على الغرب أن يرفع عقوبات سوريا الآن
تاريخ النشر: 9th, February 2025 GMT
ترجمة: أحمد شافعي -
لم تحظ خطط البنتاجون غير المعلنة مسبقا بسحب القوات الأمريكية البالغ عددها ألفي فردا من شرقي سوريا إلا باهتمام ضئيل الأسبوع الماضي، بعد أن طغى عليها عرض البانتومايم السريالي الذي قام به دونالد ترامب بشأن غزة. ومن المعروف أن هذه القوات الأمريكية تساعد القوات الكردية السورية في احتواء بقايا الخطر الذي يمثله الجهاديون التابعون للدولة الإسلامية المعتقل منهم تسعة آلاف فرد في معسكرات اعتقال.
يمثل الانسحاب الأمريكي المقترح قطعة واحدة من قطع أحجية الصورة السورية المعقدة التي تتحدى الأصدقاء والخصوم على السواء في أعقاب ما جرى في ديسمبر من إطاحة بدكتاتورية بشار الأسد. خلافا لترامب، تريد تركيا والمملكة العربية السعودية ودول الخليج ـ المتنافسة جميعا على النفوذ ـ زيادة انخراطها في سوريا وليس تقليله. وتريد أوروبا دولة ديمقراطية مستقرة يمكن أن يرجع إليها اللاجئون آمنين. ولا ترى إسرائيل ـ التي تعاني من جنون عظمة عدواني ـ إلا أخطارا محتملة، في حين تسعى روسيا وإيران المهزومتان إلى استعادة موطئ قدم.
ووسط كل ذلك ثمة أحمد الشرع، مقاتل القاعدة السابق وزعيم هيئة تحرير الشام الإسلامية التي أطاحت بالأسد، والمعين حديثا رئيسا مؤقتا لسوريا. ويتوقف عليه ـ بدرجة غير مريحة ـ مستقبل هذا البلد المقسم الخرب. ومن حوله تعاد صياغة جغرافيا الشرق الأوسط السياسية وتوازن القوى على نحو جذري.
وثمة سؤال واحد يهيمن الآن. لقد كان سقوط الأسد خبرا سعيدا في منطقة يعز فيها الأمل. فهل الفرصة التي تسنح بسبب هذه الثورة الشعبية معرضة الآن لخطر الزوال؟
في لقاءين مع الرئيس التركي رجب طيب أردوجان وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، قال الشرع إن أولوياته هي حماية سلامة الأراضي السورية، وتوحيد الفصائل المتنافسة في جيش وطني، وتكوين إدارة شاملة منتخبة، وإعادة البناء بعد ثلاثة عشر عاما من الحرب الأهلية. وهذه مهمة هائلة الضخامة، والشرع يفتقر إلى الخبرة. ويتشكك البعض في تخليه عن جذوره. غير أن مساعدته ـ في ظل غياب أي بدائل جيدة ـ مقامرة يجب أن يقبلها قادة المنطقة.
وإردوجان ـ الذي ساعد هيئة تحرير الشام في قاعدة إدلب ـ له أولوياته الأنانية. فهو يرجو أن يفرض نفوذا بعيد الأمد على ممتلكاته العثمانية السابقة. ويريد للملايين الثلاثة من النازحين السوريين إلى تركيا أن يرجعوا إلى وطنهم، فضلا عن عقود إعادة الإعمار المربحة. وفوق ذلك كله يريد إنهاء ما يراه خطرا إرهابيا كرديا.
ويأتي اقتراح الشرع بدمج المقاتلين الأكراد السوريين ـ المجتمعين في (القوات الديمقراطية السورية) المدعومة أمريكيا ـ في جيشه الوطني الجيد ملائما لتركيا. ولا يميز إردوجان بين (القوات الديمقراطية السورية) وحزب العمال الكردستاني المحظور الذي يخوض تمردا في جنوب شرق تركيا منذ ثمانينيات القرن الماضي. وتحتل قوات تركية مناطق من شمالي سوريا. وترعى أنقرة الجيش الوطني السوري ـ وهو عبارة عن ميلشيات عربية متفرقة تتصادم بين الحين والآخر مع (القوات الديمقراطية السورية).
