موقع النيلين:
2025-03-14@02:50:36 GMT

البرهان: جدل الشرعية وغياب المشروع

تاريخ النشر: 10th, February 2025 GMT

بالأمس علم الإسلاميون أنهم خرجوا من شِعب أبي طالب. وأن وثيقة المقاطعة التي كانت بشأنهم – فلا يُجلَس إليهم ولا يُدعون لمنتدى – قد أكلتها الأرضة ولم تبق منها الا عبارة “باسمك اللهم”. وهكذا أنقضت مقاطعة السنوات الست؛ فعادوا لحضن هذا الشعب، بعضا منه في تواده وتراحمه وتعاطفه، إذا اشتكوا تداعى لهم البعض بالسهر والحمى.

فقد انبرى للدفاع عنهم – وقبل أن ينبسوا ببنت شفة – الدكتور مزمل أبو القاسم، والهندي عزالدين، وفوزي بشرى، وحسن إسماعيل، وسهير عبد الرحيم، وساندرا كدودة، وكثيرون من كبار رجال الإعلام ونسائه ممن ليست لهم بالإسلاميين صلة أو واشجة. لا شك أنه قد راع هؤلاء أنه فيما دعا الفريق عبد الفتاح البرهان رئيس مجلس السيادة – أمس 8 فبراير – من يقفون وراء المليشيا للمشاركة في التوافق المزعوم على تعيين رئيس الوزراء ان هم تخلوا عن دعم المليشيا، فإنه أعلن أن من يقفون وراء الجيش ليسوا بمدعوين للمشاركة، وأنّ لهم أن يضعوا السلاح إن شاءوا فينصرفوا غير مشكورين! وربما هالهم أن ذلك يقال والمشار إليهم لا يزالون مستغرقين في خوض معاركهم واجلاء جرحاهم ودفن شهداءهم، ولم يعربوا أصلا عن أي حرص على مشاركة في السلطة أو رغبة في شهود هذا التوافق المنتظر مع المُعرِّدين (وهي فصيحة) من مستشاري المليشيا، والآبقين من فُلك “قحت” و”تقدم” الغارق. وحق لهؤلاء الأخيار أن يُراعُوا من ذلك القول. غير أن ما راعني أنا ودفعني لكتابة هذا المقال هو خلو وِفاض البرهان من أي رؤية حول شرعية حكمه، ومن أي مشروع له. هذا بعد ست سنوات عجاف أمضاها في الحكم أكَلْن ما أحصَن الناس العمر كله. بل إلتماسه الشرعية والمشروع ممن كانوا حضورا في فندق كورال ببورتسودان، ومن يلحقون بهم ممن تلفظهم المليشيا و”تقدم”. وهالني أكثر أن البرهان لم يعتبر بمصارع القوم ممن تخلوا قبلا عن الإسلاميين عند منعطف اللوى فكان هلاكهم فيما التمسوا فيه النجاة. ونتناول فيما يلي تفاصيل ذلك.

