الحاضنة .. مُؤَشِّرُ قياسٍ للتأثير الاجتماعي
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
يظل الحديث عن الحاضنة الاجتماعية، حديث ذو شجون، ذلك أن الحاضنة تتقصى كل صغيرة وكبيرة في كل ما يشير إلى المجتمع بدلالاته السيكولوجية كمحدد للسلوك، والفسيولوجية كمحدد للتنوع؛ بدءا من الفرد في تفرده، مرورا بالمجموعات في تنوعات أشكالها وأحجامها؛ وصولا إلى التشكل النهائي للمجتمع بكل أطيافه وفئاته، وهي الصورة الختامية التي تظهر من خلالها الحاضنة الاجتماعية الكبرى، والحاضنة بهذا المعنى ينظر إليها بكثير من الأهمية، وهذه الأهمية هي التي تتقصد مجموعة التفاعلات التي تحدث بين مختلف المكونات للحاضنة، وتأثير إفرازات الحواضن الأخرى ذات السياقات المجتمعية المختلفة؛ وذلك حسب انتماءاتها الجغرافية، أو العرقية، أو الدينية، أو الثقافية، ولا تهمل أي شيء صغيرا كان أو كبيرا؛ نوعيا أو كميا، فما يقوم به الطفل في سنواته الأولى من ممارسات؛ يحظى بنفس الإهتمام بمجموعات المتغيرات التي يقوم بها الفرد في مستويات العمر المختلفة، لأن كل ذلك يعكس ما يدور بين زوايا الحاضنة من مستجدات، على خارطة العمل في الحاضنة الاجتماعية، ومن خلال هذا الرصد – سواء في مستواه الشعبي، أو الرسمي – يمكن للمتابع أن يتنبأ بما ستؤول إليه الأحوال بعد فترة من الزمن، لمآلات الأفراد الذي يعيشون في حاضنة اجتماعية ما.
ومما يستلزم الإشارة إليه أن ليس كل الحاضنات الاجتماعية تسير وفق نسق معين متساو ومتماثل، وذلك خاضع لمقومات كثيرة في داخل كل حاضنة على حدة، وفق البيئة التي تعيش فيها الحاضنة، فهناك بيئات نشطة؛ إلى درجة الإرتباك؛ خاصة تلك التي تعيش في ظروف غير طبيعية، وهناك بيئات خاملة إلى درجة الملل، وهناك بيئات متوسطة التفاعل، وفي كل هذه الحالات تلعب الحاضنة الاجتماعية أدوارا مهمة تعكس أو تقيس من خلالها المؤشرات التي يمكن أن توضع لها خطط، وبرامج معززة لأدوارها الإيجابية، أو منظمة تنظيما من شأنه أن يجفف منابع السلوكيات السلبية التي قد يتجه إليها بعض الأفراد في الحاضنة، ولذلك تحرص الأنظمة السياسية من خلال أجنداتها التنموية؛ على وجه الخصوص؛ على ملاء مجمل الفراغات التي قد يؤدي إهمالها إلى شيء من الخروج عن القانون، فيحدث إرباكا ديناميكيا لا ضرورة إليه في ظل توفر الإمكانيات للحد منه، أو تحييده عن النشأة أصلا؛ ومن هنا ينظر إلى مؤسسات المجتمع المدني "الحقيقية"بكثير من الإهتمام لدورها الكبير في الحد من تنامي الأفكار المربكة بين محيط الحاضنة الاجتماعية، مع العمل على تعزيز الدور الذي تقوم به هذه المؤسسات، ويأتي وصفها بـ "الحقيقية" لأن الكثير من مؤسسات المجتمع المدني التي ينشئها النظام السياسي ليست فاعلة، ولا هي ممتثلة لأنظمتها الأساسية، حيث تعاني من معضلة تجاذب المصالح الخاصة من قبل مجالس إدارتها، وبالتالي فهذا النوع من مؤسسات المجتمع المدني؛ تظل شكلية، وليست حقيقية، ومتى وصل ترديها إلى هذا المستوى من عدم الفاعلية، تكون في المقابل عبئا على الحاضنة الاجتماعية، لأنها تضخم حجم الحاضنة، ولا تؤدي دورا يعزز