لجريدة عمان:
2025-04-14@23:59:46 GMT

في «البيت» الذي ينكأ الجراحات القديمة

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

تحدثتُ فـي مقال سابق عن مطار زنجبار الأنيق والنظيف رغم صغر مساحته. كان وصولنا إليه فـي الساعة الواحدة والربع ظهرًا بتوقيت مسقط. وفـي الشرق الإفريقي يُسمّى هذا الوقت الساعة السابعة والربع ظهرًا، لأنّ اليوم هناك مقسّم إلى اثنتي عشرة ساعة ليلًا ومثلها نهارًا، وغالبًا ما يتساوى الليل والنهار، لوقوع المنطقة قرب خط الاستواء.

واليوم الجديد يبدأ فـي زنجبار مع بداية الليل لا فـي منتصفه كما هي طريقة الغرب فـي حساب الأيام التي قلدناهم - نحن العرب - فـيها، وكان العُمانيون الأوائل إذا ذكروا التوقيت يقولون: «الساعة الأولى من النهار»، أو «الساعة الثانية من الليل» وهكذا، ولم يكونوا يستعملون لفظ «الساعة الواحدة» مطلقًا، بل يقولون: «الساعة الأولى».

أخيرًا وطئت قدماي زنجبار بعد حُلم طويل تأجّل كثيرًا. كانت مشاعري حينئذ مختلطة بين الفرح لتحقق الحلم، والترقّب لما ينتظرني من مواقف أو مشاهدات. وقد بُحْتُ فـي مقال سابق بخواطر وتساؤلات راودتني فـي رحلتي الجوية التي استمرت خمس ساعات، والآن وقد هبطتُ من السماء إلى الأرض فإنّ خواطر وتساؤلات أخرى تعنّ فـي البال، وحب استطلاع شديد لكلِّ شيء.

تركتُ رفـيقَيْ سفري سيف وسليمان يتحدثان مع مرافقنا أحمد المزروعي، فـيما كنتُ ألقي نظرة أحاول أن تكون موضوعية على كلِّ شيء وأيِّ شيء، وأسعى من خلالها إلى حشو الذاكرة بأكبر قدر ممكن من المشاهدات لتغدو معينًا لي فـي مقبل الأيام، وفـي إطار السرد الذي ينبغي تقديمه لمن يسألني عن مشاهداتي فـي زنجبار وانطباعاتي عنها. نظراتي احتضنت فـي مودة البيوت والأشجار والشوارع والمطاعم وحركة الناس ولباسهم وطريقة كلامهم، وبنحو خاص - ولحاجة فـي نفس يعقوب - كنتُ أبحث عن العُمانيين فـي الأسواق والشوارع، حتى وصلنا إلى منطقة «فرضاني» وهي فـي الأصل (الفُرضة) حسب التسمية العُمانية للميناء الصغير، وأضيف إليها (ني) التي تعني (فـي)، وهكذا وصلنا إلى فندق (مزينجاني) الذي حجزه سيف قبل سفرنا. وكلمة (مزينجا) تعني باللغة السواحلية «المدفع»، وبالفعل هناك مدفعان صغيران على مدخل الفندق، كتأكيد على تطابق الاسم مع الواقع المُشاهَد، وبما أنه أضيفت كلمة (فـي) على (مزينجا) فالمعنى صار (فـي المدفع).