نعم جاء البرهان الى الحكم قدرا مقدورا، وليس عن سابق تخطيط منه أو تدبير؛ فهو لم يجيء بانقلاب. وانما آلت اليه مقاليد الأمور بسبب التداعيات التي أعقبت الهبة الشعبية في أبريل 2019، أيا كان أسمها وكائناً من كان مسببها. والبرهان ليس أول من تجيء به الأقدار عفواً للحكم. فقد جاء قبله الفريق ابراهيم عبود على هذا النحو في نوفمبر 1958. وكذلك جاء المشير عبد الرحمن سوار الدهب في أبريل 1985. غير أن عبود جعل من القوات المسلحة أساس شرعيته، فلم يلتمس شرعية خارجها. وتبنى تنمية البلاد بعيدا عن المد الشيوعي الأحمر وجعل ذلك مشروعا لحكمه. فكان حكما عسكريا صرفا، ووطنيا مخلصا. ثم حين طالب المدنيون باسترداد الحكم، لم يتردد أو يوغل في الدماء وسلم الأمر لهم كما استلمه، دون إقصاء لأحد حتى الشيوعيين، وعاد لبيته معززا مكرما. وسوار الدهب أيضا جعل حكمه عسكريا. وجعل سنده في ذلك مبدأ الضرورة الذي تبلور حينها في القانون الدولي والدستوري، والذي يبيح للعسكريين الاستيلاء على مقاليد الأمور لأمد قصير معلوم إذا ما تأكد أن هناك ما يتهدد الاستقلال الوطني للبلاد أو سلامتها الإقليمية أو نظامها الدستوري أو ينذر بانفراط الأمن فيها وانهيار القانون. على أن يُقصى جميع المدنيين خلال فترة الضرورة – الا من يستعان بهم من أهل التخصص والخبرة – وأن يجتهد العسكريون للقضاء على دواعي الضرورة وإعادة الأمور لنصابها. فيسلموا الحكم للمدنيين بعد تلك الفترة في انتخابات مشهودة لا يقصى عنها أحد. ثم ينعقد بعدها الاختصاص للقضاء الدستوري لينظر فيما إذا كان العسكريون قد التزموا بالفعل حدود الضرورة، أو أنهم تجاوزوها سواء في الأمد الذي ضربوه أو الإجراءات التي أتخذوها. (وعلى من شاء التعمق في هذا من أهل الاختصاص أن ينظر في الحكم القضائي الذي أصدره رئيس القضاء الباكستاني س. أنور الحق عام 1977، عند تولي الجنرال ضياء الحق مقاليد الأمور في باكستان. ولينظر أيضا الأبحاث التي نشرت حينها حول هذا المبدأ بواسطة كبار فقهاء القانون الدستوري الدولي والمقارن من أمثال ديفيد دوزينهوس وجون يو). وهكذا فقد أمضى عبود في الحكم ست سنوات وأمضى سوار الدهب عاما واحدا. أما البرهان فالحال معه غير ذلك.
ابتداءً كان على البرهان أن يقوم بما قام به سوار الدهب من اتخاذ موقف صارم يمنع إشراك الأحزاب في الحكم او التشاور معهم حوله، وتحديد مدة زمنية لا تتعدى العام (أو العامين إن اقتضت ذلك الضرورة القصوى) لتسليم المدنيين السلطة في انتخابات. وكان له أن يتخذ الترتيبات المعقولة لإنفاذ القانون وفقا لما تقتضيه الضرورة، ثم اجراء الانتخابات بحرية ونزاهة وهو مدرك أن كل ترتيباته تلك ستكون معروضة يوما أمام القضاء الدستوري حين ينعقد له الاختصاص لاحقا. غير أن البرهان لم يتخذ ذلك المنحى وانساق وراء اهواء المدنيين الطامعين في تطويل أمد الفترة الانتقالية، فأتاح ذلك الفرصة للأجنبي للتغول وفرض خياراته والسعي لتحقيق مصالحه. فكان استئساد المبعوث الأممي فولكر بيرتس، وتنمر دولة الامارات، واستذئاب الشياه من دول الجوار الأفريقي.

واتيحت للبرهان فرصة ثانية بعد حركته التصحيحية في 25 أكتوبر 2021. وكان بوسعه عندها أن يعيد الأمور الى نصابها ويجعل الأمر كله للقوات المسلحة دون أن يشرك معها أحد ويحدد لذلك أجلا مضروبا، عاما واحدا، تجري بعده الانتخابات التي لا تستثنى منها أي قوة مدنية. غير أنه أدخل البلاد للمرة الثانية في نفق المساومات التي قادت للاتفاق الإطاري الذي أبرمته معه “قحت” في 2022، فأضاع الفرصة الثانية. بل أتاح ذلك التطويل الفرصة للمليشيا المتمردة لتضاعف عددها وعتادها اضعافا مضاعفة فتشعل هذه الحرب، التي دفع كلفتها الباهظة كل فرد واحتملتها كل دار.