من المسؤوليات الجسيمة الموكولة على الحاضنة الاجتماعية. وهنا؛ لا زلت أستذكر هذا الدور الذي تلعبه الحاضنة على مستوى القرية التي كنا نعيش فيها، فمع بساطة الحياة، وقلة مصادر الدخل عند عامة الناس في زمن متقدم من عمر المجتمع العماني، إلا أن الشعور بالرضى والإطمئنان كان عاليا، وذلك لوجود كمٍ نوعي، وكمٍ من التعاون بين أفراد المجتمع القروي الصغير؛ قياسا بأحجامه الحالية، وهذا التعاون الـ "مثالي" يكمن في كثير من التفاعل القائم بين أفراد الحاضنة الاجتماعية في القرية، وكأن الفرد في القرية يعيش في وسط لا ينقصه شيء على الإطلاق، إلى درجة أنه لو وجد أحد الجيران في سوق القرية سلعة نادرة للبيع لن يشتري لنفسه إن كان غير قادر على الشراء لجيرانه، فهذا الشعور المعنوي الرفيع، ما كان له أن يكون لو أن مواثيق الحاضنة الاجتماعية غير سميكة وقوية، وأن إحساس الفرد بأهميتها غير طاغ على ذاته المستحضرة لأهمية الحاضنة التي يرتبط من خلالها مع كل أبناء القرية بلا استثناء، مع أنني أجزم أن لا فهم معرفيا محددا بأن ما يقوم به الفرد من أعمال تعاونية، وتكافلية، وتكاملية، ينطلق من فهم حاضر يستشعر أهمية الحاضنة الاجتماعية كمفهوم معرفي، إطلاقا؛ وإنما هو من وحي المسؤولية الذاتية تجاه جيرانه وأقربائه، وأن القرية هي بيت واحد لجميع أبناء القرية، وبهذا المعنى يمكن القول: أن الحاضنة الاجتماعية تشكل وجداني يتأصل مع مرور الزمن أكثر وأكثر، كلما أبدع الفرد في مجتمعه من مجالات العطاء، والتضحية والفداء، والتعاون والتكامل مع الآخرين من حوله.
يقاس مستوى التأثير الذي تحدثه الحاضنة بالمستوى الكمي والنوعي للمجموعات التي تضمها الحاضنة، ولذلك فالحاضنة الاجتماعية في المدن؛ غيرها في القرى؛ وإن حملت نفس التعريف العلمي للحاضنة، إلا أن تأثيراتها على أرض الواقع يختلف بقياس المستوى الذي تمثله، وهذا الفهم لا يتقاطع كثيرا مع مفهوم القبائل التي يصل أعداد المنتمين إليها لدى البعض منها؛ بمئات الآلاف من الأفرد، ولكن الفرق يكمن هنا في أن القبيلة الكثيرة العدد لا يمكن أن يطلق عليها حاضنة اجتماعية بالمطلق، ذلك لأن أفراد القبيلة لن يحتويها إطار محدد في بقعة جغرافية معينة، وإن كان لمنبع القبيلة مكان محدد ومعروف، أما بقية أفرادها فهم متوزعون، ومتداخلون مع قبائل أخرى بحكم النسب والتزويج، ولذلك فالوطن الواحد لا يمكن أن تكون فيه حواضن اجتماعية متعددة، وإنما حاضنة اجتماعية واحدة، والأنظمة السياسية؛ أصلا؛ لا تسمح أن تكون هناك حواضن اجتماعية متعددة، نعم؛ قد تكون هناك حواضن ذات بعد تخصصي؛ مثل: الحاضنة الثقافية؛ الحاضنة السياسية؛ الحاضنة الاقتصادية، وهذه كلها تنضم تحت جناج الحاضنة الاجتماعية "الأم" والتي تعد من أكبر الحاضنات على الإطلاق، لأنها بما يشير إليها مسماها "الإجتماعية" فإنها يمكن أن تستوعب كل الحاضنات الأخرى، حيث تتداخل "الثيمة" الاجتماعية في كل هذه الحاضنات، ومن هنا يأتي – على سبيل المثال - مسمى "المسؤولية الاجتماعية" لدى المؤسسات ذات الصبغة الاقتصادية، تسعى من خلالها المؤسسة الاقتصادية إلى ربط نفسها