دخلنا بهو الفندق فإذا هو تحفة معمارية عُمانية من الطراز الرفـيع، يشعر المرء أنه فـي إحدى قلاع عُمان أو حصونها. وفـي تلك اللحظة دخل فـي روعي أنّ هذا القصر ربما هو المكان نفسه الذي قصده أبي - عليه رحمة الله - عندما دُعِيَ إلى الغداء فـي بيت الشيخ هاشل بن راشد المسكري المسمى «بيت المدفع»، وهذا يعني أنني أتلمس الآن خطى والدي على نحو صحيح، وأُكمل خريطة هجرته التي حملته قسرًا لا اختيارًا من عُمان إلى هذه الجزيرة الأسطورية، ليس وحده وإنما كلّ العُمانيين المهاجرين، هذا ما خطر لي فـي تلك اللحظة. وبما أنّ بيوت تلك المنطقة كلها كانت مملوكةً للعُمانيين، وبعضها تابع للحكومة، فقد صادرها الانقلابيون ظُلمًا ولم يسمحوا بمجرد ذكر أصحابها الأصليين؛ لذا فإنّ رحيل أصحاب البيوت وأبنائهم مع عدم توثيق أسمائهم يُعرِّض أصحاب هذه البيوت للنسيان، وعندما سألْنا أحدَهم عن البيت قال: «لا تسألني عن التاريخ»، وكان يقصد فـي الواقع: «لا تنكأ الجراحات القديمة»، ولكن أحد الشباب العاملين فـي الفندق من ذوي الأصل العُماني أخبرنا أنّ البيت يعود للحكومة السلطانية، وكان يُستخدم بيتًا للضيافة فصادَرتْه حكومة الانقلاب، ثم باعته لأحد المستثمرين الذي رممه وأضاف له ركنًا جديدًا، وهو ما أجاب عن تساؤلاتي حين شاهدتُ البيت للوهلة الأولى: هل يمكن أن يكون هذا القصر بفخامته وغرفه الكثيرة مُلكًا لشخص واحد؟ ماذا تراه يفعل بكلِّ تلك الغرف؟! ومع ذلك تواصلتُ مع الشيخ سيف بن هاشل المسكري وسألتُه هل هذا هو «بيت المدفع»؟ فأكد لي أنّ البيت كان للضيافة، وأنّ «بيت المدفع» يقع فـي منطقة أخرى اسمها (مكونازيني) وهو حاليًّا وقفٌ فـي سبيل الله مثل كثير من بيوت العُمانيين فـي زنجبار وممتلكاتهم ومساجدهم. إذن فقد فاتني أن أرى البيت الذي انطلقت منه تلك المقالات الاستنهاضية التي كان الشيخ هاشل بن راشد المسكري يكتبها فـي «الفلق»، وفاتني أن أعيش تلك اللحظات التي دعا فـيها الشيخ هاشل أبي للغداء، ولا أدري كيف كان شعور والدي وهو الفقير المعدم القادم من عُمان عندما يدعوه أحد الأكابر للغداء فـي بيته، ولا كيف تقبّل الشيخ هاشل هدية أبي المتواضعة وهي قلم رخيص كما أشرتُ سابقًا. رحل أبي ولم يُضف لي جديدًا أعرفه، وها أنا أقف الآن على الأرض ذاتها التي صال والدي فـيها وجال مع عُمانيين كثر، وعلى مرمى حجر فقط من البيت الذي دخله بدعوة كريمة من الشيخ هاشل.

على كلّ حال؛ فإنّ مبنى الفندق التقليدي جميل بديكوراته وأبوابه الخشبية. وفـي السقف يمكن للرائي أن يُشاهد ألواح الخشب، وكذلك الأسرّة التي هي خشبية أيضًا وضخمة، ومحاطةٌ بناموسيات ضد البعوض الذي - ولله الحمد - لم يصادفنا لأنّ زيارتنا حدثتْ فـي صيف زنجبار.

قال لنا مرشدنا: «إنّ برنامج اليوم سيكون جولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، وبرنامجُنا الفعلي سيبدأ منذ صباح الغد، حيث سيرافقنا مرشد ملم بالتاريخ، وسيأخذكم فـي جولة ويشرح لكم كلّ شيء».

نظرتُ إلى المرشد بامتنان، وأنا أتحرّق شوقًا لهذه الجولة فـي المدينة الحجرية وفرضاني، التي سأتحدّث عنها فـي مقال الأسبوع المقبل.