الآن ستتاح للبرهان فرصة ثالثة -بعد انتهاء الحرب – لوضع الأمور في نصابها القانوني وإدارة البلاد بحكومة عسكرية محضة لا يجوز إشراك أي مدني فيها. على أن يكون ذلك لفترة محدودة قصيرة، لا تعدو العام أو العامين، تسلم الأمور بعدها للحكم المدني عبر الانتخابات التي تجرى دون إقصاء أو استثناء. لكن البرهان لا يريد أن يستغل هذه الفرصة للعودة الى سواء السبيل، فها هو يعيد الكرة تارة أخرى. وليس ما قام به خطوة معزولة. إذ سرب الدبلوماسي الأمريكي واسع الاطلاع كاميرون هدسون أن دعوة البرهان البعض للقاء فندق كورال بورتسودان تجئ في إطار التمهيد لعودة بعض عناصر “قحت” للمشهد وإقصاء الإسلاميين بعد الحرب. فالبرهان يعمل لإدخال البلاد فيما سمي “فترة تأسيسية” قصيرة تعقبها فترة انتقالية مطولة لا يعلم أحد أمدها. ثم هو يبحث عن وثيقة دستورية جديدة – بعد أن استنفدت القديمة أجلها وانفض سامرها – لمنح حكمه مشروعية لم تتأت له. وهو يريد أن يعين رئيسا للوزراء بناء على توافق مع المدنيين الذين التقاهم ومن يلحق بهم من شراذم الهزيمة التي توشك أن تلحق بالمليشيا المتمردة. وهو لا يدرك أنه لا يمكنه أن يجعل حكمه حكما مدنيا بهذا الترقيع. وهو حين يبالغ في تشديد النكير على الإسلاميين دون مناسبة على نحو ما تم، فإنما ذلك ليسترضي القوى العالمية التي يطربها مثل هذا القول فتأذن له بالمضي قدما في مبتغاه. وهكذا يُمكّن البرهان من جديد للأجنبي بعد أن خرج من هذه البلاد بهزيمة المليشيا وخروج “تقدم”.

ومن عجب فإنه رغم حرص البرهان على الاستمرار في الحكم، فإنه يفوته أن مفارقة الإسلاميين قد أوردت من كانوا قبله المهالك. فالرئيس جعفر النميري كان قد تخلى عن الإسلاميين في فبراير 1985 وأعتقل مستشاره الدكتور حسن الترابي. كانت النتيجة أن تصاعدت الانتفاضة الشعبية ضده بسبب انضمام الإسلاميين لها. فسقط نظام حكمه بعد شهرين، في أبريل من ذلك العام. والرئيس البشير، والذي هو ابن الحركة الإسلامية، بدا له أن يعلن في فبراير 2019 الابتعاد عن رئاسة حزب المؤتمر الوطني وان يقف من كل الأحزاب على ذات المسافة. فكان أن أدى ذلك الى تزايد تأييد شباب الإسلاميين للحراك النشط حينها في الشارع، وقلل من مبالاة الكثيرين من كوادر الحزب والحركة بمصير نظام الإنقاذ. وقد عجل ذلك بسقوط الإنقاذ، أيضا بعد شهرين، في أبريل 2019. بل إن حميدتي حين رفض في أغسطس 2022 دعوة الإسلاميين له أن يقنع بموقع الرجل الثاني ولا يصادم الجيش او يتطلع لقيادة الدولة، وقع فريسة لمن جروه لهذه الحرب التي قضت عليه أولا، ثم على الدعم السريع. ليس هذا لأن الإسلاميين في السودان يملكون عصا موسى. وإنما لأنهم، ومنذ أمد، قوة سياسية لا يستهان بها، وقلما أبرم أمر دونها. فهم أصحاب وجود فاعل في كل مكان لا تكاد تجاريهم في ذلك أي قوة سياسية أخرى. هذه هي الحقيقة مجرده، ولا يغير منها انها لا تعجب البعض. فالشعب جله، الا من كانوا مع البرهان في فندق كورال، قريبون من الإسلاميين وتوجههم. والإسلاميون كلهم، الا القلة التي وقفت مع المليشيا و”تقدم”، يرون ما يراه الشعب ويرتضونه ولا يشذون عنه. هذه هي جِبلّتهم، وهي فكرتهم، وهو نهجهم. وهكذا فإن من يستعديهم، أو حتى يستهين بهم، فإنما يدق اسفينا بينه وبين قوة كبرى في هذه البلاد، وقد تكون القوة الأكبر. وإنما يخلق فجوة هائلة بينه وبين سواد الشعب السوداني. هذه هي عبرة التاريخ. فمن أخذ بها نجا. ومن أراد لي عنق الحقيقة واعتبر هذا بمثابة القول إن الإسلاميين هم الشعب وأن الشعب هو الإسلاميين، أو عده تهديدا ووعيدا، فهو وشأنه. ولله عاقبة الأمور.

