تهافت مفكري العرب
لماذا هذا التحوّل المذهل في مواقف هؤلاء (المفكرين) عن قيم السياسة، كما سبق وأن أوصلوها للعقل العربي؟
هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة في المنطقة ومن الطبيعي أن يدافعوا عن امتيازاتهم وأوضاعهم الجديدة.
الغريب أن ينعزل هؤلاء عن كامل هموم وأوجاع شعوبهم، ولا يكتفون بذلك، بل يصرون على نكأ جرح الشعوب بمنطق أقرب إلى الشماتة والتشفي.
ماذا فعلت الأنظمة العربية في إدارة الأزمات، التي باعتراف نخب الثقافة العربية (قبل الردة) أنها هي التي صنعتها عبر سياساتها غير المتلائمة مع السياسة؟
إن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على علوم السياسة والاجتماع بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها.
يمارس هؤلاء البلطجة المعرفية بلبوس رغائبي عاطفي تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة وتحليلهم لأسباب إعاقة تطور المجتمعات العربية.
هدف هذه النخبة تحقيق مكانة علمية ومعرفية، ولم تتوقع أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب.
* * *
تبدو محيّرة إلى أبعد حدود الظاهرة التي شهدتها السنوات الأخيرة في عوالم الفكر والثقافة والإعلام، والتي تتمثل بانحدار أكاديميين كانت لهم بصْمتهم في انفتاح الثقافة السياسية العربية على أحدث ما أنتجته مدارس السياسة في العالم، وما انطوت عليه من قيم عصرية في نظم الحكم والعلاقة بين الشعوب وحكامها.
بما تضمنه ذلك من نقد، وإن كان غير مباشر، لبنى الحكم في العالم العربي وأساليبها، بما في ذلك الفساد، في استمرار العطالة العربية وإضعاف الوحدة الوطنية وتدمير كل فرص التطور.
المفارقة العجيبة، أن ذات النخبة التي كتبت وترجمت ونقلت، والتي كان لها دور في صناعة توجهات جزء كبير من الشباب العربي، الرافضة للاستبداد والمطالبة بالتغيير، قد جرى استخدامها من قبل الثورات المضادة، لإعادة توجيه التفكير العربي ضد الثورات وقيمها.
وذلك بتحميل مرحلة الربيع العربي والفاعلين المؤثرين فيها، مسؤولية الأوضاع التي آلت إليها مرحلة التآمر على ثورات الربيع العربي، من فقر وفساد وانهيارات اقتصادية وارتفاع معدلات الجريمة وتهتك نسائج الوحدة الوطنية، دون ربط منطقي بين هذه النتائج والمعطيات المتوفرة.
يمارس هؤلاء نوعا من البلطجة المعرفية، بلبوس رغائبي عاطفي إلى أبعد الحدود، تخالف ما سبق أن تناولته أبحاثهم في السياسات العامة والمقارنة، وتحليلهم للأسباب التي تعوّق تطور المجتمعات العربية، عبر استخلاصهم للنظريات السياسية الحديثة وما أنتجته الأكاديميات الغربية من مناهج بحث متطورة قادرة على قراءة الواقع بفكر موضوعي علمي لا ينحاز سوى للحقائق.
تنتشر كتابات هؤلاء على طيف واسع من المنابر الإعلامية، من صحف ومواقع إلكترونية وحتى مراكز بحث ودراسات، وليس من الصعب اكتشاف وجود التطابق والتشابه بينها إلى حد بعيد، من خلال تهجمها على فواعل مرحلة الربيع العربي واتهام الخارج بالمؤامرة على الأنظمة العربية، وربط الحراكات العربية بمؤامرات خارجية، ونزع أي صفة وطنية عنها.
واللافت أن مستوى التحليل في هذه المخرجات "الإبداعية" وصل إلى حد التسطيح والسفه، في سبيل إثبات صحة المقولات والفرضيات التي يحاول هؤلاء ترويجها وحشرها عنوة في العقول العربية، الأمر الذي يدعو للتأسي على الحال الذي وصلت له هذه النخب.
من بديهيات علم السياسة أن نخب الحكم، بالدرجة الأساسية، هي المسؤولة عن إدارة الأزمات التي تتعرض لها البلاد، وتصبح هذه المسؤولية أكبر في بلاد تتفرد بها فئة معينة في إدارة الحكم، حيث تكون نسبة مشاركة المجتمع المدني والقوى السياسية والأحزاب والنقابات في صناعة القرار متدنية إلى أبعد الحدود، أو غير موجودة في الأصل.
وبالتالي فإن مخرجات إدارة الأزمة تقع على مسؤولية هذه النخب، من خلال تبنيها للخيارات المناسبة لإدارة الأزمة والتي قد تشتمل على تقديم تنازلات معينة للمجتمع، يمكن من خلالها إعادة المجتمع إلى حالة الاستقرار.
وفي هذه الحالة تتبع الأنظمة السياسية الحاكمة ما يسمى بسياسة "إدارة التوازنات" بين الدولة والمجتمع؛ حتى لا يتزعزع الاستقرار وتسقط هيبة الدولة أو يُصار إلى سحق المجتمع ودفعه عنوة إلى السلبية واللا فعالية، وهي نتيجة كارثية على مستقبل العلاقة بين الشعب والسلطة.