تزعم تركيا أنها قادرة على قيادة القتال ضد الدولة الإسلامية، ولذلك فلا حاجة لمواصلة قوات أمريكية التعاون مع أكراد سوريا، وذلك طرح مشكوك فيه. ولكن هذا الغرور [التركي] يروق لترامب الذي سعى ولم ينجح في سحب القوات الأمريكية خلال ولايته الأولى. ويقول ترامب الآن ـ بقصر نظر ـ إن سوريا "ليست معركتنا". وصحيح أن قرار الولايات المتحدة بالتخلي عن حلفائها الأكراد يزيل مصدر إزعاج رئيسيا في العلاقات بين الولايات المتحدة وتركيا.
ولكن هناك عقبة ــ بل عدة عقبات في واقع الأمر. فأكراد سوريا يفضلون ـ على نحو مفهوم ـ الاحتفاظ بالحكم الذاتي الذي اكتسبوه بشق الأنفس في روج آفا. ولا يريدون استيعابهم في جيش تديره ميليشيات الشرع، التي كان بينهم وبينها قتال ذات يوم. وليست لهم أي مصلحة في مساعدة تركيا على سحق الحلم البعيد العزيز القديم بتقرير المصير الوطني في المناطق ذات الأغلبية الكردية في سوريا والعراق وإيران وتركياـ حتى لو كان زعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان مستعدا للاستسلام كما تردد.
مرة أخرى، تواجه القضية الكردية نقطة تحول ــ وتخاطر بتصادم مع دمشق وأنقرة في آن واحد.
وقد يسعد لاعبون إقليميون آخرون برؤية الشرع فاشلا. فقد استغلت إسرائيل الفوضى المحيطة بسقوط الأسد في تدمير القوات المسلحة السورية. كما رسخت احتلالها لمرتفعات الجولان. وبرغم دعوات الشرع إلى التعايش السلمي، تظل إسرائيل مستريبة فيه بشدة وحليفه أردوجان الداعم لحماس الذي يعد خصما محتملا في المستقبل. والواقع أن سوريا، الضعيفة، وإن لم تكن فوضوية، تناسب أغراض إسرائيل.
ولا تزال روسيا وإيران، داعمتا الأسد السابقتان، كامنتين تتربصان. فبعد انسحابها في ديسمبر، تتحدث طهران عن إعادة بناء النفوذ عبر الباب الخلفي، باستخدام "خلايا المقاومة" والشبكات السرية. وفي الوقت نفسه، تتفاوض روسيا بلا خجل من أجل الاحتفاظ بقاعدتيها العسكريتين. وفي محادثات جرت الشهر الماضي مع الشرع، الذي أمضى فلاديمير بوتن عقدا من الزمان وهو يحاول قتله، قيل للدبلوماسيين الروس إن موسكو "يجب أن تعالج أخطاء الماضي". وطالب الشرع أيضا بإعادة الأسد من موسكو لمواجهة العدالة. لكنه كان حريصا على ألا يحرق جسوره مع روسيا. والواقع أن القوى الغربية تنبهت لذلك.
يواجه الشرع مشاكل أخرى لا حصر لها، منها كيفية المضي قدما في "الحوار الوطني" والتحرك نحو الانتخابات الموعودة، وضمان حماية حقوق الأقليات ضمانا فعليا، وإعادة بناء المؤسسات الوطنية في أرض ممزقة لا يسيطر على معظمها سيطرة ملموسة. وذلك بحق أمر شاق. ومهما يكن سجل الشرع السابق، فإنه والشعب السوري بحاجة إلى المساعدة في الوقت الحاضر، لأن تكلفة الفشل، إذا ما قيست بتجدد الفوضى وسوء التحالفات، قد تكون باهظة.
ولهذا السبب فإن مشكلة رئيسية أخرى ـ هي التأخر غير المبرر في رفع العقوبات الغربية المفروضة في عهد الأسد ـ تعد ضارة للغاية ومدمرة للذات. فعلى الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة، بل وأميركا في عهد ترامب، أن تتوقف عن المراوغة، وعن حساب المزايا، وأن تفتح بالكامل منافذ المساعدات المالية والتجارية والأمنية وإعادة الإعمار، بالتعاون مع الشركاء المحليين والدول العربية. فالفرصة نادرة لتحويل الأخبار الجيدة إلى قصة نجاح دائمة وخدمة للمصالح الغربية من خلال بناء سوريا صديقة ومزدهرة ومتسامحة وديمقراطية.