الدكتور الدرديري محمد أحمد

إنضم لقناة النيلين على واتساب

المصدر: موقع النيلين

كلمات دلالية: فی الحکم فی أبریل غیر أن من کان

إقرأ أيضاً:

على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية (8 – 20)

 

على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية

(8 – 20)

“لن يستطيعَ أحدٌ أن يركبَ على ظهرِك، ما لم تَكنْ مُنحنياً”

مارتن لوثر كينج

النور حمد

مصر وثورة ديسمبر 2018

منذ أن فشلت خطة حكومة صدقي باشا، ومن بعده الرئيس جمال عبد الناصر في جعل الأحزاب الاتحادية السودانية وكيلاً لخدمة مصالح مصر في السودان، بسبب ثبوت ضعف قدراتها على أداء تلك المهمة، على الرغم من الولاء الشديد الذي ظلت تبديه لمصر، اتجهت الأنظمة المصرية إلى خطةٍ أخرى. تمثَّلت تلك الخطة في عرقلة الديمقراطية في السودان عن طريق صنع الانقلابات العسكرية، أو الإسراع في دعم التي لم تشارك في صنعها، والتسويق لقبولها في البلدان العربية. ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة حريصةً على الدوام على أن تكون الأنظمة في السودان أنظمةً عسكرية. لذلك، كان أفضل الخيارات للأنظمة المصرية المتعاقبة أن يحكم السودان جنرالٌ بيدٍ من حديد، ويكون في نفس الوقت معتمدًا عليها في الدعم السياسي والدبلوماسي ليصبح، من ثم، خاضعًا لإرادتها. وقد ظلت الأنظمة المصرية المتعاقبة تمارس في هذا المنحى مختلف صنوف الابتزاز للجنرالات الذين تعاقبوا على حكم البلاد. حدث هذا مع الفريق إبراهيم عبود، الذي أعانها في ترحيل أهالي حلفا وإغراق الأراضي السودانية، بكل ما حوت من مقدرَّات، لتتمكن مصر من إنشاء السد العالي. كما حدث مع الرئيس جعفر نميري الذي بدأ قوميًا عربيًّا وانتهى بإعلان نفسه خليفة للمسلمين في السودان في عام 1983. واستمر أيضًا نهج الهيمنة والتحكم من على بعد في فترة حكم الرئيس عمر البشير الذي بدأ عدوًا لمصر حين كان هو والدكتور حسن الترابي في مركب واحد. لكن ما لبث أن أبعد البشير الترابي عن السلطة في نهاية التسعينات من القرن الماضى وسار كسابقيه في طريق الخنوع للإرادة المصرية.