بالحاضنة الاجتماعية، حتى لا تكون منفصلة انفصالا منقطعا عن المجتمع، على اعتبار أن أفراد المجتمع هم من تسوق من خلالهم منتجاتها، وتضمن الشيء الكثير من الربح، ومن الاعتراف بأهميتها ووجودها بينهم، وتحدث المقاربة ذاتها فيما يخص توظيف الأخلاق الاجتماعية في بيئات العمل، حيث تحل الكثير من الجوانب الإنسانية في مسائل التوظيف؛ التكريم، العقاب؛ بمعنى أن في كل هذه التموضعات لا يذهب صاحب القرار مباشرة إلى تطبيق نص قانون المؤسسة، على هذه الجوانب، ولا يلجأ إلى القانون إلا في حدود ضيقة، حيث يحل العرف الاجتماعي قبل كل شيء، والعرف واحد من مفرزات الحاضنة الاجتماعية، مع أن الإجراء وفق العرف الاجتماعي فيه الكثير من التداعيات السلبية على بيئة العمل، ومع ذلك يؤخذ به أكثر، وذلك لاستجلاب مكاسب إنسانية كثيرة؛ وفق تصور المسؤول؛ على اعتبار أن الجميع أسرة واحدة في ذات المؤسسة، وأن المؤسسة لحالها ينظر إليها على أنها حاضنة اجتماعية مصغرة مؤقتة؛ منبثقة من الحاضنة الكبرى للمجتمع، ولذلك يأتي إجراء "التوفيق والمصالحة" بين المتخاصمين امتداد للثيمة الاجتماعية للحاضنة الكبرى، ومع أنه إجراء تتداخل فيه الصفة الرسمية والشعبية على حد سواء، ولكن تبقى هويته اجتماعية؛ حيث تعود به الممارسة إلى الحاضنة الاجتماعية عندما كانت السبلة العامة للقرية تعج بالحاضرين من مختلف الأعمار، وتتدارس فيها المعارف والقيم والأخلاق والآداب، وتعرض فيها القضايا، وتطرح فيها الحلول، وتتخذ فيها القرارات، وتبحث فيها الخطط والمشروعات، وتحل فيها المعضلات، وتحسم فيها النزاعات، يحدث كل ذلك في عبر صورة أفقية واضحة المعالم، لا تدليس فيها، ولا لف أو دوران، ويحدث ذلك قبل أن تتخذ مختلف هذه الممارسات بعدا رسميا، ينقلها من حالة التوافق، إلى حالة الإلتزام والإلزام.
المصدر: لجريدة عمان
كلمات دلالية: الحاضنة الاجتماعیة الاجتماعیة فی من خلالها الکثیر من الفرد فی یمکن أن
إقرأ أيضاً:
عادل حمودة: الحكومات الأجنبية تستخدم شركات الضغط للتأثير على السياسة الأمريكية
قال الإعلامي عادل حمودة، إن الحكومات والكيانات الأجنبية تستخدم شركات الضغط للتأثير على السياسة الأمريكية، ففي عام 2020 انفقت الحكومات الأجنبية أكثر من 250 مليون دولار للضغط على صانعي السياسة الأمريكية موضحا أن الكثير من الدراسات أظهرت فعالية جماعات الضغط في الحصول على التشريعات المطلوبة.
وأضاف حمودة، خلال تقديمه لبرنامج «واجه الحقيقة»، المذاع على فضائية «القاهرة الإخبارية»، أن هناك دراسة صدرت عام 2018 نشرتها المجلة الفصلية للعلوم السياسية، وهذه الدراسة بتؤكد ان ممارسة الضغط تزيد من احتمالية تغيير السياسة بنسبة 30% وكثير من المشرعين والمسؤولين الحكوميين السابقين بينتقلوا إلى مناصب في شركات الضغط بعد ترك الخدمة الحكومية.
أوضح أن في عام 2020 انضم حوالي 2500 مشرع ومسؤول سابق الي شركات لضغط واستمروا في التأثير على السياسات بعد ترك مناصبهم باختصار جماعات الضغط او شبكات الضغط هي المصالح المالية التي تؤثر على السياسة الامريكية مقابل المال تشتري السياسة بالفلوس.