثين عامًا فى المجال الثقافي، فإنى أتعلم منه، التعليم المتبادل هو الأصح والأهم. إذا تفوقت على هؤلاء الشباب بالقراءة والثقافة بحكم السن، فإن هؤلاء الصغار على وعى عظيم بإيقاع الحياة، لأنهم الأصغر سنًا، والأقدر على التكيف، وهى ميزة مهمة، ربما لا نستفيد منها. إن فكرة الأستاذية فى المجال الأدبى أو النقدي، غير جيدة؛ ربما تكون مقبولة فى المجال الأكاديمي، حين تناقش رسالة الماجستير أو الدكتوراة مع أستاذك، فتتأثر به وبفكره، مثل شكرى عياد، لويس عوض، عز الدين إسماعيل، عبد المحسن طه بدر، كل هذه الأسماء العظيمة، تستطيع بحكم وظيفتها الأكاديمية، أن تمارس الأستاذية على طلابها داخل الجامعة، لكن نجيب محفوظ مثلًا، وهو مَن هو فى الأدب والرواية، هل له تلاميذ؟ الحقيقة أن نجيب محفوظ أب كبير، والحقيقة أيضًا أنه يُخَرِّج لنا أبناء كثر، لكنهم مختلفون عنه، وهذا أعظم ما فيه. الخراب العظيم حين يحب الابن والده فيقلده؛ الأستاذ يعلم تلاميذه منهجًا، أساسه هو أنك لابد أن تكون مختلفًا عني. هذه هى تجربتى مع الأستاذ نجيب محفوظ، الذى أحبه جدًا، ولكن لم أفكر لحظة واحدة فى تقليده.).

هذا هو فكر الأستاذ؛ الملتزم دائمًا بالإنسان، والمهموم بقيمته وإعلاء شأنه، لم يكن يومًا ملتزمًا بنظرية سياسية، أو قضية دينية، أو مذهب أخلاقي، أو شعارات، إن التزامه الوحيد ككاتب هو التزامه بالإنسان، ويؤمن أشد الإيمان بأن الإنسان مخلوق عظيم، فى قوته وضعفه، جدير بالتعاطف أيًا كان وضعه.

تكمن عظمة الإنسان فى هذا المزيج الفذ، خليط القوة والضعف، فلا يوجد بشر معقمون، ماكينة ألمانية تمشى على قدمين دون خطأ أو عيب، فإذا أردت هذه النوعية من البشر، فأنت تسطح الشخصية الإنسانية!

هذا الأديب العاشق للكتابة، هو فى الحقيقة عاشق للتطهر؛ يرى الأزمات التى يحياها تفجر مجالًا للكتابة الجيدة، هذه الكتابات "الجيدة" تُعد نوعًا من العلاجات زهيدة الثمن. اندماج الكاتب فى عمل أدبى جديد، هو نوع من التطهر، يحدث بالاندماج والكتابة. ربما هذه الكتابة لن تأتى بالمال والشهرة، لكنها تحدث إشباعًا لا مثيل له، يجعل الكاتب متوافقًا مع الحياة، قادرًا على المواصلة. التطهر الحادث بالكتابة، هو حائط صد ضد الأمراض النفسية، ونعمة عظيمة منحها الله لعدد قليل جدًا من الناس، هم الكتاب الحقيقيون، أما هؤلاء الذين لا يكتبون ولا يقرأون، هم مشغولون دائمًا بما يتعرضون له من أزمات، وشعور بالضعف وعدم القدرة على الصمود، على التأثير، على الاستيعاب والتحقق والاستمتاع بالحياة.

كيف سيقضى راهب الفكر والأدب حياته السرمدية دون أن يمارس الشيء الوحيد الذى عشقه فى حياته؟ كيف سيصبر مصطفى بيومى على فراق كتابه وقلمه؟ كيف ستمر عليه الساعات والأيام دون أن يعيد قراءة "المسيح يصلب من جديد" و"الإخوة الأعداء"؟.. أنا على يقين أن اللحظة الأولى للأستاذ مصطفى بيومى فى عالمه الجديد الرحب السماوي، سوف يفتش عن أحبابه وأصدقائه، سوف ينادى على كازانتزاكيس، نجيب محفوظ، تشيخوف، يحيى حقي، النفري، يوسف إدريس، البحتري، صلاح جاهين. سوف يعيش معهم فى صومعتهم، جنتهم، عالمهم السحري، سوف يقدمون إليه نخب الترحيب وسلامة الوصول، والانعتاق من عالم دنيوى أنوى مشوه!

