في مثل هذا اليوم، يُشرق علينا ذكرى ميلاد أحد أبرز العقول التي أنجبتها مصر، العالم الجليل والمفكر الموسوعي جمال حمدان، الذي ترك بصمةً لا تُنسى في عالم الفكر الجغرافي والاستراتيجي. إنه الرجل الذي أدرك أن الجغرافيا ليست مجرد خرائط وأرقام، بل هي تاريخ وحضارة وصراع وجود، وهي الروح التي تسري في عروق الأمم.

وُلد جمال حمدان في 4 فبراير 1928، في قرية "ناي" بمحافظة القليوبية، لتبدأ رحلة عقلٍ شغوف بالمعرفة، وعينٍ ترى ما وراء الظواهر. كان حمدان نموذجًا للعالم الذي يجمع بين الدقة العلمية والرؤية الفلسفية، فجعل من الجغرافيا علمًا حيًا يتنفس ويتفاعل مع التاريخ والسياسة والثقافة.

إذا كان هناك من أعطى لمصر هويتها الجغرافية والتاريخية بشكلٍ عميق، فهو جمال حمدان. في كتابه الشهير "شخصية مصر: دراسة في عبقرية المكان"، قدم حمدان تحليلًا استثنائيًا لشخصية مصر، مؤكدًا أن مصر ليست مجرد قطعة أرض، بل هي كيان حي يتفاعل مع محيطه. لقد رأى في نهر النيل شريان الحياة، وفي الصحراء درعًا واقيًا، وفي الموقع الاستراتيجي جسرًا بين الشرق والغرب.

لم يكن حمدان مجرد عالم جغرافي، بل كان فيلسوفًا يرى في الجغرافيا مرآةً تعكس روح الشعوب. لقد أدرك أن مصر هي "هبة النيل"، لكنها أيضًا هبة موقعها الفريد وتاريخها العريق. كانت رؤيته للهوية المصرية رؤيةً شاملة، تجمع بين الماضي والحاضر، وتستشرف المستقبل.

المفكر الاستراتيجي

لم تكن كتابات جمال حمدان مجرد أبحاث أكاديمية، بل كانت دراسات استراتيجية تُقدم رؤىً عميقة لمستقبل مصر والعالم العربي. في كتابه "استراتيجية الاستعمار والتحرير"، كشف حمدان عن آليات الاستعمار الحديث وأدواته، ودعا إلى ضرورة التحرر الفكري قبل التحرر السياسي. كان يؤمن بأن المعرفة هي السلاح الأقوى في مواجهة التحديات.

لقد تنبأ حمدان بتحولات العالم قبل أن تحدث، ورأى في العولمة خطرًا على الهويات الوطنية، لكنه أيضًا رأى فيها فرصةً للتفاعل الحضاري إذا ما أُحسن استغلالها. كانت أفكاره استباقية، تجمع بين الحذر من المخاطر والتفاؤل بإمكانيات التغيير.

*إرث جمال حمدان: نورٌ يُضيء الطريق*

رحل جمال حمدان جسديًا في 17 أبريل 1993، لكن أفكاره وإرثه الفكري ما زالا يُضيئان طريق الأجيال الجديدة. لقد كان رجلًا متواضعًا، عاش بعيدًا عن الأضواء، لكنه ترك خلفه كنزًا من المعرفة لا يُقدّر بثمن.

في ذكرى نستذكر جمال حمدان ليس فقط كعالم جغرافي، بل كرمزٍ للعقل المصري الحر الذي يُدرك قيمة الأرض والتاريخ، ويدعو إلى التفكير النقدي والتحرر من قيود التبعية الفكرية. لقد كان حمدان صوتًا للهوية المصرية في زمنٍ كادت تُغيب فيه الأصوات الحقيقية.

إننا في ذكرى ميلاد جمال حمدان، نحيي ذكرى رجلٍ جعل من الجغرافيا فلسفةً للحياة، ومن المعرفة سلاحًا للتحرر. لقد كان بحقٍّ "عبقري المكان"، الذي أدرك أن الأرض ليست مجرد تراب، بل هي تاريخ وحضارة وروح. فلتظل أفكاره نبراسًا يُضيء طريقنا نحو المستقبل.

تحيةً إلى روح جمال حمدان، عبقري مصر وفيلسوف الجغرافيا.