المصدر: لجريدة عمان

كلمات دلالية: ع مانیین

إقرأ أيضاً:

الحلي والقلائد النسائية القديمة.. مهارة ودقة حرفية لإنتاج تحف فنية

تعكس الحلي القديمة في نجران غنى التراث الثقافي والتاريخي بالمنطقة، بتصاميمها ونقوشها الفريدة، وزخارفها الفنية المتناهية الدقة، واستخدامها للمواد التقليدية مثل الفضة والذهب، والخرز الملون والأحجار الكريمة، في رمزية للجمال والأناقة للمرأة، وتظْهر مهارات الحرفيين المحليين الذين يواصلون الحفاظ على هذه الحرفة التقليدية.
وتتميز الحلي والقلائد النسائية القديمة بنجران بجمال صناعتها من حيث الدقة والمتانة وجمال الزخرفة والتصميم، ومعظمها على شكل مسطحات واسطوانات وحلقات مكسوة جميعها بتقسيمات بديعة من الزخرفة، إذ يشكل منها الصانع خطوطًا ومنحنيات ودوائر وأشكال، تتسم بالمهارة الفائقة في تشكيلاتها الدقيقة رغم صناعتها اليدوية.
أخبار متعلقة نجران.. زراعة الصندل والعود يرفع الاقتصاد المحلي وينوع مصادر الدخلبالتفاصيل.. اكتشاف مناخي يوضح ملامح البيئة القديمة في أراضي المملكةنجران.. قصر العان التاريخي يجذب الزوار خلال أيام عيد الفطر .article-img-ratio{ display:block;padding-bottom: 67%;position:relative; overflow: hidden;height:0px; } .article-img-ratio img{ object-fit: contain; object-position: center; position: absolute; height: 100% !important;padding:0px; margin: auto; width: 100%; } الحلي والقلائد النسائية القديمة.. مهارة ودقة حرفية لإنتاج تحف فنيةدقة ومهارةوالحرفيون في نجران يصنعون الحلي التي تلبسها المرأة مثل الأقراط أو ما يعرف محليًا بـ "الخروص" وتلبس في الأذن، و"الحروز" حلي تلبس في الرقبة، و"البنجرة" حلي يلبس في اليد، و"الحلقة" توضع على الرأس، و"اللازم والشميليات" حلية عريضة تلبس في اليد، و"المرداع" خاتم، إضافة إلى صناعة الحلي التي تزين بها الجنابي والخناجر مثل "الحنيشأ" و"الرزة"، و "القبب"، و "الربعيات".
وبجانب الحلي الذهبية والفضة المصنوعة بدقة ومهارة، تلبس النساء قديمًا بعض القلائد المصنوعة من حبات الكهرمان والخرز، وهي كلها على شكل أفرع تلبسها المرأة حول رقبتها مثل "المعانية"، و"الصمت".

مقالات مشابهة

  • حلم الثراء السريع.. حبس عصابة الحفر والتنقيب عن الآثار بمصر القديمة
  • درميش: على “المركزي” سحب الإصدارات القديمة من فئات 10 دينار و 5 ومادونهما
  • تشريعة النواب تناقش طلب برلماني بشأن ميكنة الدفاتر القديمة بالشهر العقارى
  • وقفة.. حكومة إسرائيل الحالية قد نسترجع معها المطالب القديمة
  • مئات المستوطنين يقتحمون باحات الأقصى والاحتلال يحول البلدة القديمة إلى ثكنة
  • اعترافات المتهمين بالتنقيب عن الآثار داخل عقار فى منطقة مصر القديمة
  • الحلي والقلائد النسائية القديمة.. مهارة ودقة حرفية لإنتاج تحف فنية
  • حلم الثراء السريع.. القبض على المتهمين بالتنقيب عن الآثار بمصر القديمة
  • حفرة 9 أمتار.. القبض على 3 أشخاص ينقبون عن الآثار بعقار في مصر القديمة
  • عمق 9 متر..سقوط تشكيل عصابى بتهمة التنقيب عن الآثار بمصر القديمة