هي فرصة لا تتكرر إلا مرة في كل جيل. ولن تسنح مرة أخرى. ويمكن بسهولة أن تضيع.
• سيمون تيسدال معلق في الشؤون الخارجية بصحيفة أوبزرفر.
** عن ذي جارديان البريطانية
المصدر: لجريدة عمان
إقرأ أيضاً:
هل تورطت دول المنطقة أم وُرِّطَت؟
د. عبدالله باحجاج
القاعدة المعاصرة لكل دولة عربية أو خليجية تكمُن الآن في أنه يستوجب عليها تأسيس ثقتها بمستقبلها بمعزلٍ عن أي شريك أو حليف أجنبي، وأن أي تحالف أو تكتُّل ثنائي أو جماعي ينبغي ألا يأخذ صفة الحصرية في الاعتماد عليه، ولا يمكن الثقة فيه مهما كانت التفاهمات والعلاقات التاريخية العميقة، وأن تكون الحصرية داخلية بامتياز، وهذه القاعدة تُنضجها الآن كل التجارب التي تمر بها دول المنطقة دون استثناء، وهنا نستشهد بتجربتين وباختصار.
أولا: التجربة السورية:
اعتمدت سوريا في عهدي الأسد (الاب والابن) على القوى الأجنبية بصورة حصرية على حساب داخلها، وبالذات روسيا التي كان وقوفها إلى جانب نظام بشار الأسد في الثورة السورية منذ مهدها عام 2011، فوق التصوُّر ضد الثورة والمعارضين، بسبب أنها كانت تعتبر بقاء نظام الأسد مُتعلقًا ببقاء نفوذها في الشرق الأوسط، وذلك بهدف تحقيق مصالحها على المستوى الجيوسياسي، مُستفيدةً من موقع سوريا الاستراتيجي المُطِل على البحر الأبيض المتوسط. وحسب مركز جسُور الدراسات (مقره تركيا)، فقد بلغ عدد المواقع العسكرية للقوى الخارجية في سوريا حتى منتصف 2023، نحو 830 موقعًا عسكريًا، 105 منها مناطق تحت السيطرة الروسية، وتتوزع بين 20 قاعدة عسكرية و85 نقطة عسكرية.
ومع هذا كله، سمحت موسكو بسقوط نظام الأسد بصورة درامية لا تعكس تلكم الخلفيات، كما قَبِلَ الغرب والعرب -والخليج في مقدمتهم- بشخصية تأسست بثلاثة مُسمَّيات؛ أولا: رئيس هيئة تحرير الشام (الجهادية)، وثانيا: قائد المعارضة السورية، وثالثا: رئيس الجمهورية السورية العربية، وهو الرئيس أحمد الشرع المعروف باسم (أبو محمد الجولاني). وكفى بهذه التحولات الدراماتيكية في التجربة السورية دروسًا ذهبية للخليج، لفهم المُتغيِّر والثابت في شؤونها الداخلية وعلاقاتها الدولية. وهنا أيضًا راديكالية غربية/ أمريكية في الاعتراف بأي قوة تظهر فوق السطح، مهما كان تاريخها وأفكارها، إذا ما ضمنت مصالحها من خلالها. أمريكا، والغرب عامةً، يفكرون في مستقبل مصالحهم على المدى الطويل الأجل، وإذا ما وجدته في أي قوة داخلية صاعدة، فلن تتردد في مساعدته على النجاح، ومن ثم الاعتراف به. وهنا نتساءل: هل الخليج تورَّط أم وُرِّطَ -أو كلاهما- في التجربة السورية الجديدة؟
هنا ينبغي توضيح مبدأ واستثناؤه، والمبدأ يكمن في حق الشعب السوري الشقيق أن يكون له نظام عادل يحترم حقوق وحريات مواطنيه، ويؤمِّن لهم كرامتهم في العيش الكريم داخل وطنه، وهذا ما تتجه إليه الآن سوريا في عهدها الجديدة، فكل ما يصدر عن الإدارة السورية الحاكمة برئاسة الشرع (الجولاني) يسير باتجاهٍ مختلف عن نظيراتها العربية؛ فهو يسعى لتأسيس دولة المؤسسات والقانون واستقلالية القضاء وعدالته، ودولة التداول السلمي للسلطة. أما الاستثناء، فيكمُن في حالة الإلهام الذي تستقبله الجماعات الأيديولوجية في المنطقة من تجربة وصول الجماعة الأيديولوجية السورية للحكم، وقبلها حركة طالبان وجماعة أنصار الله (الحوثي) في اليمن.