نزعة الترابي في تصدير الثورة إلى العالم الإسلامي، وأحلامه الشاطحة بخلق قوة إسلامية مناطحة للغرب، ورطت نظامه في أخطاء فادحة. هذه الأخطاء الفادحة إلى جانب استخفافه بالرئيس عمر البشير ومحاولة جعله مجرد دمية تجلس في الواجهة، باعدت بين الرجلين. الأمر الذي قاد إلى ما سُمي “المفاصلة” التي جرت في نهاية التسعينات من القرن الماضي. هذه الأخطاء وهذا التباعد بين الحليفين صب، في المحصلة النهائية، في مصلحة النظام المصري. من هذه الأخطاء الفادحة التي صبت في صالح مصر، محاولة اغتيال الرئيس المصري حسني مبارك في أديس أبابا في عام 1995، التي ثبت أن نظام البشير في السودان هو الذي دبرها. كما سبقت ذلك استضافة النظام السوداني للإرهابي أسامة بن لادن وأيضًا مشاركة النظام في تفجير السفارتين الأمريكيتين في شرق أفريقيا، وفي حادثة المدمرة كول على سواحل اليمن. كل هذه الأفعال التي أغضبت العالم وأزعجت الإقليم، منحت مصر فرصةً ذهبيةً لتنخرط في ترويض نظام الإسلامويين في السودان، عن طريق الضغوط. أصبحت مصر، داعمةً بالصوت العالي للعقوبات على السودان. وقد كسبت مصر من ذلك على صعيدين. الصعيد الأول: ترويض نظام الرئيس عمر البشير ووضعه تحت قبضتها. أما على الصعيد الآخر، تكبيل السودان من أن يصبح قوة اقتصادية لها قدرات صناعية، لأن تحول السودان إلى دولة تصنع منتجاتها يحرمها من واحد من أهم أهدافها وهو أن يبقى السودان مجرد مصدر تأخذ منه المواد الخام لتُصَنِّعَها هي وتصدرها نيابة عنه. وسنعرض إلى ذلك بتفصيل أكبر، في حلقةٍ قادمة. خلاصة القول، عبر تشديد العقوبات على نظامه وتزايد ضغوط العزلة عليه، أدرك الرئيس المخلوع عمر البشير أن مصر هي من يسمع منها المجتمعان؛ الدولي والإقليمي، فيما يتعلق بشؤون السودان. فانتقل من حالة العداء الأولى ونهج المصادمة ومحاولة الاستقلال بالقرار السياسي إلى حالة من الرضوخ والاستسلام التام.

مصر والفريق البرهان

أما السيطرة المصرية على مجريات الأمور في السودان، عبر حاكمٍ عسكريٍّ سوداني، التي ظهرت في فترة صعود الفريق عبد الفتاح البرهان إلى دست الحكم في السودان منذ 2019، فقد فاق كل ما حدث في السابق. فمنذ صعود البرهان إلى الحكم، كرئيسٍ لمجلس السيادة للفترة الانتقالية، وفقًا للوثيقة الدستورية، قام بإلقاء نفسه بالكلية في الحضن المصري. ويبدو أن البرهان قد عرف بالتجربة الطويلة، ومن كونه ضابطًا قياديًّا ضمن منظومة حكم الرئيس البشير، أن مصر تريد، على الدوام، حاكمًا عسكريًا للسودان وأنها لا تترد قط في دعمه. بعبارة أخرى، وقوع من يحكم السودان تحت سيطرتها يضمن له أطول مدةٍ للبقاء في السلطة. هنا، تطابقت رغبة مصر مع رغبة الفريق البرهان في تحقيق رؤيا أبيه بأنه سيكون حاكمًا على السودان. وهي رؤيا لم يجد الفريق البرهان بأسًا في أن يحكيها للناس في أول مقابلةٍ متلفزةٍ له مع قناةٍ فضائيةٍ دوليةٍ، بعد توليه رئاسة مجلس السيادة. أيضًا، عرف البرهان أن وجود الإسلاميين في صفه في اللحظة الراهنة، على أهميته بالنسبة له، سوف يقف، في لحظةٍ قادمةٍ ما، حائلاً بينه وبين تحقيق حلمه بالانفراد بالسلطة. وهو يعرف أصلاً أن مصر ستقبل مرحليًا دعم الإسلامويين له حتى تجتاز سيطرته على الأمور مرحلة الخطر، لكنها ستدفعه لاحقًا للتخلص منهم. كل هذه العوامل جعلت الفريق البرهان يختار إسناد ظهره بالكامل إلى مصر. باختصار شديد، وجد الفريق البرهان في مصر ضالته، ووجدت مصر فيه ضالتها. ومن هنا، بدأ تعاون مصر والبرهان للقضاء على الثورة السودانية، عبر مختلف التكتيكات.