المصدر: صدى البلد

كلمات دلالية: محافظة القليوبية شخصية مصر جمال حمدان المزيد جمال حمدان

إقرأ أيضاً:

في ذكرى رحيل الأنبا بولا.. قديس البرية الذي يحمل أسرارًا إلهية.. ورجال الدين يستذكرون عبقريته الروحية

تابع أحدث الأخبار عبر تطبيق

في إحياء ذكرى القديس الأنبا بولا، أول نسّاك البرية، سلّط رجال الدين المسيحي ضوءًا جديدًا على سيرته الغامضة التي تثير الدهشة حتى اليوم. 

فبينما كشف الأنبا أنطونيوس عن رؤية سماوية تربط بين صلوات القديس وإنقاذ العالم من الجفاف، أشار البابا شنودة الثالث إلى أن حياة الأنبا بولا "مثل قدس الأقداس" الذي لا يُكشف سوى عن إطاره الخارجي. تصريحات تأتي في سياق احتفالات كنيستَي القديسة مريم والقديس يوسف النجاري بملوي، حيث يُعتبر الأنبا بولا "حبيبًا وشفيعًا" لأبناء الإيبارشية.

وفقًا للأب بافلي جابر، كاهن كنيسة القديسة مريم والقديس يوسف النجاري بملوي، فإن الأنبا أنطونيوس نقل روايةً فريدة عن القديس الأنبا بولا، مفادها أن "صوتًا سماويًا أعلن أن في البرية إنسانًا لا تستحق الدنيا وطأة قدميه، وأن صلواته كانت سببًا في رفع الجفاف وإنزال المطر". هذه الرواية تُضاف إلى الأساطير الروحية التي حيكت حول حياة النسّاك الأوائل، الذين تحوّلت صلواتهم وفق المعتقدات  إلى جسر بين الأرض والسماء.  

من جهة أخرى، استذكر البابا شنودة الثالث – في تصريح سابق – عمق الغموض الذي يحيط بالأنبا بولا، قائلًا: "ما نعرفه عنه هو الإطار الخارجي لصورته، أما داخله فهو قدس أقداس لا يعلمه أحد"، في إشارة إلى أن حياة الزهد والتأمل التي عاشها القديس تحمل طبقات من الأسرار الإلهية التي تتجاوز إدراك البشر.

يُعتبر الأنبا بولا (المعروف بـ "أول السواح") أحد رموز التصوف المسيحي في القرن الثالث الميلادي، حيث عاش في عزلة تامة بصحراء مصر الشرقية لعقود، وفق الروايات الكنسية. وتُروى عنه معجزاتٌ ربطت بين تقشفه وبين تدخلات إلهية، كإنهاء المجاعات أو شفاء الأمراض، ما جعل الكنيسة تطلق عليه لقب "بركة الصحراء".  

اليوم، تُعيد هذه التصريحات إحياء الجدل اللاهوتي حول دور "الصلاة السرية" في تغيير الأقدار، وكيف أن حياة القديسين – رغم غيابها عن الأضواء – قد تُحدث تأثيرات كونية، وفق المعتقدات الدينية.

في ختام حديثه، وجّه الأب بافلي جابر تحيةً شخصية للأنبا بولا قائلًا: "حبيبي وشفيعي وبركة الكبير، إني أخذ اسمك العظيم"، معبرًا عن ارتباط أبناء الكنيسة برمزية هذا القديس الذي ما زال – بعد قرون – يُذكّر العالم بأن البرية قد تخلُق من الظاهر بسيطًا ما هو أعظم من كل مرئي.

مقالات مشابهة

  • في ذكرى ميلاد ماري منيب.. تعرف على محطات حياتها وقصة إشهار إسلامها
  • الجزء الاكبر من مكونات تقدم الذي كان يؤثر علي قراراتها ومواقفها مجرد دعم سريع
  • مجلس المقاومة الشعبية بتعز يدعو لمسيرة جماهيرية صباح غدٍ الثلاثاء لإحياء ذكرى ثورة 11 فبراير
  • خالد عبدالرحيم يكتب: مصطفى بيومي.. حين تنطفئ الشموع ويبقى النور
  • مجلس المقاومة الشعبية بتعز يدعو لمسيرة جماهيرية صباح غد الثلاثاء لإحياء ذكرى فبراير
  • حفل إضافي بالمتحف الكبير في ذكرى مرور 50 عاما على رحيل أم كلثوم.. تفاصيل
  • في ذكرى رحيل الأنبا بولا.. قديس البرية الذي يحمل أسرارًا إلهية.. ورجال الدين يستذكرون عبقريته الروحية
  • حماس: النصر المطلق الذي يبحث عنه نتنياهو وجيشه مجرد أوهام
  • في ذكرى ميلاده.. كيف خدع سمير الإسكندراني جهاز الموساد الإسرائيلي؟