أكاد أجزم بأن هؤلاء الأنبياء الأفذاذ يقودهم "أبو العلاء المعري" سوف يرقصون رقصة "زوربا" ترحيبًا بصديق لهم طال انتظارهم له. إنه حفل استقبال أسطورى لهذا الإنسان الوديع الفذ "مصطفى بيومي"، فى أجواء شتوية يعشقها الأستاذ، وكم تمنى أن يكون العام كله "ديسمبر".

أرى الآن بعينى الدامعتين "الأستاذ" بين أيديهم مرحبين به، يسألونه: "ماذا تحب أيها الصديق الذى طال انتظارنا له وتمنينا قدومه؟".

وها أنا أسمع "الأستاذ" يجيبهم فى خجله المعتاد قائلًا: لنبدأ بسورة "الجن" بصوت صديقى الأثير الشيخ "محمد رفعت" ثم نستمع إلى طقطوقة "يمامة بيضا" التى وضع فيها صديقى المصرى اليهودى "داوود حسني" كل عصير الشجن الممكن تخيله، أسمعها بصوته إن أمكن، أو بصوت الست "منيرة المهدية" أو لصاحب الصوت الأجش الصادق الشيخ "زكريا أحمد".. فأنا أحب "يمامة بيضا" لأنها تعبر عن الفقد الجميل، وأنا تركت فى الدنيا أناس أحببتهم وأحبوني، أعتقد أنهم مثلكم يا رفاق، يشتاقون إليً كما كنتم تشتاقون إليً وزيادة!. 

المصدر: البوابة نيوز

كلمات دلالية: مصطفى بيومي

إقرأ أيضاً:

منطقة الإسكندرية الأزهرية تكرم الفائزين والمشاركين بمشروع تحدي القراءة

كرم الدكتور عبدالعزيز أبو خزيمة رئيس الإدارة المركزية لمنطقة الإسكندرية الأزهرية الطلاب الفائزين والمشاركين في مشروع "تحدي القراءة العربي" للعام الدراسي 2024 / 2025 ، وذلك خلال حفل نظمته إدارة الكتب والمكتبات. 

كما كرم فضيلته أعضاء لجنة التحكيم التي شاركت في المسابقة والتي تكونت من شعبان مرسي موجه اللغة العربية بإدارة وسط والشيخ قدري حلمي، والشيخ خليفة الدهراوي، والدكتور أحمد طه. 

وشهد الحفل تكريم الطلاب الفايزين بالمسابقة وأخصائي المكتبة والعاملين بإدارة المكتبات، تقديرًا لجهودهم في إنجاح المسابقة. 

وأشاد " أبوخزيمة" بجهود الطلاب والمعلمين وأخصائي المكتبة في تعزيز ثقافة القراءة، مؤكدًا أن هذه المبادرات تسهم في بناء جيل واعٍ ومثقف، قادر على مواجهة تحديات المستقبل.

تجدر الإشارة إلى أن الطلاب الفائزين على مستوى المنطقة هذا هم: يوسف محمود أحمد حماد من معهد بنين أبي العيون ، على مستوى المرحلة الإعدادية والثانوية بنين، الطالب صهيب شعبان عبدالكريم، معهد سموحه النموذجي الابتدائي، على مستوى المرحلة الابتدائية الطالبة رحمة إبراهيم السيد إبراهيم، معهد فتيات سموحه النموذجي، على مستوى المرحلة الإعدادية والثانوية فتيات.

مقالات مشابهة

  • الفاشر.. او على السودان السلام
  • العملاق الآسيوي يحاول الظهور كشريك موثوق.. هل سيكسر شوكة أمريكا؟
  • اتحاد القيصر ينظم لقاء أدبي عربي حول الكتابة الإبداعية الخاطرة نموذجا وأسس التحكيم
  • عودة العملاق.. لماذا تخاف أميركا وأوروبا من إعادة تسليح ألمانيا؟
  • منطقة الإسكندرية الأزهرية تكرم الفائزين والمشاركين بمشروع تحدي القراءة
  • استثمار المآسي !
  • استحداث محافظة حلبجة وقانون التربية.. تفاصيل جلسة مجلس النواب غداً
  • هل ثواب قراءة القرآن من الهاتف أقل من المصحف الورقي.. تعرف على خلاف العلماء
  • عضو القومي لحقوق الإنسان: الألقاب تُمنح بميزان الجدية والتفاني في خدمة مصر وليس بالأموال
  • مخرج فيلم سيكو سيكو: التحضير استغرق عامين من الكتابة والتنفيذ