تزايد التعاون الاستخباراتي

منذ أن اعتلى الفريق البرهان رئاسة مجلس السيادة، تكثفت زيارات اللواء عباس كامل، مدير المخابرات المصرية، المعلنة وغير المعلنة، إلى السودان. كما تكررت زيارات الفريق عبد الفتاح البرهان، المعلنة وغير المعلنة، ومعه فريق مخابراته إلى القاهرة. لم يكن يمضي شهر أو شهران، إلا وكان عباس كامل وفريقه الاستخباراتي في الخرطوم. لقد كان التنسيق بين المخابرات المصرية والفريق البرهان وأجهزته الأمنية من أجل إجهاض الثورة، واضحًا وضوح الشمس. وقد كانت هناك محطاتٌ بارزةٌ عكست ذلك التنسيق. ومن أغرب الأمور التي حدثت بعد الثورة، لجوء مدير جهاز المخابرات السودانية في فترة حكم البشير، صلاح قوش، إلى مصر. فرئيس جهاز المخابرات هو حامل أسرار الدولة، ولا ينبغي أن يصبح عقب تركه منصبه ضيفًا على دولة أخرى، بل، وبصفة لاجئ. خاصةً في حالة العلاقة بين مصر والسودان التي تحكمها الأطماع وتديرها مصر على أساسٍ أمني واستخباراتي بحت.

هذا التهاون الأمني السوداني الذي خلقه نظام الفريق البشير، حدث في سابقةٍ أخرى، لا تقل غرابة. فمدير مكاتب الرئيس المخلوع عمر البشير، طه عثمان الحسين، الذي قام البشير بطرده من منصبه، التقطته المملكة العربية السعودية عقب طرده مباشرةً وعينته مستشارًا لديها للشؤون الإفريقية. أيضًا، لجأ إلى مصر واحدٌ من أكبر رموز نظام البشير وهو والي البحر الأحمر السابق، محمد طاهر آيلا. أقام آيلا في مصر لمدة ثلاث سنوات عقب قيام الثورة وعاد بعد انقلاب البرهان في أكتوبر 2021، ليجري استقباله في بورتسودان بصورةٍ رسمية، رغم أنه كان من المطلوبين للعدالة الذين هربوا في بدايات الثورة. وقد وصل آيلا إلى بورتسودان في وقت اكتملت فيها حلقات مؤامرة خنق حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك، خاصة عقب إغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين الميناء وبقية البلاد. لذلك، كان واضحًا لمن يتابعون تصاعد تضييق الخناق على الثورة، آنذاك، أن مطبخًا للتآمر على الثورة السودانية ظل يقوم بمهمته من القاهرة، بالتنسيق مع الفرق البرهان وقوى الثورة المضادة في الداخل السوداني.

مصر ومجزرة فض الاعتصام

كان أول تحدي للبرهان ولمصر، الاعتصام الضخم الذي أقامه الثوار على مدى أربعة أشهر أمام مبنى القيادة العامة للقوات المسلحة في الخرطوم. ورغم تصريحات القادة العسكريين بأن الاعتصام لن يجري فضه، شرعت القوى الأمنية في شيطنة الاعتصام بإدخال المخدرات والمتعاطين إليه عبر عناصرها. كما أدخلت فتياتٍ وشبانٍ مكلفين بالقيام بأفعالٍ مخلة بالآداب وتصويرها ونشرها لتستخدمها غرف الثورة المضادة الإلكترونية في تشويه صور الاعتصام والمعتصمين أمام الرأي العام. وبعد واحدةٍ من زيارات البرهان إلى القاهرة وعودته إلى الخرطوم حدثت مجزرة فض اعتصام القيادة العامة في 3 يونيو 2019. وقد كانت استنساخًا لتجربة مجزرة فض اعتصام رابعة العدوية في القاهرة بواسطة قوات الأمن المصرية.