هنا تجد دول المنطقة في تحديات غير مسبوقة؛ إذ من خلال هذه التحديات لا يُمكن أن تظل مُتمسِّكة بخياراتها السياسية والاقتصادية والمالية دون تحليل التجربة السورية الجديدة وانعكاساتها عليها؛ لأننا نعتبرها كصيرورة لن يقتصر تأثيرها على الجغرافيا السورية في حالة نجاحها، وإنما ستُغيِّر المفاهيم وتُعجِّل بنضوج القناعات الفكرية للديموغرافيات والقوى الفاعلة داخل المنطقة، ولعل أبرزها -كما أشرنا إليها في مقال سابق- نضوج "أسلمة" السُلطة السياسية كقائدة لتحقيق العدالة والتنمية وتوزيع الثروات بشفافية ورقابة المؤسسات.. إلخ.
ثانيًا: انقلاب الأمريكان والصهاينة على العرب: إذ كيف يُمكن وصف مقترح الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أثناء استلامه الحكم في بلاده بتهجير سكان قطاع غزة إلى مصر والأردن، وموقف الإرهابي مجرم الحرب نتنياهو من إقامة دولة فلسطينية على أراضي المملكة العربية السعودية كونها شاسعة، ردًا على موقفها المُتجدِّد من حتمية إقامة الدولة الفلسطينية، ورفضها تهجير سكان قطاع غزة خارجه؛ فالحليف الأمريكي ومن يدعمه، لا ضمانة ولا أمن ولا أمان لهم، بحكم نصوص دينية وتجارب تاريخية، وسنكتفي اختصارًا بالأولى كقوله تعالى: "وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا نَصِيرٍ" (البقرة: 120). والنص القرآني هنا واضح، وإسقاطاته المعاصرة في ضوء ما سبق ينبغي أن تكون واضحةً سياسيًا الآن، وإلّا فكيف يكون الحليف أو الشريك طامعًا في أراضي وثروات حليفه أو يضعُهم في موقفٍ مُلتبسٍ مع شعوبهم، هذا أقل ما يمكن وصفه على الأقل!
هنا نجد التساؤل يتكرر معنا مُجددًا: هل وُرِّطَت أم تورَّطَت الدول العربية في رهاناتها على الأمريكان ومن ورائهم الصهاينة؟ لأن أطماعهم فيها قد انكشفت الآن، وهنا ندعو دول المنطقة إلى تحليل التجربتين سالفتي الذكر، وأي تحليل سياسي موضوعي ستخرج منه الدول العربية بالنتائج التالية: ليس هناك من خيارٍ سوى إعادة النظر في خياراتها الداخلية الجديدة باتجاه تعزيز مفهوم الدولة الوطنية القوية الضامنة لحقوق وحريات شعوبها، خاصةً في مجال العيش الكريم بمؤسسات تُديرها سلطات واعية، ليس مهمتها صياغة استراتيجية ذكية واستصدار سياسات وقرارات من خارج الصندوق فحسب، وإنما الإجابة على تساؤل: ما نتائجها أو تداعياتها مسبقًا؟ ودون ذلك، فقد ترتد خيارتها على مفهوم الدولة الوطنية القوية دون العِلم المُسبق بالمآلات (نتائج وتداعيات)، ونُكرِّر في هذا السياق ما نُعلي من شأنه دائمًا، وهو من مُسلَّماتنا المطلقة، وهو أن التوترات والصراعات المقبلة لن تُطلق فيها رصاصة واحدة، وإنما ستقوم على تفكيك مناعة الدولة الأيديولوجية والاجتماعية والسياسية، مهما مارست الدول من سياسة تكميم الأفواه والضغوط القهرية على مجتمعاتها؛ بل سيكون ذلك من تداعيات التعجيل بانتصار الأعداء وكل مُستهدف للدول الآمنة والمطمئنة.
رابط مختصر