ماذا فعلت الأنظمة العربية في إدارتها للأزمات، التي باعتراف نخب الثقافة العربية (قبل أن ترتد على أفكارها) أنها هي التي صنعتها عبر سياساتها غير المتلائمة مع السياسة؟
اتبعت خيارا وحيدا وهو خيار القمع، بدون أي مبرر منطقي، وأفقرت مؤسسات الدولة ودمرت النسائج المجتمعية وزجت بالملايين في السجون، وقتلت أعدادا يصعب إحصاؤها، ودفعت القوى الحية، وخاصة الشباب والمهنيين والأكاديميين، إلى الغرب بعيدا عن أوطانها.
ثم رسمت سياسات أقل ما يقال فيها إنها تؤبّد الأوضاع الكارثية في المجتمعات العربية، خاضت الأزمة بمنطق إما قاتل أو مقتول، إما أن أحكمكم أو أقتلكم، أو نحرق البلد ونقتل الولد، هذا جوهر إدارة الأزمة الذي ابتدعته الأنظمة العربية.
وبعد، هل يغيب هذا المشهد عن عقول مفكري الأزمة أثناء محاكمتهم لمخرجاتها وتداعياتها المهلكة، من الغريب أن من تخصص في "أنظمة الحكم" و"علم الاجتماع السياسي" و"فلسفة السياسة" و"السياسات المقارنة" أن يقرأ المشهد العربي بمنطق الاتهام والتخوين والاتكاء على نظرية المؤامرة؛ اتهام الشعوب بالمؤامرة على دولها وخيانة حاضرها ومستقبلها.
ومن الغريب أيضا أن ينعزل هؤلاء عن كامل هموم وأوجاع شعوبهم، ولا يكتفون بذلك، بل يصرون على نكأ جرح الشعوب بمنطق أقرب إلى الشماتة والتشفي.
السؤال الآن: لماذا هذا التحوّل المذهل في مواقف هؤلاء عن قيم السياسة، كما سبق وأن أوصلوها للعقل العربي؟ لا يوجد سوى إجابتين لهذا السؤال:
الجواب الأول، أن ما قدمه هؤلاء من أفكار وأنماط سياسية لم يكن الهدف منها الاطلاع على منتجات علوم السياسة والاجتماع العصرية وتشربها من قبل نظم الحكم والفاعلين السياسيين والاجتماعيين، بقدر ما كانت عملية استعراض معرفية لا هدف آخر لها، اُريدَ منها تحقيق مكانة علمية ومعرفية، وأن هؤلاء في الأغلب لم يتوقعوا أصلا أن الشعوب العربية قد تثور يوما للمطالبة بتغيير قيم السياسة وبنى الحكم وطبيعة العلاقات بين السلطة والشعب.
- السبب الثاني: أن هؤلاء باتوا جزءا من نسيج الأنظمة الحاكمة في المنطقة ومن الطبيعي أن يدافعوا عن امتيازاتهم وأوضاعهم الجديدة.
*غازي دحمان كاتب وباحث سياسي سوري
المصدر | عربي21المصدر: الخليج الجديد
كلمات دلالية: التغيير الفساد الفكر القمع تهافت المجتمعات العربية الربيع العربي الأنظمة العربیة
إقرأ أيضاً:
حملة تجسس سيبرانية جديدة تستهدف أنظمة Linux
كشفت شركة الأمن السيبراني ESET عن حملة تجسس سيبرانية تشنها مجموعة التهديدات المدعومة من الصين والمعروفة باسم Gelsemium، والتي تستهدف أنظمة Linux باستخدام أدوات تجسس جديدة.
وبحسب"therecord"، تعتبر هذه أول مرة تستهدف فيها المجموعة أنظمة Linux، بعد أن كانت تركز سابقًا على Windows منذ 2014.
لغرض استخباراتي.. هاكرز روس يستهدفون مئات الشخصيات الأمريكية المهمة هاكرز يعيدون 20 مليون دولار لمحفظة حكومية أمريكية بعد سرقتها بـ24 ساعة البرمجيات الضارة المستخدمةاستهدفت الحملة الجديدة، والتي يُعتقد أنها تركز على تايوان والفلبين وسنغافورة، ضحايا في شرق آسيا والشرق الأوسط.
استخدم القراصنة برمجيات خلفية (backdoors) تُعرف باسم WolfsBane وFireWood.
أوضح الباحثون أن WolfsBane هو النسخة المخصصة لنظام Linux من أداة التجسس الشهيرة Gelsevirine لنظام Windows، في حين أن FireWood تُشبه الأداة السابقة Project Wood.
تقنيات جديدة لاختراق أنظمة Linuxللحصول على الوصول الأولي، يُرجح أن القراصنة استغلوا ثغرة غير معروفة في تطبيق ويب، مما سمح لهم بالوصول إلى الأنظمة المستهدفة دون الكشف عن الهويات.
تركز هذه الأدوات على جمع بيانات حساسة، مثل معلومات النظام، وبيانات تسجيل الدخول، والملفات المحددة، مع تجنب اكتشاف الأنظمة الأمنية.
تحول في الاهتمام نحو أنظمة Linuxأشار الباحثون إلى أن هذا التحول نحو استهداف أنظمة Linux يأتي في ظل تعزيز حماية أنظمة Windows، مما دفع مجموعة Gelsemium والمجموعات الأخرى للبحث عن طرق جديدة لاستغلال الأنظمة المتصلة بالإنترنت، خاصة وأن معظمها يعتمد على Linux.
أهمية تحسين أمان أنظمة Linuxصرحت ESET أن تزايد هجمات البرمجيات الضارة على أنظمة Linux يعكس تفضيل القراصنة لهذه الأنظمة كأهداف جديدة، مما يبرز أهمية تعزيز إجراءات الأمن على هذه الأنظمة لتجنب التهديدات المتصاعدة.