لم يقض فض الاعتصام على جذوة الثورة كما كان منتظرًا منه. وظهرت الثورة أكثر قوةً وزَخْمًا في التظاهرات التي ملأت شوارع الخرطوم، في 30 يونيو 2019. أحنى البرهان وعسكريوه رؤوسهم، مؤقتًا، لتلك العاصفة. وتوصل الحوار بين قوى الحرية والتغيير إلى إنتاج الوثيقة الدستورية التي بموجبها تشكل مجلس السيادة وتشكلت الحكومة الانتقالية التي ترأسها الدكتور عبد الله حمدوك. لكن التكتيكات للقضاء على الثورة، لم تتوقف قط. فقد تضافرت جهود الفريق البرهان، والعسكريين في مجلس السيادة، وحزب الرئيس البشير المحلول، المؤتمر الوطني، الذي ظل رغم حله ممسكًا بكل مفاصل الحكم، في وضع العراقيل أمام حكومة حمدوك. وكان الهدف من ذلك، أن يفقد الشعب الثقة في كفاءتها، ويتهيأ الرأي العام من ثم للإطاحة بها.

تجفيف السوق وخلق الضوائق

كان أول ما بدأ به الفريق البرهان وقوى النظام القديم في هذا المخطط، هو تجفيف السوق من السلع الضرورية. فشرعوا في خلق الاختناقات في الوقود؛ من بنزين وجازولين وغاز طهي. كما خلقوا، أيضًا، أزمةً في دقيق الخبز، بل وفي إمدادت الكهرباء والمياه. إلى جانب ذلك، أشعلت الأجهزة الأمنية اضطراباتٍ عرقيةً داميةً في عددٍ من مدن السودان. كما عمدوا إلى خلق سيولةٍ أمنيةٍ غير مسبوقةٍ في العاصمة. وأصبحت ما تسمى عصابات “النيقرز” التي يشرف عليها جهاز الأمن، تنهب الناس في الشوارع، في وضح النهار، تحت التهديد بالسواطير والمُدَي، مع تقاعسٍ مُتَعَمَّدٍ من قِبَل قوات الشرطة عن التدخل. ثم أعقبوا ذلك بإغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين ميناء بوتسودان وبقية مدن البلاد، كما سبق أن ذكرنا. وتولى تلك المهمة الزعيم القبلي في شرق السودان، محمد الأمين تِرِك مستخدمًا أفراد قبيلته. والرجل أصلاً عضوٌ في المؤتمر الوطني، حزب الرئيس المخلوع عمر البشير الذي حكم البلاد لعقود. حدث هذا الإغلاق في سبتمبر 2021 واستمر لمدة شهر تقريبا. وبعد أن اكتمل الخنق وتأزمت الأوضاع المعيشية وجرى إظهار حكومة حمدوك بمظهر العاجز عن الحكم، وإظهار ضعفها عبر حملات إعلاميةٍ ضخمةٍ لبلبلة الرأي العام، نفَّذ الفريق البرهان انقلابه على الوثيقة الدستورية، وأطاح بحكومة عبد الله حمدوك في 25 أكتوبر 2021. حدث ذلك، أثناء فترة إغلاق محمد الأمين تِرِك للميناء وللطريق البري. وقد تغاضى الفريق البرهان وعسكريوه عن ذلك التعدي الخطِر الذي تمثل في إغلاق الميناء وقطع الطريق البري، فلم يقوموا بأي تدخل رغم خطر تلك التعديات الخطِرة على اقتصاد البلاد ومعاش الناس. وبالفعل، أحدث إغلاق الميناء والطريق البري أزمةً في دقيق القمح وفي نقل البضائع بين الميناء وبقية البلاد، كما ضاعف أسعار السلع، بصورةٍ كبيرةٍ جدا.

ميناء العين السخنة بدلا عن بورتسودان

منذ نوفمير 2020 أخذت المشاكل المفتعلة تحيط بميناء بورتسودان. وقد كان من الممكن حل تلك الإشكالات لولا أن تلك الإشكالات قد تُركت لتتفاقم عمدًا ويجرى، من ثم، توظيفها سياسيًا. أحدثت مشاكل الميناء تذمرًا كبيرًا في أوساط المصدِّرين والمتورِّدين . وبدأت تظهر أقتراحات بالتحول إلى ميناء مصوع على البحر الأحمر في دولة إريتريا. وهو ميناء يبعد حوالي 500 كيلو متر من وسط السودان. وقيل في تبرير التحول إليه أنه ميناء تعمل به 9 رافعات حديثة، في حين أن ميناء بورتسودان تعمل به 6 رافعات وهي رافعات كثيرة الأعطال. في نفس تلك الفترة، أعلنت جمهورية مصر العربية أنها قد رحبت بطلباتٍ تلقتها من شركات سودانية لفتح الموانئ المصرية لعمليات الإستيراد وتصدير المنتجات السودانية. (راجع صحيفة “الراكوبة” الإلكترونية على الرابط: https://shorturl.at/gw9ih ). ومن الغريب، أن تتلقى مصر الطلبات من الشركات السودانية لاستخدام ميناء العين السخنة الذي يبعد من الخرطوم في وسط السودان أكثر من 1600 كيلومترا، ومن مدينة نيالا في دارفور أكثر من 2500 كيلومترًا. ولا يكون الاختيار لميناء مصوع الذي يبعد 500 كيلو متر من مدينة القضارف في شرق السودان، وحوالي 1700 كيلومترا من نيالا في دارفور. كما أوردت صحيفة “العربي الجديد”، أن وزارة المالية المصرية قالت إنه تم التوافق مع الجانب السوداني على الإجراءات اللوجستية اللازمة لاستخدام الموانئ المصرية، خاصة ميناءي العين السخنة والسويس، في تصدير المنتجات السودانية واستيراد احتياجات السودان من العالم. (راجع: صحيفة “العربي الجديد”، على الرابط: https://shorturl.at/pNwK5).

الشاهد، عندما قام الزعيم القبلي محمد الأمين ترك بإغلاق الميناء والطريق البري الرابط بين الميناء وبقية البلاد في سبتمبر 2021، تحولت حركة الصادر والوارد إلى ميناء العين السخنة والسويس في مصر. وهو أمر صب في مصلحة مصر التي أصبحت المنفذ البحري الوحيد لحركة الصادر والوارد السودانية. قاد هذا التحول إلى زيادة تكاليف الشحن والنقل، وأدى، في نهاية الأمر، إلى ارتفاع السلع في السودان. فازداد بذلك الضغط على المواطنين الذين كانوا يعانون أصلاً من الضغود المفتعلة التي ظل الفريق البرهان وقوى النظام القديم يخلقونها لخدمة أهدافهم السياسية المتمثلة في القضاء على الثورة. حين اكتملت دائرة الضغوط على المواطنين على هذا النحو ووصل الخنق المتعمد للمواطنين ذروته، نفَّذ الفريق البرهان انقلابه في 25 أكتوبر2021 على الوثيقة الدستورية ليطيح بحكومة عبد الله حمدوك ولتتداعي الأمور، في نهاية تفاعلاتها، إلى هذه الحرب البشعة المدمرة التي تجري حاليًا.

(يتواصل)

الوسومالانعتاق البرهان النور حمد الهيمنة المصرية مصر

مقالات مشابهة

  • برج السرطان| حظك اليوم الجمعة 14 مارس 2025.. يوم مليء بالمشاكل
  • حاكم دارفور يدعو لحوار شامل بالسودان مع مراجعة تجربة الإسلاميين
  • حاج ماجد سوار يكتب؛ مراجعات الإسلاميين
  • المهندس سهيل السقا نقيب المقاولين في غزة لـ"البوابة": مصر تلعب الدور الأهم فى إنقاذ القطاع.. نقص المواد الخام وغياب التمويل أبرز عقبات إعادة الإعمار
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية «9 – 20»
  • رد الجميل بالإساءة!
  • على طريق الانعتاق من الهيمنة المصرية (9 – 20)
  • وزارة التعليم الأميركية تسرّح نصف موظفيها
  • علي جمعة: التكاليف الشرعية تهدف لتحقيق سعادة الإنسان في الدارين
  • على طريقِ الانعتاقِ من الهيمنةِ المصرية (8 – 20)